إنَّ المتأمِّلَ لكلامِ شيخ الإسلام ابن تيمية
يرى أنَّه
كان مُعَظِّماً للسلَفِ, مُقرِّرا لمنهجهم,لم يَخرج فيما يُقرِّره عن هديهِم, ولم
يَسلك غيرَ طريقهم, وخيرُ شاهدٍ على ذلك أقوالُه, وما تضمنتْه كتبُه.
وسأُوجزُ
الكلامَ عن ذلك في الأمور التالية:
أولا:بيانه
أنَّ الفهمَ الصحيحَ للكتاب
والسنة هو ما فهمَهُ الصحابة y
الذين هم رأسُ السلف.
قال شيخ الإسلام:(( وللصحابةِ فهمٌ في القرآن
يخفى على أكثر المتأخرين, كما أن لهم معرفةً بأمور من السنة وأحوالِ الرسول r لا يعرفُها أكثرُ
المتأخرين, فإنهم شهِدوا الرسولَ r والتنـزيلَ, وعاينوا
الرسولَ r, وعَرفوا من أقواله وأفعاله وأحواله
مما يستدلون به على مُرَادِهم ما لم يعرفه أكثرُ المتأخرين الذين لم يعرِفُوا ذلك,
فطلبوا الحكم مما اعتقدوه من إجماعٍ أو قياسٍ ))([1])
وقال:(( وقد تأمَّلْتُ
من هذا الباب ما شاء الله, فرأيتُ الصحابةَ أفقهَ الأمة وأعلمَها, وأعتبرُ هذا بمسائلِ
الأيمانِ بالنذر, والعتق, والطلاق, وغير ذلك, ومسائلِ تعليق الطلاق بالشروط ونحو ذلك,
وقد بينتُ فيما كتبتُه أن المنقولَ فيها عن الصحابة هو أصحُّ الأقوالِ قضاءً وقياسا,
وعليه يدلُّ الكتابُ والسنةُ, وعليه يدلُّ القياسُ الجليُّ, وكلُّ قولٍ سوى ذلك تناقضٌ
في القياس, مخالفٌ للنصوص ))([2])
وقال:(( الواجبُ أنْ تُعرَفَ
اللغةُ والعادةُ والعرفُ الذي نَزَلَ في القرآن والسنة, وما كان الصحَابَةُ يفهمون
منَ الرسولِ r عند سماع تلك
الألفاظ, فَبِتِلكَ اللغةِ والعادَةِ والعُرفِ خاطَبَهُم اللهُ ورسوله r لا بما حدَث بعد
ذلك ))([3])
ثانيا- بيانُهُ أنَّ قرنَ الصحابة
هو أكملُ القرون, وأنهم الجماعة التي أمرنا الله أن نتبع هديَها, ونقتفيَ أثرها.
قال شيخ الإسلام:(( كما أنَّه لم يكنْ في القرون أكملُ من قرنِ الصحابة,
فليس في الطوائف بعدهم أكملُ من أتباعهم. فكلُّ من كان للحديث والسنة وآثار الصحابة
أتبع كان أكمل, وكانت تلك الطائفة أوْلى بالاجتماع, والهدى, والاعتصام بحبل الله, وأبعدَ
عن التفرق, والاختلاف, والفتنة. وكل من بَعُدَ عن ذلك كان أبعدَ عن الرحمة, وأدخَلَ
في الفتنة ))([4]).
ثالثا- ذِكرُهُ
أنَّ الحق لا يخرجُ عن أقوال
السلف.
قال شيخ
الإسلام:(( والصوابُ في جميع مسائلِ
النِّـزاعِ ما كان عليه السلفُ من الصحابة, والتابعين لهم بإحسان, وقولُهم هو الذي
يدلُّ عليه الكتابُ والسنةُ والعقلُ الصريحُ ))([5]).
رابعا-
ذَكَر أنَّ من أصولِ أهل السنة
والجماعة التي لا يجوز مخالفتها: الإجماعَ. وضبَطَه: بإجماع السلف الصالح.
قال شيخ
الإسلام:(( طريقةُ أهلِ السنة والجماعة
اتباعُ آثار رسول الله r باطنا وظاهرا,
واتباعُ سبيل السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار, واتباعُ وصية رسول الله r حيث قال:(( عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين
من بعدي, تمسكوا بها, وعضوا عليها بالنواجذ, وإياكم ومحدثاتِ الأمور, فإنَّ كُلَّ محدثة
بدعَةٌ, وكلَّ بدعةٍ ضلالَةٌ ))([6])
ويعلمون أنَّ أصدقَ الكلامِ كلامُ الله, وخيرَ
الهدى هُدى محمد r, ويؤثرون كلامَ اللهِ على كلامِ غيره من كلامِ أصنافِ الناس, ويُقدِّمون
هُدى محمد r على هدى كلِّ
أحد, وبهذا سُمُّوا أهلَ الكتاب والسنة .
وسموا أهلَ الجماعة؛ لأنَّ الجماعة هي الاجتماعُ,
وضدُّها الفُرقَة, وإن كان لفظُ الجماعة قد صار اسما لنفس القوم المجتمعين. والإجماعُ
هو الأصلُ الثالثُ الذي يُعتمد عليه في العلم والدين.
وهم يزنون بهذه الأصولِ الثلاثة جميعَ ما عليه الناس
من أقوالٍ وأعمالٍ باطنة أو ظاهرة مما له تعلقٌ بالدين, والإجماعُ الذي ينضبط هو: ما
كان عليه السلَفُ الصالح؛ إذ بَعدَهُم كثُر الاختلاف, وانتشرت الأمة ))([7]).
خامسا- بيانُهُ -/- أنَّ الإعراضَ عن
فهمِ الكتاب والسنة كما فهِمَهُ الصحابَةُ والتابعون لهم بإحسان سببٌ للوقوع في
الضلالِ والانحرافِ.
قال شيخ الإسلام- / -:(( وَأَصلُ
وُقُوعِ أهلِ الضلال في مثل هذا التحريف, الإعراضُ عن فهمِ كتابِ الله تعالى, كما فهمَهُ
الصحابةُ والتابعون, ومعارضةُ ما دَلَّ عليه بما يناقِضُهُ, وهذا هو من أعظمِ المحادَّةِ
لله ولرسوله r, لكن على وجه النفاقِ والخداعِ
))([8]).
سادسا- بيانُه استحالة أنْ تكونَ
القرونُ الثلاثةُ لم يعلموا الحق, أو قصَّروا في بيانه.
قال شيخ الإسلام:(( مُحالٌ
مع تعليمهِم- أي: الصحابة- كلَّ شيءٍ لهم فيه منفعة في الدين, وإن دقَّتْ أن يَترُك
تعليمَهم ما يقولونه بألسنتهم, ويعتقدونه بقلوبهم في ربهم ومعبودهم ربِّ العالمين,
الذي معرفته غايةُ المعارف, وعبادتُه أشرفُ المقاصد, والوصولُ إليه غايةُ المطالب,
بل هذا خلاصةُ الدعوةِ النبويةِ وزبدةُ الرسالةِ الإلهيةِ, فكيف يَتوهم من في قلبه
أدنى مُسْكةٍ من إيمانٍ وحكمةٍ أن لا يكون بيانُ هذا البابِ قد وقع من الرسول r على غاية التمام,
إذا كان قد وقع ذلك منه, فمن المحال أن يكونَ خيرُ أمته, وأفضلُ قرونها قصَّروا في
هذا الباب, زائدين فيه أو ناقصين عنه.
ثم من
المحال أيضا أن تكونَ القرونُ الفاضلةُ - القرن الذي بعث فيه رسول الله r ثم الذين يلونهم ثم الذين يلونهم - كانوا غيرَ عالمين, وغيرَ
قائلين في هذا الباب بالحق المبين, لأن ضدَّ ذلك إما عدمُ العلم والقول, وإما اعتقاد
نقيضِ الحق, وقولُ خلاف الصدق. وكلاهما ممتنع ))([9]).
سابعا- إخباره عن نفسه أنه لم
يدْعُ إلا إلى مذهَبِ السلف, بل يتحدَّى مَن خالَفَهُ أن يأتيَ بحرفٍ واحدٍ عن
السلف يخالف ما يُقرِّرُه.
قال شيخ الإسلام- / -:(( مع أنِّي في عُمرِي إلى ساعتي هذه لم أدْعُ أحدا
قطُّ في أصول الدين إلى مذهبٍ حنبليٍّ وغيرِ حنبليٍّ, ولا انتصرتُ لذلك, ولا أذكرُهُ
في كلامي, ولا أذكرُ إلا ما اتفق عليه سلفُ الأمة وأئمتها. وقد قلتُ لهم غيرَ مرةٍ:
أنا أُمهِلُ مَن يخالفني ثلاث سنين إن جاء بحرفٍ واحِدٍ عن أحدٍ من أئمة القرون الثلاثة
يخالفُ ما قلتُهُ, فأنا أقرُّ بذلك. وأما ما أذكرُهُ فأذكرهُ عن أئمة القرون الثلاثة
بألفاظهم, وبألفاظِ مَن نَقَلَ إجماعَهم من عامة الطوائف ))([10]).
ثامنا- اعتمادُهُ على كلام السلف فيما يُقَرِّرُهُ من مسائل.
قال شيخ الإسلام:(( لم يجئْ في الكتاب, والسنة, وكلامِ السلف, إطلاقُ
القول على الإيمانِ والعمل الصالح: أنه تكليفٌ كما يُطلِقُ ذلك كثيرٌ من المتكلمة والمتفقهة
))([11]).
وقال:(( فمذهبُ السلف
رضوان الله عليهم: إثبات الصفات وإجراؤها على ظاهرها, ونفيُ الكيفية عنها؛ لأنَّ الكلامَ
في الصفات فرعٌ عن الكلام في الذات, وإثباتُ الذات إثبات وجود لا إثبات كيفية, فكذلك
إثبات الصفات ))([12]).
وقال:(( مذهبُ
أهل الحديث وهم السلف من القرون الثلاثة ومن سلك سبيلهم من الخلف: أنَّ هذه الأحاديث
تُمَرُّ كما جاءت, ويُؤمَن بها وتُصدَّق, وتُصانُ عن تأويلٍ يُفضي إلى تعطيلٍ, وتكييفٍ
يُفضي إلى تمثيل ))([13]).
تاسعا- ردُّهُ على مخالفيه
بمخالفتهم مذهَبِ السلَفِ.
قال
شيخ الإسلام: (( لم يُعرَفْ أيضا عن
أحدٍ مِنَ السلَفِ أنَّه قال: الاسمُ هو المسَمَّى
))([14]).
وقال:(( إنكارُ تَكَلُّمِ الله بالصوت, وجعلُ كلامِه معنى
واحدا قائما بالنفسِ بدعةٌ باطلةٌ لم يذهَبْ إليها أحدٌ من السلَفِ والأئمة ))([15])
.
تبين واتضح بما سبق أنَّ شيخَ الإسلام ابن
تيمية مُعظمٌ للسلف, متبعٌ لهم, لم يَخرجْ في أقواله عن أقوالهم, ولم يسلُكْ طريقاً
غيرَ طريقهم, بل يَذمُّ من خالفَ هديَهُم.
أفيكونُ بعد ذلك مبتدِعا ليس على نهجِ مَن سَبَقَهُ
من أئمةِ السلف؟!سبحانك اللهم هذا بهتان عظيم!
فأين الذين يشنون الحملات تلو الحملات على شيخ الإسلام من هذه التقريرات؟!وأين الذين يحاولون تشويه كتبه وشخصيته من هذه الأقوال؟!أو أنه الحقد والحسد!!
ألا فليتق الله هؤلاء, وليعلموا أن بضاعتهم المزجاة لن تروج على المنصفين.
وليعلموا أنهم مهما حاولوا إطفاء نور هذا الإمام فالله عز وجل سيبقيه, ويزيده نورا ورفعة؛ لأن شيخ الإسلام يذب عن دين الله سبحانه, وينصره, والله ينصر من نصر دينه.
والحمد لله رب العالمين.كتبه
أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق