قد صرنا في زمن يتفاخر بعض طلبة العلم بالجمع والإحاطة بالأقوال وسرد الخلاف دون تمييز وتحقيق, ودون معرفة محل النزاع والخلاف, ومن غير تطبيق للقواعد والأصول.
فيستدل من الأدلة ما يظن انه موافق لرايه, وهو على خلافه.
وما علم هؤلاء أن هناك فرقا بين جمع ما قيل في المسألة وبين تحقيقها؛ فالجمع وسيلة للتحقيق, وليس هو التحقيق.
والمرء يُمدح بالتحقيق لا بالجمع, وهذا ما كان عليه أئمتنا وعلماؤنا, فقد برزوا ورفعوا بعد توفيق الله بالتحقيق لا بالجمع, وبالتفنن في الاستنباط والترجيح, لا بمجرد سرد الأقوال.
ومما كان يلمز به من كان جمَّاعا أن يقال عنه: حاطب ليل.
ومن النقص أن يجعل الجمع هو الغاية, فتُجعَل الوسيلة مقصدا.
قال ابن رجب عن كلام السلف: (( ويحتاج من أراد جمع كلامهم إلى معرفة صحيحة من سقيمه وذلك بمعرفة الجرح والتعديل والعلل فمن لم يعرف ذلك فهو غير واثق بما ينقله من ذلك ويلتبس عليه حقه بباطله. ولا يثق بما عنده من ذلك كما يرى من قل علمه بذلك لا يثق بما يروى عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن السلف لجهله بصحيحه من سقيمه فهو لجهله يجوز أن يكون كله باطلا لعدم معرفته بما يعرف به صحيح ذلك وسقيمه.))
والتحقيق يقوم على:
١- جمع الأقوال والأدلة.
٢-التمكن من علوم الآلة وتنزليها على الأدلة.
فهذان ركنان لا يقوم التحقيق إلا بهما.
فيبدأ المحقق للمسائل أولا بالجمع, وعلى هذا الجمع يقوى التحقيق أو يضعف, فإذا كان جمعه تاما كان التحقيق تاما, وإذا نقص نقص, فيقوى التحقيق بقوة الجمع, ويضعف بنقصه.
والجمع يقوم على تتبع الأقوال والأدلة والإحاطة بها ما أمكن.
وهناك فقهٌ في الجمع, ومنه: الدمج بين الأقوال المتماثلة والمتشابهة, وإخراج ما كان خطأ محضا أو شاذا من عده قولا, والاعتناء بأقوال الأئمة المعتبرين دون غيرهم.
ثم يثني بالركن الثاني الذي لا ينفك عن الأول وهو: التمكن من علوم الآلة نظرا وتطبيقا, فيعرف كيف يستخرج العلة, وينقحها, ويحققها في مناطها, ويعرف القواعد الكلية ومتى يضعها في محلها, والمقاصد الشرعية من غير أن يلغي النصوص الجزئية, ويميز بين الصحيح والضعيف, ويعرف متى يرجح الوصل على الإرسال, والإرسال على الوصل, ونحو ذلك.
وعلى التمكن يقوى التحقيق أو يضعف, فإذا قوي التمكن قوي التحقيق, وإذا ضعف ضعف.
ولله در شيخ الإسلام ابن تيمية القائل: (( والعلم شيئان: إما نقل مصدق، وإما بحث محقق ،وما سوى ذلك فهذيان مسروق ))
وبعد تحقيق المسألة تأتي مرحلة مهمة لا يوفق إليها إلا من وفقه الله سبحانه, وهي: إيصال المسألة المحقَّقة إلى الآخرين سهلة العبارة, واضحة المعنى, من غير تقعر بالعبارات, واستحداث مصطلحات جديدة, ونحو ذلك
ومتى أمكن الرجوع إلى عبارات السلف فالواجب الرجوع إليها؛ لأنهم كانوا على الحق المبين, وخير الكلام ما قل ودل.
إلا إذا وجدت الحاجة, فيتوسع بقدرها.
قال ابن رجب عن كلام السلف: (( ومع هذا ففي كلام السلف والأئمة كمالك والشافعي وأحمد وإسحاق التنبيه على مأخذ الفقه ومدارك الأحكام بكلام وجيز مختصر يفهم به المقصود من غير إطالة ولا إسهاب: وفي كلامهم من رد الأقوال المخالفة للسنة بألطف إشارة وأحسن عبارة بحيث يغني ذلك من فهمه عن إطالة المتكلمين في ذلك بعدهم بل ربما لم يتضمن تطويل كلام من بعدهم من الصواب في ذلك ما تضمنه كلام السلف والأئمة مع اختصاره وإيجازه ))
وقال: ( وقد فتن كثير من المتأخرين بهذا فظنوا أن من كثر كلامه وجداله وخصامه في مسائل الدين فهو أعلم ممن ليس كذلك. وهذا جهل محض. وانظر إلى أكابر الصحابة وعلمائهم كأبي بكر وعمر وعلي ومعاذ وابن مسعود وزيد بن ثابت كيف كانوا. كلامهم أقل من كلام ابن عباس وهم أعلم منه وكذلك كلام التابعين أكثر من كلام الصحابة والصحابة أعلم منهم وكذلك تابعوا التابعين كلامهم أكثر من كلام التابعين والتابعون أعلم منهم. فليس العلم بكثرة الرواية ولا بكثرة المقال ولكنه نور يقذف في القلب يفهم به العبد الحق ويميز به بينه وبين الباطل ويعبر عن ذلك بعبارات وجيزة محصلة للمقاصد.
))
وقال: (( وقد ابتلينا بجهلة من الناس يعتقدون في بعض من توسع في القول من المتأخرين انه أعلم ممن تقدم. فمنهم من يظن في شخص أنه أعلم من كل من تقدم من الصحابة ومن بعدهم لكثرة بيانه ومقاله))
ونرى في زماننا من يتشدق بكثرة الكلام, ويتوسع فيه بدون حاجة؛ ظنا منه أن هذا هو التحقيق.
اللهم اجعلنا من اهل التحقيق الذين لا يريدون إلا وجهك.
كتبه
أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق