"لو نظرنا لكتب السنة نجد أن السلف رحمهم الله سلكوا مسلكا في التبديع لم يسلكوه في التكفير والتفسيق ولهذا قلت الباب ليس واحداً.
فنحن بين أن نعمل منهجهم أو نتركه ونقول هم رجال ونحن رجال!!
ولكن الناظر اليوم يرى أن الناس في ذلك على ثلاثة أقسام:
القسم الأول: هو الغلو في إعمال أقوالهم وأعمالهم وذلك بأخذها دون النظر إلى المسائل التي وقعت عليها تلك الأفعال وهل هي مما يبدع به أو لا؟ وهم الحدادية فتجدهم يرون كل من أخطأ بالبدعة ولو كان هذا الخطأ ليس مما يبدع به وهكذا لا يسلم عندهم أحد.
القسم الثاني: وهو مسلك المميعة وهم من قال هذه أفعال أفراد وأشخاص ولا تلزمنا وكلام كثير ظهر لنا اليوم ولابد من إقامة الحجة على المخالف في كل مسألة أخطأ فيها ولو كانت المسألة عقدية وخفي عليهم أن من المسائل ما لو أقيمت الحجة على صاحبها لكفر لهذا لما سئل الرازي فيما أظن الآن _ الوهم مني _ على من يقول بخلق القرآن قال: إن كان جاهلاً بدع وإن كان عالماً كفر ولما سأل الثوري عن الرُّبيع فأُثني عليه، قال: من يجالس؟ قيل له: القدرية، قال: هو قدري. ولم ينتظر حتى تقام عليه الحجة وذلك أن مجالسة أهل البدع علامة على اتفاق المشرب والمأخذ.
القسم الثالث: وهو المسلك الوسط فيما أظن والله أعلم وهو إعمال منهج السلف وذلك بالنظر إلى أفعالهم وإلى المسائل التي أوقعوا عليها تلك الأفعال وذلك أن أهل العلم لم يكتبوا ويرووها لنا ما جرى منهم إلا ليبينوا لنا منهجاً هو محل إجماع لديهم في زمن ظهور البدع وكيف تعاملوا مع هذه البدع.
فخلاصة ذلك أنهم نظروا للمسائل فوجدوا أنها على قسمين:
1_ مسائل يسوغ الخلاف فيها فوسعهم الخلاف وعذروا واجتهدوا.
2_ مسائل لا يسوغ الخلاف فيها وهي أيضا على قسمين:
1_ كلية يبدع بها من خالف.
2_ جزئية وهي على قسمين أيضاً:
1_ جزئية اشتهر الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدعة فهذه يبدع بها المخالف ولا يشترط إقامة الحجة لاشتهارها كمسالة الخروج على السلطان وسب صحابي واحد.
2_ جزئية لم يشتهر الخلاف فيها فهذه لا يبدع بها إلا بعد قيام الحجة على المخالف.
مع التنبه إلى ما سبق أن الضابط الجزئي هو ما لا يندرج تحته جزئيات أخرى.
وكذلك التنبه إلى أن الجزئي إذا اشتهر الخلاف فيه صار أصلاً من أصول أهل السنة.
وأيضاً التنبه إلى أن خطأ العالم لا يستدل به ومما جاء عن السلف أن ثلاثة يهدمن الدين وذكروا منها زلة العالم.
فقول بعض العلماء قديماً بجواز المظاهرات ليس سبباً لجوازها ويقال أيضاً أنها في زمانهم لم يشتهر الخلاف فيها وذلك لأنها كانت غير معروفة لدى المسلمين بخلاف اليوم فإنها مما اشتهر الخلاف فيها بين أهل السنة وأهل البدعة.
كتبه: صبري المحمودي
8 . 7. 1436 هجري"
جوابي عنه" مجمل ومفصل.
ومحل الجواب: في السني الذي وقع في بدعة, لا في المبتدع الأصلي.
أما الجواب المجمل فمن وجوه:
الأول: حصل في هذا الكلام خلط بين البدعة كوصف وبين تنزيلها على المعين.
وهذا بعيد عن التأصيل؛ لأن البدع مقتضية للحكم لا موجبة، فليس مجرد الوقوع في البدعة يكون صاحبها مبتدعا, بل لابد من توفر الشروط وانتفاء الموانع.
الثاني: متناقض غير منضبط.
الثالث: بعض الكلام ليس مرتبا, ولا متسقا بما قبله وما بعده, مثل " وذلك أن أهل العلم لم يكتبوا ويرووها لنا ما جرى منهم".
أما الجواب المفصل فمن وجوه:
الأول: قوله:" لو نظرنا لكتب السنة نجد أن السلف رحمهم الله سلكوا مسلكا في التبديع لم يسلكوه في التكفير والتفسيق ولهذا قلت الباب ليس واحداً"
فجوابه: أنه نظر قاصر؛ لأمرين:
1-عدم المعرفة الدقيقة بمعاني هذه الأسماء؛ لأن البدعة عند الأئمة نوع من أنواع الفسق, قال ابن القيم في المدارج: (( وهو قسمان فسق من جهة العمل وفسق من جهة الاعتقاد ... وفسق الاعتقاد كفسق أهل البدع )) فإذا كان التفسيق موافقا للتكفير في قيام الحجة, فكذلك التبديع؛ لأنه نوع من أنواع التفسيق.
وهذا وحده كافٍ في إبطال الكلام من أصله.
2-أن السلف في باب التبديع لم ينزلوه على المعين مباشرة, ولهذا الأئمة في مواقف متعددة لم يبدعوا من وقع في البدعة مباشرة.
وقد ذكرتُ بعضها في رسالتي" تبصير الخلف بضابط الأصول التي من خالفها خرج عن منهج السلف"
ومن الأمثلة: الطحاوي الذي يقول بقول مرجئة الفقهاء.
وابن خزيمة في حديث الصورة.
ومما يدل على أن مسألة الصورة أصل مجمع عليه ما يأتي:
قال الإمام أحمد: (( من قال: إن الله خلق آدم على صورة آدم فهو جهمي )) طبقات الحنابلة لابن أبي يعلى (2/236)
وعن إسحاق بن منصور قال قلت لأحمد: لا تقبحوا الوجوه فإن الله خلق آدم على صورته أليس تقول بهذه الأحاديث؟ قال أحمد: (( صحيح )) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (3/266)
وقال الإمام إسحاق بن راهويه عن حديث إن الله خلق آدم على صورته: (( صحيح, ولا يدعه إلا مبتدع أو ضعيف الرأي )) الإبانة عن شريعة الفرقة الناجية (3/266)
وقال ابن تيمية: (( قال المحافظ أبو موسى المدينيُّ في (مناقب الإمام إسماعيل بن محمد التيمي قِوامِ السنة): سمعتُه يقول: أخطأ محمد بن إسحاق بن خزيمة في حديث الصورة، ولا نطعن عليه بذلك، بل لا يُؤخذُ عنه هذا فحسبُ )). جواب الاعتراضات المصرية على الفتيا الحموية (ص: 168)
فهذا وغيره يدل على أن مسألة الصورة أصل مشتهر, ومع ذلك لم يبدع أئمة السلف من خالف من أهل السنة, كابن خزيمة.
الثاني: ذكر من مسالك التمييع دعوى "قيام الحجة على المبتدع في كل مسألة أخطأ فيها ولو كانت المسألة عقدية وخفي عليهم أن من المسائل ما لو أقيمت الحجة على صاحبها لكفر"
وجوابه: لا أدري من ادعى هذه الدعوى, ولا شك أنها باطلة من جهة أنه يدخل في قوله:"كل مسألة أخطأ فيها" المسائل التي وقع فيها الخلاف بين السلف, فهذه المسائل لا يسوغ تبديع المخالف فيها.
لكن الكاتب ليس هذا مراده- فقد خانه التعبير -, وإنما مراده كل مسألة من الأصول, وهذا حق فكل مسألة أخطأ فيها السني فلابد من إقامة الحجة عليه قبل تبديعه, ولا يحكم عليه مباشرة, ثم بعد قيام الحجة قد يُكفَّر؛ لأن المسألة التي خالف فيها كفرية, وقد يُبدَّع؛ لأن المسألة التي خالف فيها لا تقتضي التكفير.
وما انتقده الكاتب هنا يرد عليه في المسائل الجزئية غير المشتهرة
ثم إن البدع المفسقة لا يلزم من إقامة الحجة على المبتدع فيها أن يكون كافرا, فلو أن إنسانا يرى الخروج على الحاكم فأقيمت عليه الحجة ولم يأخذ بها ظلما لا تكبرا وتكذيبا ونحو ذلك أيكون كافرا؟!
ثم لا أدري كيف يتجرأ ويصفهم بالمميعة، وقد قال بذلك الأئمة
قال الشيخ العثيمين: (( وأما الخطأ في العقيدة: فإن كان خطأ مخالفاً لطريق السلف، فهو ضلال بلا شك, ولكن لا يحكم على صاحبه بالضلال حتى تقوم عليه الحجة، فإذا قامت عليه الحجة، وأصر على خطئه وضلاله، كان مبتدعاً فيما خالف فيه الحق )) [كتاب العلم (ص 135)]
وأما كلام الرازيين: "ومن وقف في القرآن جاهلا علم وبدع ولم يكفر"
فقد أرادا بـ "وقف في القرآن جاهلا علم وبدع" إخراج من وقف شكا, فإن من وقف شكا بعد إقامة الحجة يكون كافرا, وأما من وقف عن غير شك فإنه يكون مبتدعا بعد إقامة الحجة.
ثم تأمل في قولهما "علم وبدع" فاشترطا التعليم, فالواو وإن لم تفد الترتيب فإنها لا تنافيه.
فالتعليم شرط في التبديع لا التكفير فيمن وقف جاهلا لا عن شك.
بخلاف من وقف شكا فإنه بعد التعليم يكون كافرا إذا أصر على قوله.
وإلا فما الفائدة من التعليم.
وهذه نصوص أئمة السلف في تأييد ما ذكرتُه:
قال أبو طالب: وجاء رجل إلى أبي عبد الله – يعني الإمام أحمد - وأنا عنده، فقال: إن لي قرابة يقول بالشك، قال: فقال وهو شديد الغضب: (( شك فهو كافر )) الإبانة لابن بطة.
وعن عبد الله قال سمعت أبي يسأل عمن وقف؟ قال أبي: (( من كان يخاصم ويعرف بالكلام فهو جهمي, ومن لم يعرف بالكلام يجانب حتى يرجع, ومن لم يكن له علم يسأل ويتعلم )) السنة للخلال 5/130
وعن محمد بن مسلم أن أبا عبد الله قيل له: فالواقفة؟ قال: (( أما من كان لا يعقل فإنه يبصر, وإن كان يعقل ويبصر الكلام فهو مثلهم )) السنة للخلال 5/131
ثم قد يقال أيضا في كلام الرازيين:إن هذا حكم مطلق, ولا يلزم منه الحكم على المعين إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع.
وقد تكلمتُ عن هذا في"إزالة التلبيس الشنيع عن إقامة الحجة في التبديع" ردا على عبد الله الخليفي.
الثالث: قوله:" وذلك بالنظر إلى أفعالهم وإلى المسائل التي أوقعوا عليها تلك الأفعال" فلا أدري هل التبديع فعل؟!
ثم كيف يستقيم أن ينزل الحكم على المسألة ذاتها, فالأحكام تنزل على الأوصاف لا على المسائل.
الرابع: كيف يجتمع أن تكون المسألة لا يسوغ الخلاف فيها, ومع ذلك قد تكون جزئية يعذَر المخالف فيها؟!
من تدبر هذا الوجه ظهر له التناقض, وبطلان الكلام.
الخامس: جعل الفرق بين الجزئي والجزئي الاشتهار, ولم يذكر ضابطه, ومن المعلوم أن الاشتهار أمر نسبي, فقد يكون الأمر مشتهرا في وقت دون وقت, ومكان دون مكان, وما كان هذا حاله لا يمكن أن تعلَّق عليه الأحكام.
ثم ما يزعمه الكاتب أنه مشتهر قد يأتي غيره وينفي الاشتهار, فتضيع الأحكام.
وأما كلام شيخ الإسلام في الاشتهار فهو منضبط إذا ضممنا كلامه بعضه إلى بعض, وقد بينتُ هذا في رسالتي تبصير الخلف ..."
وأخيرا: الضابط في الجزئي الذي لا يُبدَّع به والجزئي الذي يبدع به هو: الإجماع, فإذا أجمع أئمة السلف على جزئي صار أصلا يُبدع من أجله, كما في مسألة حديث الصورة المتقدم, ومسألة الخروج على الحاكم المسلم, وغير ذلك.
وفي الختام: ما ذكرته في هذا الجواب هو مناقشة للمكتوب, ولا يلزم منه الطعن في الكاتب.
أسأل الله أن ينفع بما ذكرتُ, ويجعله خالصا لوجهه الكريم
كتبه
أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق