تحرير مسألة الأخذ بالقول الضعيف لمقتضى الضرورة
القول الضعيف أحد أقسام
القول المرجوح؛ ذلك أن المرجوح إما أن يكون من جهة ضعف دليله, وإما أن يكون من جهة
عدم القائل به, وهو الشاذ,
والدليل إما أن يكون صحيحا
في ذاته ضعيفا بالنظر إلى ما يعارضه, فهذا الضعيف النسبي, وإما أن يكون ضعيفا في
نفسه بمخالفته الإجماع, وقواعد الشريعة, والقياس الجلي والنص السالمين من المعارض؛
فهذا هو ضعيف المدرك.
فالإفتاء بالمرجوح إما:
1- بما ضعف دليله عند
الفقيه تضعيفا نسبيا, فهذا الأصل فيه أنه حرام؛ لأنه خيانة وغش, قال
ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 74): (ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه
بين يدي اللَّه سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في
تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب
على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنًا للَّه ورسوله وللسائل وغاشًا له، واللَّه
لا يهدي كيد الخائنين، وحرَّم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة،
والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد
[فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده)
2- بضعيف المدرك, فحرام
باتفاق؛ لأنه ليس من الشرع, قال القرافي في الفروق للقرافي (2/ 109): (كل شيء أفتى
فيه المجتهد فخرجت فتياه فيه على خلاف الإجماع أو القواعد أو النص أو القياس الجلي
السالم عن المعارض الراجح لا يجوز لمقلده أن ينقله للناس ولا يفتي به في دين الله تعالى,
فإن هذا الحكم لو حكم به حاكم لنقضناه, وما لا نقره شرعا بعد تقرره بحكم الحاكم أولى
أن لا نقره شرعا إذا لم يتأكد, وهذا لم يتأكد فلا نقره شرعا, والفتيا بغير شرع حرام
,فالفتيا بهذا الحكم حرام)
3-بالشاذ, فالشاذ إما أن
يكون مخالفا للإجماع فيكون من صور ضعيف المدرك, ويأخذ حكمه, وقال الشاطبي في الموافقات
(5/ 136): (زلة العالم لا يصح اعتمادها من جهة7 ولا الأخذ بها تقليدا له وذلك؛ لأنها
موضوعة على المخالفة للشرع، ولذلك عدت زلة، وإلا فلو كانت معتدا بها؛ لم يجعل لها هذه
الرتبة، ولا نسب إلى صاحبها الزلل فيها)
وإما أن يكون في مقابل
المشهور في مذهب ما, ولا يلزم أن يكون ضعيف المدرك أو حتى داخلا في أقسام المرجوح
في غير المذهب.
بقي أن نرجع إلى أصل
مسألتنا وهي: الإفتاء بالقول الضعيف لمقتضى الضرورة,
ونعني بالضرورة هنا ما
تبيح المحظور.
فالذي يستقيم وينسجم مع
أحكام الضرورة أن القول المرجوح من جهة ضعف دليله أو قلة القائلين به تنتفي عنه
صفة المرجوحية باعتبار أحكام الضرورة, فلا يصبح القول مرجوحا بل لا يلتفت إلى
القول من أصله وإنما يراعى في الحال أحكام الضرورات.
فمثلا: لا يقال: جواز أكل
لحكم الميتة مرجوح إلا أنه يؤخذ بالقول المرجوح ويعمل به فيمن شارف على الهلاك.
فحقيقة الأمر أن المفتي
يخرج من الأحكام الجزئية إلى الأحكام الكلية, ومن النظر الجزئي إلى النظر الكلي,
ولا مدخل هنا إلى مرجوحية الأقوال ورجحانها؛ لأن النظر إليها جزئي.
وبسبب هذا النظر الكلي
ينتقل من المعلوم من الدين بالضرورة تحريمه إلى الجواز, كما في أكل الميتة للمضطر؛
لكونه انتقل من مناط جزئي إلى مناط كلي, فالمناط الكلي يعطي لجزئياته أحكام تناسبه,
وهذا تجاوز لمسألة الإفتاء بالقول الضعيف.
هذا إذا نظرنا إلى المسألة
من جهة أنها ترجع إلى أحكام وجزئيات قاعدة الضرورات.
وإذا توسعنا قليلا ونظرنا
في تعليلات المجوزين وجدنا أن جماعة منهم يرون جواز الإفتاء بالضعيف لمقتضى دليل
آخر, فيدخل تحت باب الاستحسان, فيكونون قد عدلوا بالمسألة عن نظرائها لدليل, وبهذا
يخرج القول عن كونه ضعيفا ومرجوحا إلى كونه راجحا, فوصفه بالضعف باعتبار أصله في
المذهب لا بالنظر إليه بعد دلالة الدليل.
فمثلا: قال العلمي:
"ولم يزل أهل الفتوى والقضاء يختارون الفتوى بقول شاذ ويحكمون به لدليل ظهر
لهم في ترجيح...."
قال الشاطبي في الموافقات
(5/ 190): ( ...نظرا إلى أن ذلك الواقع وافق المكلف فيه دليلا على الجملة،
وإن كان مرجوحا، فهو راجح بالنسبة إلى إبقاء الحالة على ما وقعت عليه؛ لأن ذلك
أولى من إزالتها مع دخول ضرر على الفاعل أشد من مقتضى النهي، فيرجع الأمر إلى أن
النهي كان دليله أقوى قبل الوقوع، ودليل الجواز أقوى بعد الوقوع، لما اقترن به من
القرائن المرجحة)
ويقوى الخلاف ويظهر فيما
إذا جُعل مناط المسألة ما لو وقع المكلف في الحرج والضيق فهل يفتى هذا المعين
بالمرجوح رفعا للحرج الواقع عليه, أو يفتى بالراجح مع وقوع الحرج عليه؟
فيكون معنى الضرورة أن يقع
على العبد حرج وضيق إذا أخذ بالقول الراجح.
وقريب منه مراعاة الخلاف
عند المالكية.
ومع كون أن الإفتاء
بالمرجوح هنا ليس أصلا وإنما استثناء لا يتكرر في حق المعين إلا أنه لا يصح؛ لأن
العبرة في الإفتاء بالأقوى دليلا في النظر الجزئي.
وملاحظة هذا المناط له
تعلق من وجه بمسألة الترخص بمسائل الخلاف, فيفتى الواقع في الحرج بالأيسر من أقوال
الفقهاء من غير اعتبار لرجحان القول أو عدم مرجوحيته
وقد اختلف فيه الأصوليون,
فهناك من جوز بإطلاق وهناك من منع بإطلاق, وهناك من فصل, والأقرب: المنع إلا إذا
اختلف المناط وتعلق بما تقتضيه كليات الشريعة وما جرى عليه التشريع.
والمفني المجتهد يجب عليه
أن يجمع حال إفتائه بين النظر الجزئي والنظر الكلي لتنسجم فتاويه مع مقاصد الشريعة,
ولا يقع في هدم الكليات بالأخذ ببعض الجزئيات, ولا يقع أيضا في الإعراض عن جزئيات
الكلي.
كتبه: أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق