من هو الفقيه حقا الذي له النظر في الأدلة والترجيح؟
لاشك أن باب النظر في
الأدلة والترجيح باب تقحمه من ليس أهلا للنظر ولا يملك الملكة الاستنباطية الترجيحية؛
إذ إن الاستنباط والترجيح مبني على مقدمات استدلالية تحتاج في تصورها وتحقيق
مناطاتها إلى دربة وملكة.
فالشريعة أوامر ونواهي
وتخيير والاجتهاد فيها بتهذيب المناط وتخريجه؛ حتى يصل إلى المناط الذي علق الشارع
عليه الأحكام , وأما أفعال العباد فالاجتهاد فيها يكون بتحقيق مناطات النصوص
(المناط العام الذي هو لمكلف ما بعيدا عن المتعلقات الخارجية, والمناط الخاص, وهل الاقتضاء
أصلي أو تبعي؟).
ولذا كان الفقيه حقا من
اعتنى بتخريج المناط وتهذيبه وتحقيقه, لا التكثر من جمع الأدلة مجردا, ولا التكثر
أيضا من أقوال الفقهاء وتحرير مذاهبهم بما لا يحقق أنواع الاجتهاد( تخريج
المناط-تهذيب المناط-تحقيق المناط) على ما درج عليه أهل التخصص.
ومعرفة هذه الأمور الثلاثة
( تخريج المناط-تهذيب المناط-تحقيق المناط) مبني على معرفة العلل التي تفضي إلى معرفة
مقاصد الشريعة, فمن لم يعرف طرق استخراج الحِكَم والأوصاف ومظنة الحِكَم لم يكن
أهلا للاستنباط والترجيح, ولا يكون محل اقتداء.
وكما أننا نعيب التعصب إلى
المذاهب وقصر الاجتهاد في الاجتهاد المقيد بمذهب_( مجتهد التخريج) نعيب أيضا
الانفلات الذي وصل إليه بعض من ينادي بفقه الدليل والترجيح وإطلاق باب الاجتهاد؛
حتى تسور الباب من لا عناية له بأصول الفقه الذي هو آلة الترجيح والاستنباط ولا
اهتمام له بالنظر المقصدي الكلي الذي تنسجم معه أحكام الشريعة ويتوافق مع روحها
والحكمة من تشريعها.
واعتناء الفقيه بتخريج
المناط (الحكمة-الوصف-المظنة) طريق لمعرفة علل الشريعة وحِكمها الذي يستطيع بذلك
تعدية الحُكم, ويتحقق به عموم الشريعة ويظهر سماحتها ورحمتها, وهو الطريق لمعرفة
أحكام النوازل, فكما صح القياس على الجزئيات صح -من باب أولى- القياس على الكليات
وبناء الأحكام عليها, وهذا يُمَكِّن المجتهد من توسيع اجتهاده واستيعابه لكل ما
يحتاج إليه الناس من أحكام وما يحقق مصالحهم الدنيوية والأخروية.
وهذا يتنافى مع الجمود على
منطوق النص, ويتنافى أيضا مع الجمود على أحكام وفروع المذهب وكذا قواعده الخاصة
به.
لكن الرزية حقا أن يغطي
الجوانب المشرقة في النظر الاجتهادي الأصولي المقصدي أولئك الذين توسعوا فيه حتى
هدموا النصوص الشرعية وألغوها, وكذا من لا يفقه باب الأصول والمقاصد ويحاول أن
يجاري أهله المتمكنين فيه فيكون سببا لتشويههم.
والله المستعان
كتبه: د. أحمد محمد الصادق
النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق