الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي
بعده.
أما بعد, فإن الناس في حكم الشريعة يعاملون بما
ظهر منهم, ولا يحكم على بواطنهم؛ لأن الباطن أمر غيبي لا يطلع عليه إلا الله.
وأحكام الإسلام عُلقت بالظاهر لا بالباطن.
وقد قال النبي - صلى الله عليه وسلم - «إني لم
أؤمر أن أشق على قلوب الناس ولا عن بطونهم»
فأَمْر النبي صلى الله عليه وسلم بعدم التنقيب على قلوب الناس أمرٌ لأتباعه,
والأصل في الأمر أنه للوجوب.
وحتى في التحاكم بين الناس فالقاضي عليه أن
يحكم بناء على الحجج الظاهرة, ولا يحكم بما يعلمه في حقيقة الأمر؛ لأنه لا يستطيع أن يقيم عليه البينة.
ومن الفقهاء من قال: يحيل القضية إلى قاضٍ آخر.
ومن الفقهاء من قال: يحيل القضية إلى قاضٍ آخر.
عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى
الله عليه وسلم: «إنكم تختصمون إلي، ولعل بعضكم أن يكون ألحن بحجته من بعض، فأقضي له
على نحوٍ مما أسمع منه، فمن قطعت له من حق أخيه شيئا، فلا يأخذه، فإنما أقطع له به
قطعة من النار أخرجه مسلم
فأخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه يحكم بناء
على الظاهر, وقد يكون مخالفا لما في نفس الأمر, وهذا الحكم منه صلى الله عليه وسلم
ليس من باب الاجتهاد الذي أخطأ فيه إذا كان مخالفا لما في نفس الأمر, وإنما هو حكم
صحيح بناء على الحجج الظاهرة.
ومن المعلوم: أن النبي صلى الله عليه وسلم لا
يقَرُّ على اجتهاد أخطأ فيه, فيكون الحكم بناء على الظاهر ليس من قبيل الاجتهاد
الذي أخطأ فيه إذا كان مخالفا لما في نفس الأمر.
ومما يدل أيضا على أن الحكم على النيات
منكر: أن نبينا صلى الله عليه وسلم
المأمورين بالاقتداء به عامل المنافقين بالظاهر مع أنه يعلم كثيرا منهم.
وقد أجمع العلماء على أن أحكام الدين على
الظاهر، وإلى الله السرائر, كما ذكره ابن بطال في شرح البخاري.
ومن أقوال الصحابة: ما جاء عن عمر بن الخطاب رضي
الله عنه أنه قال: " إن أناسا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله
عليه وسلم، وإن الوحي قد انقطع، وإنما نأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر
لنا خيرا، أمناه، وقربناه، وليس إلينا من سريرته شيء الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر
لنا سوءا لم نأمنه، ولم نصدقه، وإن قال: إن سريرته حسنة أخرجه البخاري.
فعلق الأخذ بالباطن على الوحي, والوحي قد انقطع؛
فيكون الأخذ بالباطن قد انقطع.
وقد اشتمل قول عمر على مرفوعٍ وبيانٍ للمرفوع,
فالمرفوع منه ما نسبه إلى عهد النبي صلى الله عليه وسلم, والبيان ما بعده.
كما أن الحكم على النيات يجر إلى مفاسد عظيمة, والشريعة لا تأتي بالمفاسد الخالصة, أو
الراجحة .
فإذن قاعدة الشريعة: "أن الأحكام يحكم فيها بالظواهر، والله تعالى يتولى السرائر".
وأحكام الدنيا متعلقة بالظاهر, والنيات تبع
لها.
والنية محلها القلب.
وعليه فلا يجوز للإنسان أن يتعلق بالمظنة
والتهمة ويدع الظاهر.
وقد أنكر النبي صلى الله عليه وسلم على أسامة
لما قتل الذي قال لا إله إلا الله.
عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما، يقول: بعثنا رسول
الله صلى الله عليه وسلم إلى الحرقة، فصبحنا القوم فهزمناهم، ولحقت أنا ورجل من الأنصار
رجلا منهم، فلما غشيناه، قال: لا إله إلا الله فكف الأنصاري فطعنته برمحي حتى قتلته،
فلما قدمنا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: «يا أسامة، أقتلته بعد ما قال لا إله
إلا الله» قلت: كان متعوذا، فما زال يكررها، حتى تمنيت أني لم أكن أسلمت قبل ذلك اليوم أخرجه البخاري
وكما أن الحكم على النيات والمقاصد منكر شرعا هو أيضا منكر عقلا؛ وذلك أن الباطن غيبي, والعقل لا مدخل له بنفسه في
الغيبيات.
ولأن العقل له حد ينتهي إليه.
أضف على ذلك: أنه منكر عرفا, فقد تعارف أصحاب الفطر
السليمة, والعقول الصريحة على إنكاره, وذم أهله.
فظهر لنا مما تقدم أن الحكم على النيات والمقاصد منكر في الشريعة,
ومخالف لقواعدها, وفيه تعدٍّ على الناس, وتجنٍّ عليهم.
وهو من التسرع في الحكم على الناس.
ومنكر أيضا عقلا وعرفا.
وإنك لتجد أقواما قد غفلوا أو تغافلوا عن هذا, فيحكمون على الناس بالنظر إلى مقاصدهم, وما
انطوت عليه قلوبهم.
فيصفونهم بالغيظ, والحقد, ونحوها من أعمال
القلوب.
والناظر في أقوال هؤلاء ليُخيَّل إليه أن الله
أطلعهم على قلوب الناس, وكشفها لهم.
وقد قَلَبَ هؤلاء قاعدة الشريعة؛ فجعلوا الحكم متعلقا بالباطن لا بالظاهر,
فنسأل الله العافية.
وهنا يجب عدم الخلط بين الحكم على نيات الآخرين وبين الحكم على ما
يؤول إليه القول والفعل, فالأول مذموم؛ لما تقدم, والثاني من العالم الخبير محمود.
فمآلات الأقوال والأفعال تدرك؛ لأنها لازمة للقول
والفعل, وليس هو من باب الكلام في النيات.
وهذا درج عليه الأئمة, فمثلا:
عن حماد بن زيد وذكر هؤلاء الجهمية قال: (( إنما
يحاولون أن يقولوا ليس في السماء شيء ))
وعن عباد بن العوام قال: (( كلمت بشر المريسي وأصحاب
بشر فرأيت آخر كلامهم ينتهي أن يقولوا ليس في السماء شيء ))
وعن جرير بن عبد الحميد يقول: (( كلام الجهمية
أوله عسل وآخره سم وإنما يحاولون أن يقولوا ليس في السماء إله ))
فينبغي عدم الخلط بين المسألتين.
ومما يجب أن يعلم: أن لازم القول ليس بقول للقائل إلا إذا التزمه
القائل, أو صرح به.
وأخيرا: فليتق الله الذين يتكلمون في نيات الناس
ومقاصدهم, وليبتعدوا عن هذا التهويل؛ فإنه سيعود عليهم, ولن ينفعهم.
ومن يحتل على إسقاط الناس بالكلام في نياتهم فإنه يعامل بنقيض قصده, ويفضحه الله سبحانه, ويسد عليه كل طريق فتحه لذلك.
والحمد لله رب العالمين.
وكتبه
أحمد محمد الصادق النجار
29-10-1436هـ
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق