الثلاثاء، 27 أكتوبر 2020

وقفة مع قاعدة "الاستثناء معيار العموم"

 

وقفة

مع قاعدة "الاستثناء معيار العموم"

معنى المعيار : أنه آلة يعرف بهما عموم اللفظ, , لكنه إنما كان معيارا للعموم الاصطلاحي إذا كان اللفظ محتملا للعموم مستغرقا لجميع أفراده بلا حصر وكانت دلالته كلية.

والاستثناء إذا أطلق أريد به المتصل لا المنقطع, قال ابن العطار في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 14): (وظاهر أن المراد الاستثناء المتصل؛ لأن لفظ الاستثناء حقيقة فيه فلا يدخل المنقطع في المعيارية)

وقال القرافي في شرح تنقيح الفصول (ص: 241): (منشأ الخلاف في هذه المسألة أن العرب هل وضعت (إلاّ) لتركبها مع جنس ما قبلها، أو تركيبها مع الجنس وغيره؛ فيكون الخلاف في أنه مجاز يرجع إلى هذا...)

وهنا سؤال: هل كل ما يقبل الاستثناء يكون عاما؟

وجوابه: أن ما قَبْل أداة الاستثناء يجب أن يكون عاما؛ لأن الاستثناء: إخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه, فكل الأفراد واجبة الاندراج, وكونه إخراجا هو ما ذهب إليه متقدموا أهل اللغة, وأكثر الأصوليين, قال الطوفي في شرح مختصر الروضة (2/ 582): ( أن متقدمي أهل العربية عرفوه بالإخراج، قال ابن جني، وحسبك به مقدما في هذا الشأن: الاستثناء: أن تخرج شيئا أدخلت فيه غيره، أو تدخله فيما أخرجت منه غيره، وحينئذ يجب المصير إلى ما قالوه)

 إلا أن المراد بالعموم هنا ما هو أعم من المعنى الاصطلاحي, فيدخل فيه: ما كان له أفراد وأجزاء من كل, كـ: صمت هذا الشهر إلا يوما, وأكلت السمكة إلا رأسها, وعندي عشرة إلا دينارا.

ومن باب أولى: ما كان من دلالة الكلي على جزئياته مستغرقًا لها, كـ: أكرم الطلاب إلا زيدا.

قال القرافي في شرح تنقيح الفصول (ص: 237) لما تكلم عن الاستثناء: (في حده

وهو عبارة عن إخراج بعض ما دل اللفظ عليه ذاتاً كان أو عدداً أو ما لم يدل عليه، وهو إما محل المدلول أو أمر عام بلفظ إلاّ أو ما يقوم مقامها، فالذات نحو رأيت زيداً إلاّ يده، والعدد أما متناه نحو له عندي عشرة إلاّ اثنين، أو غير متناه نحو اقتلوا المشركين إلاّ أهل الذمة، ومحل المدلول نحو أعتق رقبة إلاّ الكفار، وصل إلاّ عند زوال الشمس.

إن قلنا إن الأمر ليس للتكرار، فإن الرقبة أمر مشترك عام يقبل أن يعين في محال كثيرة من الأشخاص، فإن كلّ شخص هو محل لأعمه، وكذلك العمل حقيقة كليّة تقبل الوقوع في أي زمان كان، والأزمان محل الأفعال والأشخاص محل الحقائق. والأمر العام نحو قوله تعالى: «لتأتنني به إلاّ أن يحاط بكم»  أي لتأتنني به في كلّ حالة من الحالات إلاّ في حالة الإحاطة بكم، فالحالة أمر عام لم يدل عليها اللفظ وكذلك محال المدلول ليس مدلولة اللفظ فإن فرعت على أن الاستثناء المنقطع مجاز فقط كمل الحد، فأنا إنّما نحد الحقيقة)

وقال ابن العطار في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 14): ((قوله: مما لا حصر فيه) خرج أسماء العدد فإنه يصح الاستثناء منها لاستغراقها للأفراد لكن لما كانت محصورة لم تكن عامة عموما اصطلاحيا وفي التلويح فإن قيل المستثنى منه قد يكون خاصا اسم عدد نحو عندي عشرة إلا واحدا، أو اسما علما نحو كسرت زيدا إلا رأسه أو غير ذلك نحو صمت هذا الشهر إلا يوم كذا وأكرمت هؤلاء الرجال إلا زيدا فلا يكون الاستثناء دليل العموم أجيب بوجوه:

الأول: أن المستثنى منه في مثل هذه الصور وإن لم يكن عاما لكنه يتضمن صيغة عموم باعتبار ما يصح الاستثناء وهو جميع مضاف إلى المعرفة أي جميع أجزاء العشرة وأعضاء زيد وأيام هذا الشهر وآحاد هذا الجمع الثاني ذكر ما أشار إليه الشارح من الجواب بقوله ما لا حصر فيه إلخ.

الثالث: أن المراد استثناء ما هو من أفراد مدلول اللفظ لا ما هو من أجزائه كما هو في الصور المذكورة...)

ولا يرد عليه النكرة في سياق الإثبات كأكرم قوما إلا زيدا؛ لأن أفرادها لم تدخل, فزيد لم يتحقق دخوله في القوم حتى يخرج.

وهذا بخلاف ما عليه ابن مالك من تجويز الاستثناء من النكرة في الإثبات بشرط الفائدة نحو: جاءنى قوم صالحون الا زيدا.

فيتلخص مما سبق: وجوب تقدم العموم على أداة الاستثناء.

تنبيه: الأصل في العموم الاصطلاحي: الاستغراق وعدم التخصيص إلا بدليل أو قرينة, فالعام المخصوص خلاف الأصل.

قال ابن بدران في المدخل (ص: 240): (أقسام ألفاظ العموم المذكورة تقتضي العموم عندنا بقصد واضع اللغة إفادتها العموم ما لم يقم دليل أو قرينة تدل على أن المراد بها الخصوص فيكون من باب إطلاق العام وإرادة الخاص )

وقد جعل الأصوليون عدا الحنفية دلالة العام على أفراده من باب الظاهر, ولا يخرج عن الظاهر إلا بدليل.

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

السبت، 24 أكتوبر 2020

حكم عبارة "إلا رسول الله"

حكم عبارة "إلا رسول الله"

إن نصرة النبي صلى الله عليه وسلم واجبة على كل مسلم, والرد على المسيء دليل على تعظيم رسول الله صلى الله عليه وسلم ومحبته, وقد كفى الله نبيه استهزاء المستهزئين وعجل الله بعقوبتهم وهلاكهم إلا أن هذه النصرة يجب أن تكون بالمشروع واستعمال الألفاظ التي لا تحتمل إلا حقا, ولا تتضمن محذورا شرعيا وإن لم يقصد القائل هذا المحذور.

فهذه العبارة حذف منها المسند (الفعل وهو المحكوم به أو المخبر به) والمسند إليه (الفاعل أو نائبه وهو المحكوم عليه أو المخبر عنه) ثم قيدت بالاستثناء.

ولما كانت مقيدة باستثناء - والاستثناء إذا أطلق أريد به المتصل لا المنقطع, قال ابن العطار في حاشيته على شرح الجلال المحلي على جمع الجوامع (2/ 14): (وظاهر أن المراد الاستثناء المتصل؛ لأن لفظ الاستثناء حقيقة فيه فلا يدخل المنقطع في المعيارية)- فإنه يجب أن يسبقها عموم؛ لأن الاستثناء: إخراج ما لولاه لوجب دخوله في المستثنى منه, فكل الأفراد واجبة الاندراج, وكونه إخراجا هو ما ذهب إليه متقدموا أهل اللغة, وأكثر الأصوليين والاستثناء معيار العموم, والعموم شامل للحكم والأفراد, والاستثناء تخصيص للحكم والأفراد, فيكون التقدير بالنظر إلى دلالة لفظها وسياق ذكرها: يساء لكل أحد إلا رسول الله, أو يسب كل أحد إلا رسول الله, أو نقبل إساءة كل أحد إلا رسول الله, وهكذا...

ولاشك في بطلان هذا التعميم, ولا يناسب نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ إذ إن من نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم نصرة دينه وعدم الرضا بالإساءة إليه ولا بالإساءة إلى رب العزة جل جلاله وتقدست أسماؤه إلى غير ذلك ...

فبالنظر إلى وضعها وسياقها لا يفهم منها إلا معنى فيه محذور, ولذا كانت عبارة خاطئة لا تفيد نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإن قيل: يمكن أن يقدر عموم مخصوص أو تحمل العبارة على عموم أريد به الخصوص فتصح حينئذ, كما لو قيل في التقدير: نتساهل في كل شيء من حقوقنا إلا حق رسول الله, ونحوه.

قيل: الأصل في العام عدم التخصيص ولا إرادة الخصوص, وما ذكر من تقدير هو من هذين البابين – العام المخصوص أو الذي أريد به الخصوص, وهذان البابان يُعتمد فيهما على المراد بالنظر إلى قصد المتكلم وبيان مراده, بينما النقد متوجه إلى الصيغة ومفهومها الوضعي في اللغة لا إلى المراد منها بالنظر إلى مقصود المتكلم, فعبارة "إلا رسول الله" نحتاج إلى قرائن لتكون صحيحة شرعا, وما لا يحتاج إلى قرائن أولى في الاستعمال خصوصا في مقام نصرة رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والخلاصة: أن النقد موجه للفظ بحسب ما وضع له, لا بحسب مراد المتكلم, فما قبل "إلا رسول الله" وُضع لأن يكون عاما مستغرقا, إلا أن في استعمال هذا الوضع محذورا شرعيا فاحتاج من يصحح العبارة إلى الخروج عما وضع له في مقام يُحَتِّم على العبد أن يبتعد عن هذا بما لا يحتاج معه إلى تصحيح, وكذلك فوت مصلحة أعظم ومقصودا أسمى, وأدخل الناس في الخلاف؛ إذ المتكلم تكلم بما وضعه وحقيقته باطلة, والأولى أن نستعمل عبارات يتوافق فيها فهم السامع ومراد المتكلم في هذا المقام العظيم.

وليس في هذا اتهام القائل برضاه بسب كل أحد إلا رسول الله فالحكم بخطأ العبارة لا يلزم منه الطعن في قصد قائلها, وإنما غاية التنبيه يعود إلى خطأ العبارة.

تنبيه: انتشرت فتوى لغوية للدكتور سليمان العيوني يجوز فيها عبارة"#إلا_رسول_الله"

وظن أن اشكالية المانعين في عدم جواز الابتداء بالاستثناء وأن ما سوى المستثنى لا يهم القائل وهذا غلط؛ لأن المنع قائم على أن ما قبل الاستثناء يجب أن يكون لفظا عاما، فالاستثناء معيار العموم، والعموم وضع للاستغراق, وما من تقدير تقدره عاما باق على عمومه إلا وفيه محذور شرعي كما لو قدرت نسكت عن كل إساءة إلا الإساءة لرسول الله ونحوها أفنسكت عن الاساءة للدين والصحابة ووو؟!

وليس الكلام عليها من جهة الحصر كالكلام على عبارة لا "شجاع إلا علي" أو لا "ربا إلا النسيئة" فهذه اشتملت على قصر ما قبل إلا بما بعدها, والقصر هنا ليس حقيقيا وإن كان فيه عموم, فعبارة "لا شجاع الا علي" وعبارة "الا رسول الله" كلاهما يشتمل على العموم، إلا أن الأولى مشتملة أيضا على حصر بخلاف الثانية التي فيها إخراج ما بعد إلا من حكم ما قبلها, والحصر في الأولى إما أن يكون حقيقيا أو إضافيا ولا يمكن أن يكون حقيقيا لدلالات أخرى كالواقع فيحمل على كونه إضافيا, وهذا مستعمل في لغة العرب.

وأما "الا رسول الله" فلا كلام عليها من جهة الحصر؛ لأنها لا تقتضي الحصر , وإنما الإخراج, والإخراج بعد ذلك هل هو إخراج من عموم مستغرق أو عموم مخصوص إلى آخره, وقد تقدم الكلام عليه.

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

الجمعة، 23 أكتوبر 2020

حكم الاحتفال بالمولد النبوي بنظرة أصولية مقاصدية

 

 حكم الاحتفال

بالمولد النبوي

بنظرة أصولية مقاصدية

 

 

 

د. أحمد محمد الصادق النجار


 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أما بعد, فإن من مقاصد الشرع إخراج العبد من اتباع هواه والتسليم التام المطلق لله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فيكون عبدا لله مستسلما لأوامره, ولذا مُنع من الابتداع في الدين وإدخال ما ليس منه فيه, والكلام عن حكم الاحتفال بالمولد النبوي فرع تحقيق الكلام في ضابط البدعة, وهذا يستدعي بيان ضابط البدعة ثم النظر بعد ذلك في انطباق هذا الضابط على الاحتفال بالمولد أو لا.

ومفتاح الكلام: ما علة كون الفعل بدعة؟

العلة في البدعة غير محصورة في أمر واحد, وإنما في علتين على سبيل البدل, تستقل كل واحدة منهما عن الأخرى.

وكون كل واحدة منهما مستقلة في التأثير: محله حال الانفراد, لا الاجتماع, أما إذا اجتمعا فإن الحكم يكون أقوى.

ومن الأمثلة: انتقاض الوضوء بالبول والريح والنوم, فهذه كلها علل مستقلة حال الانفراد يثبت بها الحكم على سبيل البدل.

والتحقيق أن للبدعة علتين على سبيل البدل وهما:

1-التعبد والتقرب إلى الله.

2-مضاهاة الطريقة الشرعية, وإجراؤها مجرى الشرعيات.

ومعنى المضاهاة وإجراؤها مجرى الشرعيات: مشابهة الشرعية في الالتزام, والتخصيص بهيئة أو زمان أو مكان أو عدد.

ويؤيد هذا ما سيأتي من أمثلة.

قال الشاطبي في الاعتصام: (( ...فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة , أو زمان مخصوص ، أو مكان مخصوص ، أو مقارناً لعباده مخصوصة ، والتزم ذلك بحيث صار متخيلاً أن الكيفية ، أو الزمان ، أو المكان ، مقصود شرعاً من غير أن يدل الدليل عليه . كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه))

وقال: (( ... فهذه أمور جائزة أو مندوب إليها ، ولكنهم كرهوا فعلها خوفاً من البدعة؛ لأن اتخاذها سنة إنما هو بأن يواظب الناس عليها مظهرين لها ، وهذا شأن السنة ، وإذا جرت مجرى السنن صارت من البدع بلا شك ))

وقال السيوطي في الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع: ((...العبادات المشروعة التي تتكرر بتكرر الأوقات حتى تصير سنناً ومواسم، قد شرع الله منها ما فيه كفاية المتعبد، فإذا أُحدث اجتماع زائد كان مضاهاة لما شرعه الله تعالى وسنة رسوله، وفيه من المفاسد ما تقدم التنبيه عليه، بخلاف ما يفعله الرجل وحده أو الجماعة المخصوصة أحياناً، أو نحو ذلك يفرق بين الكبير الظاهر، والقليل الخفي، والمعتاد وغير المعتاد، وكذلك كل ما كان مشروع الجنس، لكن البدعة فيما اتخاذه عادة لازمة حتى يصير كأنه واجب. ))

والسر في ذلك: أن المضاهاة جعلت أسبابا للحكم الطلبي, فكانت سببا لأن يعتقد فيها أنها سنة, ولها فضيلة؛ ذلك أن من أسباب كون الفعل سنة: الالتزام والمداومة, والتخصيص والتقيد, فأدخل في الدين ما ليس منه, فكان ذلك داخلا تحت حد البدعة.

فتبين لنا: أن وصف البدعة أمران على سبيل البدل.

وهذان الأمران يدخلان تحت حد البدعة؛ لأن البدعة ما أحدث في الدين مما لم يأت عن النبي صلى الله عليه وسلم, والدين أعم من العبادة والتعبد.

وهذا الذي ينسجم مع قواعد الشريعة, والمقاصد العامة.

فالحكم بالابتداع على المستحدثة يثبت بوجود إحدى العلتين, وإن لم توجد العلة الأخرى؛ وذلك أن العلة ليست مجموع الأمرين, ولا هي منحصرة في التعبد وحده, ولا يلزم من نفي العلة المعينة: نفي الحكم إذا وجد بدلها وهي العلة الأخرى, كما أن اجتماع العلتين: يوجب توكيد الابتداع.

وهذا التوكيد حصل بمجموع العلتين, لا بإحداهما, فكل واحدة منهما تعتبر جزء علة للمجموع, وهذا لا ينفي الاستقلالية حال الانفراد.

ووجه كون مضاهاة الشرعية, وإجرائها مجرى الشرعيات علة: دوران حكم الابتداع عليها من غير قصد التعبد وجودا وعدما, فإذا وجدت وجد الابتداع, وإذا عدمت عدم الحكم.

ومن الأمثلة على دوران الحكم على هذا الوصف من غير قصد التعبد:

1- التزام شيء معين في زمان أو مكان مع قصد الزمان والمكان.

قال السيوطي في الأمر بالإتباع والنهي عن الابتداع: (( وكل اجتماع يتكرر بتكرر الأسابيع والشهور والأعوام غير الاجتماعات المشروعة هو المبتدع، ففرق بين ما يفعل من غير ميعاد وبين ما يتخذ سنة وعادة؛ فإن ذلك يضاهي المشروع ))

وظهرت المضاهاة وإجراؤها مجرى المشروع في الالتزام, فالطريقة الشرعية ملتزمة, وتتكرر مع قصد الزمان أو المكان, فإذا انتفت هذه العلة انتفى الحكم فصار جائزا.

 2-التزام قيام الليل جماعة.

وظهرت المضاهاة وإجراؤها مجرى المشروع فيه بالالتزام, فإذا انتفت هذه العلة انتفى الحكم فصار جائزا.

3- تخصيص عمومات النصوص, أو تقييد مطلقها  على طريقة العمل بالمشروع بلا دليل, كتقييد النصوص التي أطلقت الذكر مخصوصة أو عدد مخصوص على طريقة العمل بالمشروع.

قال الشاطبي في الاعتصام: (( ووجه دخول الابتداع هنا: أن كل ما واظب عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم من النوافل وأظهره في الجماعات فهو سنة ، فالعمل بالنافلة التي ليست بسنة على طريق العمل بالسنة ، إخراج للنافلة عن مكانها المخصوص بها شرعاً .))

4-الأعياد المحدثة.

وظهرت المضاهاة وإجراؤها مجرى المشروع في التكرار في زمن مقصود, فشابه تكرار عيد الفطر والأضحى في زمن مخصوص مقصود.

ويدخل في ذلك: الاحتفال بالمولد النبوي, فالمحتفل بالمولد النبوي لا يخلو: إما أن يتقرب بذلك إلى الله, وإما أن يفعله على طريقة العمل بالمشروع, وعلى كلا الاحتمالين انطبق عليه حد البدعة بإدخال ما ليس من الدين في الدين.

وأعظم دليل يمنع من الاحتفال بالمولد ترك الصحابة الاحتفال, وهو: إجماع منهم, وتركهم هنا وجودي؛ لوجود سببه ولا مانع.

 وتركهم هذا لا يخلو من حالين:

١-تركهم له مع رؤيتهم له أنه مشروع.

٢-تركهم له مع رؤيتهم له أنه غير مشروع

فأما الأول فباطل قطعا؛ لأنه يلزم منه الطعن فيهم؛ لتركهم المشروع والتفريط فيه، ولخلو زمن عن عمل بالحق مع وجود داعيه ولا مانع.

وأما الثاني فحق، وإذا كان غير مشروع في زمنهم مع وجود داعيه ولا مانع فزمن من بعدهم من باب أولى.

فإن قال قائل: هو عادة من هم بعد الصحابة ووسيلة لمقصد حسن.

قيل: أقَصَّر الصحابة وفرطوا في جعْله عادة ووسيلة، أم هم أشرف ممن جاء بعدهم؛ لمعرفتهم أن مقام النبي صلى الله عليه وسلم أشرف من أن يجعل الاحتفال بمولده محل العادات, فالاحتفال بمولده لا يصح أن يجعل عادة محضة، ولو صح أن يجعل عادة فإنه يذم من جهة أن بداية جعله عادة كان من الرافضة.

وعليه أفنترك عادة الصحابة في عدم الاحتفال ونقتدي بعادة الرافضة في الاحتفال؟!

فإن قيل: إذا قصد بالاحتفال استثمار تاريخ هذا الحدث الجليل، والتذكير بسيرته صلى الله عليه وسلم، من غير اعتقاد فضيلة خاصة لليوم، فيكون من باب المصالح المرسلة كجمع القرآن.

قيل: هناك تشابه بين المصلحة المرسلة والبدعة من بعض الوجوه، وبسبب هذا التشابه يقع الخلط بينهما، وقد يستغل ذلك لإمرار البدع، والتلبيس على الناس.

ولذا لا بد من بيان الفرق بينهما؛ ليتضح للقارئ الكريم وجه غلطِ من خلط بينهما:

المصلحة المرسلة هي: المنفعة التي لم يشهد الشارع باعتبار عينها ولا الغائه, إلا أن جنسها يلائم تصرفات الشارع, فالمعنى أو الوصف له جنس اعتبره الشارع في الجملة.

وأما البدعة فهي: ما أحدث في الدين مما لم يأت به النبي صلى الله عليه وسلم.

ووجه التشابه بينهما:

١-كلاهما محدث.

٢-اعتبار الشارع جنس الوصف فيهما .

ووجه الافتراق:

١-أن المصلحة المرسلة لا تصادم الشرع، ولا تعارض دليلا خاصا، بخلاف البدعة فإنها تصادم الشرع وتعارض دليلا خاصا.

٢- عدم الفعل في البدع مقصد للشارع، بخلاف المصلحة المرسلة.

٣- المصالح المرسلة وسيلة لحفظ مقصد من مقاصد الشارع، وضروري من الضرورات الخمس، بخلاف البدع فهي إحداث في الدين.

بعد هذا التأصيل نطبق ما تقدم على الاحتفال بالمولد:

الاحتفال بالمولد: جنس منفعته معتبرة وهي: محبته والتذكير بسيرته والاقتداء به, إلا أن عين المنفعة في الاحتفال بالمولد صادمها دليل خاص، وهو ترك النبي صلى الله عليه وسلم لها مع وجود المقتضي وزوال المانع, وكذلك ترك الصحابة، وهو إجماع منهم.

وهذه المصادمة من أدلة خاصة جعلت حكم الاحتفال بالمولد بدعة لا مصلحة مرسلة.

أضف الى ذلك: أن الذي شرع في يوم الاثنين الذي ولد فيه: الصيام -الذي ينافي الاحتفال وجعله عيدا, فالعيد ينهى عن صيامه-، فلا يجوز ترك المشروع والاشتغال بغير المشروع تذكيرا لمولده.

ثم إن الاحتفال اتخذ عيدا، والعيد شريعة، وقد صار الناس يلتزمونه، وظُن فيه مصلحة، وهي ليست مصلحة لمصادمتها الشرع, فلا يكون الاحتفال وسيلة لمقصد شرعي وانما هو إحداث في الدين.

ولو سلم جدلا أن الاحتفال فيه مصلحة التذكير بالسيرة، وإذكاء المحبة, ففيه أيضا مفسدة، وهي الابتداع في الدين، ولازم الابتداع اتهام النبي صلى الله عليه وسلم بخيانة الأمانة، وفيه فتح الباب لأهل الغلو أن يغلوا في النبي صلى الله عليه وسلم ويرفعوه فوق منزلته, وهذه المفسدة أرجح من المصلحة المتوهمة, ودفع المفسدة الراجحة مقدم على جلب المصلحة المرجوحة، فكيف بالمتوهمة؟!!

ومما ينبغي أن يعلم: أن للمجوزين شبهات يوردونها, منها:

الشبهة الأولى: على افتراض أن الدولة العبيدية أول من أحدث المولد فليس هذا دليلا على المنع؛ فقد أخذ النبي صلى الله عليه وسلم تعظيم يوم عاشوراء من اليهود

والرد من وجوه:

الأول: الذي يشرع التعظيم والاحتفال هو الله, فكل ما شرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم يكون شرعا سواء وافق يوما يعظمه اليهود أو لا, وإنما محل النزاع مع المجوزين أن يشرع الاحتفال غير النبي صلى الله عليه وسلم.

الثاني: هؤلاء المجوزون كأنهم – من باب اللزوم- يساوون في تشريع الشرع بين النبي صلى الله عليه وسلم وبين الرافضة الدولة العبيدية, وهذا كفر نعوذ بالله منه.

الثالث: تعظيم يوم عاشوراء إنما شرع بتشريع الله له لا أن النبي صلى الله عليه وسلم أخذ تشريعه من اليهود.

 

الشبهة الثانية: أن المولد بدعة حسنة.

والرد من وجوه:

الوجه الأول: أن القول بالبدعة الحسنة حمال أوجه؛ لإطلاق بعضهم على المصلحة المرسلة أنها بدعة, إلا أن البدعة الشرعية لا تكون حسنة؛ لعموم قوله صلى الله عليه وسلم: (وكل بدعة ضلالة) وهو عموم محفوظ لا مخصص له, ولا قول بعد قول رسول الله صلى الله عليه وسلم.

الوجه الثاني: أن البدعة الشرعية من الاستحسان المذموم, وقد قال الشافعي رحمه الله: ((من استحسن فقد شرع)) أي: نصب نفسه مشرعا مع الله, وهو الاستحسان بمجرد الهوي من غير دليل شرعي, وهذه هي حقيقة البدعة الحسنة التي يدعونها.

الوجه الثالث: ما ورد عن السلف من إطلاق لفظ البدعة على ما كان مشروعا أرادوا به البدعة اللغوية لا الشرعية؛ بدليل أن الفعل الذي أطلق عليه أنه بدعة قد جاء الشرع به, فخرج عن حد البدعة الشرعية؛ لأن البدعة الشرعية هي ما أحدث مما لم يفعله النبي صلى الله عليه وسلم, قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم :(( وأما ما وقع في كلام السلف من استحسان بعض البدع، فإنما ذلك في البدع اللغوية، لا الشرعية، فمن ذلك قول عمر - رضي الله عنه - لما جمع الناس في قيام رمضان على إمام واحد في المسجد، وخرج ورآهم يصلون كذلك فقال: نعمت البدعة هذه ))

ومن ذلك قول الشافعي: (( البدعة بدعتان بدعة خالفت كتاباً وسنة وإجماعاً وأثراً عن بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهذه بدعه ضلاله وبدعة لم تخالف شيئاً من ذلك فهذه قد تكون حسنة لقول عمر نعمت البدعة ))

فأراد بالحسنة ما كان مشروعا, وهذا خارج محل النزاع لو كانوا يفقهون.

الوجه الرابع: قال الشاطبي ردا على من قسم البدعة بحسب الأحكام الخمسة: (( هذا التقسيم أمر مخترع، لا يدل عليه دليل شرعي، بل هو نفسه متدافع; لأن من حقيقة البدعة أن لا يدل عليها دليل شرعي; لا من نصوص الشرع، ولا من قواعده.

إذ لو كان هنالك ما يدل من الشرع على وجوب أو ندب أو إباحة; لما كان ثم بدعة، ولكان العمل داخلا في عموم الأعمال المأمور بها أو المخير فيها، فالجمع بين كون تلك الأشياء بدعا، وبين كون الأدلة تدل على وجوبها أو ندبها أو إباحتها جمع بين متنافيين.))

الوجه الخامس: أن الاحتفال بالمولد بدعة شرعية مذمومة؛ لأنه لم يشرعه النبي صلى الله عليه وسلم, فهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: (( كل بدعة ضلالة )).

 

الشبهة الثالثة: أن يوم المولد فضل بالصيام فيه, فعظم النبي صلى الله عليه وسلم يوم مولده بالصيام, فيصح تعظيمه بالاحتفال؛ قياسا.

والرد عليهم: أن العبادات والتعظيم يقتصر فيه على ما ورد به النص من غير تجاوز له, فنعظم يوم مولده صلى الله عليه وسلم بالصيام؛ لورود النص به دون غيره, كما أننا نصلي الظهر أربعا من غير زيادة على ذلك.

ثم إن التعظيم الذي ورد به النص متعلق بيوم الاثنين, ولهذا يصام كل اثنين من غير أن يختص بشهر معين, ولو كان صلى الله عليه وسلم يريد منا أن نعظم الشهر التي ولد فيه لحدده لنا, فلما لم يحدده دل ذلك على أن المراد تعظيم يوم الاثنين بالصيام فيه لا خصوص الشهر.

وقد اختلف المؤرخون في تحديد الشهر الذي ولد فيه صلى الله عليه وسلم؛ مما يدل على عدم قصد الشارع له بالتعظيم.

ثم لو كان الاحتفال مشروعا يوم الاثنين لأرشد إلى ذلك وأومأ إليه, فلما لم يرشدهم مع وجود السبب وانتفاء المانع دل على المنع.

أضف إلى ذلك: أن قياس الاحتفال على الصوم قياس مصادم لإجماع السلف؛ بتركهم الاحتفال مع قولهم بمشروعية الصيام يوم الاثنين, فيكون فاسد الاعتبار.

 

الشبهة الرابعة: أن المولد يستند على أصول شرعية كالأمر بالصلاة عليه, وعليه فإحداثه ليس بدعة ولو لم يعمل به السلف.

والرد من وجوه:

الأول: أن تخصيص عام أو تقييد مطلق لابد فيه من دليل خاص, والا كان تشريعا, وهو خاص بالله وحده.

الثاني: لا يجوز أن يتعدى المشروع إلى غير المشروع, فالأمر بالصلاة على النبي صلى الله عليه وسلم ومعرفة سيرته وردت مطلقة فتقييدها بوقت مخصوص من البدع التي تحتاج إلى دليل خاص.

الثالث: إجماع السلف على ترك الاحتفال مع وجود السبب وانتفاء المانع دليل على منعه, ولا يصح أن يعارض هذا الإجماع الخاص بالأصول العامة؛ لأنه دليل خاص على فعل خاص, والخاص يقضي على العام.

 

الشبهة الخامسة: أن جمهور العلماء يرون مشروعية الاحتفال بالمولد.

والرد عليهم: أن إجماع السلف من القرون الثلاثة, بل إجماع العلماء إلى القرن السادس على عدم جواز الاحتفال بالمولد, فأين هؤلاء الجمهور؟!

فإن لم يكن هذا الاجماع حجة على من جاء بعدهم فقد لا يكون هناك إجماع يصح الاعتماد عليه؟

قال الفاكهاني ت734هـ في المورد في عمل المولد: ((لا أعلم لهذا المولد أصلا في كتاب ولا سنة، ولا ينقل عمله عن أحد من علماء الأمة، الذين هم القدوة في الدين، المتمسكون بآثار المتقدمين؛ بل هو بدعة أحدثها البطالون، وشهوة نفس اغتنى بها الأكالون ))

 

الشبهة السادسة: قول بعضهم: (من يمنع الاحتفال بالمولد النبوي ينبغي أن يمنع أيضا تنظيم المسابقات في القرآن الكريم والاحتفال به وتوزيع الجوائز على الفائزين...، فكلّ من الأمرين لم يفعلهما النبي الكريم عليه الصلاة والتسليم ولا الصحابة ولا السلف...، وكلاهما فعل للتعبد والتقرب...).

 والرد عليها من وجوه:

الوجه الأول: تنظيم المسابقات ونحوها إذا كان على وجه التعبد فإننا نلتزم بأنه بدعة، ولا فرق بين الاحتفال بالمولد تعبدا وبين تنظيم المسابقات تعبدا، فكلاهما اشتمل على زيادة عبادة لم يشرعها النبي صلى الله عليه وسلم، والزيادة في الدين كالنقص منه.

الوجه الثاني: أن مُورد هذه الشبهة لم يحسن إيرادها, وسأصحح له الإيراد: اذا كان تنظيم المسابقات الدينية جائزا، فلماذا لا يكون الاحتفال بالمولد كذلك؟, والجامع: وسيلة محدثة لتحقيق مقصد حسن.

والجواب:

١-الأذان للعيد وسيلة لتحقيق مقصد الاجتماع للصلاة ومع ذلك هو بدعة، فانتقض الجامع.

٢-لا نسلم أن الاحتفال بالمولد وتنظيم المسابقات الدينية يشتركان في هذا الجامع؛ لأن الاحتفال بالمولد إحداث في الدين لما جعل عيدا، وكان الزمان مقصودا، أخذ حكم البدعة؛ لأنه جعل طريقة تضاهي الطريقة الشرعية.

بخلاف تنظيم المسابقات فالزمن فيه ليس مقصودا، وهو وسيلة لتحقيق مقصد شرعي.

3-الاحتفال بالمولد يصادم دليلا خاصا، بخلاف تنظيم المسابقات فإنه لا يصادم دليلا خاصا.

 

 الشبهة السابعة: قول بعضهم: إن الاستدلال بصيامه صلى الله عليه وسلم إنما هو في جوابه "ذاك يوم ولدت فيه " وهذه علة الصيام فيقاس على الاحتفال بمولده؛ لاشتراك العلة.

والرد عليها من وجوه:

الوجه الأول: منع أن تكون هذه هي العلة؛ وذلك أن لفظ الحديث في مسلم: وسئل عن صوم يوم الاثنين قال ذاك يوم ولدت فيه ويوم بعثت أو أنزل علي فيه.

فالعلة مركبة وليست بسيطة, فهي مجموع ما ذكر, والولادة فيه إحدى جزئي العلة، فلا يصح أن تجعل علة وحدها.

ثم إن هذه العلة المركبة لم تجتمع في الثاني عشر من ربيع الاول وانما اجتمعت في مطلق الاثنين، فلا يصح تخصيص الثاني عشر من ربيع الأول بشيء.

الوجه الثاني: إن سلم أنها هي العلة فقط فنمنع من التعدية؛ ذلك أن هذه العلة قاصرة فلا يتعدى بها محلها.

ومما يدل على أنها قاصرة: ترك النبي صلى الله عليه وسلم الاحتفال بمولده مع وجودها، وكذلك لم يعدها أحد من السلف.

الوجه الثالث: لو سلم بتعديتها فالاحتفال بالمولد عارضه دليل خاص، وهو الترك، فيكون قياس الاحتفال على الصيام قياسا فاسد الاعتبار.

الوجه الرابع: أن الفرع معلوم الحكم وهو التحريم، لترك النبي صلى الله عليه وسلم, ومن شرط الفرع: ألا يكون معلوم الحكم.

 

وأختم الكلام في حكم الاحتفال بالنظر إلى الواقع وما أفضى إليه القول بالجواز, فإن واقع المحتفلين بالمولد النبوي وهو واقع الكثير أو الغالب أنه يصاحب احتفالهم أدعية تشتمل على أمور شركية وبدعية كالاستغاثة بالنبي صلى الله عليه وسلم وطلب الحاجات منه, وكذلك يصاحب احتفالهم ألعابا نارية تهدر فيها الأموال وتذهب ببعض الأعضاء وربما الأنفس؛ حتى صار هذا الواقع  مصاحبا للاحتفال في الكثير أو الغالب مصاحبة لا تنفك, فأصبح الاحتفال وسيلة إلى وقوع حرج في الضرورات الخمس؛ لأنها سبب للتعدي على الدين وسبب لقتل الأنفس.

 فلو سلمنا جدلا بأن احتفال من قبيل العادة التي تصيره مباحا, فالقاعدة الشرعية المقاصدية أن كل ما أدى إلى المفسدة كثيرا أو غالبا تأتي الشريعة بالنهي عنه وإن كانت فيه مصالح, ولذا حرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم, ونهى عن بناء المساجد على القبور, وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.

قال الشاطبي في الموافقات (3/ 85): (والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل؛ فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها، راجع إلى ما هو مكمل؛ إما لضروري، أو حاجي، أو تحسيني)

ولا يقال: الأصل فيها الإباحة؛ لأن المقصود بالأشياء هنا التي لم يدل دليل على النهي عنها إما بدليل كلي أو جزئي, والمانعون يقولون: فيها ضرر غالب أو كثير , وهذا يستدعي تحريمها.

ولا يقال أيضا: وسيلة لها أحكام المقاصد؛ لأنها- بالنظر المتقدم- تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم.

ولا يقال أيضا: تعتريها الأحكام الخمسة؛ لأنها تفضي إلى الحرام.

هذا كله إذا سلم أنه غير منهي عنها ابتداء.

 

 

 

 

الثلاثاء، 13 أكتوبر 2020

مخالفة العوائد وإنكار المحدثات الزوائد

 

مخالفة العوائد وإنكار المحدثات الزوائد

إن أعظم ما يُخشى على الناس عموما والمشايخ خصوصا ما يدخل على السنن الأصلية والمسائل العلمية والأصول الأثرية من شوائب المحدثات والبدع الزائدات حتى تصبح مجموعها من العوائد التي اعتاد عليها الناس أنها الدين والسنة, ويكون منكرها عندهم مخطئا قطعا وضالا جزما عن سبيل الحق وسلك الأئمة المعتدلين.

فما غلبت عليه العوائد يصبح دينا يصعب إنكاره؛ لأن أهلها يرون أن ما هم عليه هو السنة المحضة والدين الحق, فمنكره يكون خارجا عندهم عن السنة غارقا في البدعة مستحقا للعقوبة.

ولعظم هذه الحال وشدة الوطئة على المنكر جعل الله لإحياء السنن منزلة عظيمة ورفعة لصاحبها, فمن أحيا سنة أميتت له من الأجر مثل أجر من عمل بها إلى قيام الساعة.

والمستمسك بالسنن هو بين أن يتبع السنة ويخالف ما اعتاده الناس فينجو عند الله, وبين أن يترك السنن ويتبع العوائد ويجد لذلك مخرجا ومسوغا فيهلك ويهلك,  وما أجمل وصف الشاطبي القائل في كتاب الاعتصام: (فتردد النظر بين أن أتبع السنة على شرط مخالفة ما اعتاد الناس ; فلا بد من حصول نحو مما حصل لمخالفي العوائد، ولا سيما إذا ادعى أهلها أن ما هم عليه هو السنة لا سواها، إلا أن في ذلك العبء الثقيل ما فيه من الأجر الجزيل، وبين أن أتبعهم على شرط مخالفة السنة والسلف الصالح، فأدخل تحت ترجمة الضلال عائذا بالله من ذلك، إلا أني أوافقالمعتاد، وأعد من المؤالفين لا من المخالفين؟!

فرأيت أن الهلاك في اتباع السنة هو النجاة، وأن الناس لن يغنوا عني من الله شيئا، فأخذت في ذلك على حكم التدريج في بعض الأمور، فقامت علي القيامة، وتواترت علي الملامة، وفوق إلي العتاب سهامه، ونسبت إلى البدعة والضلالة، وأنزلت منزلة أهل الغباوة والجهالة.

وإني لو التمست لتلك المحدثات مخرجا; لوجدت؛ غير أن ضيق العطن والبعد عن أهل الفطن رقى بي مرتقى صعبا وضيق علي مجالا رحبا، وهو كلام يشير بظاهره إلى أن اتباع المتشابهات، لموافقات العادات، أولى من اتباع الواضحات، وإن خالفت السلف الأول).

وفي عصرنا هذا نجد من يدندن على بدع محدثات مخلوطة بسنن أصليات, ويروج لها ويكثر الكلام عليها حتى أضحت مجموعها في بعض المجتمعات تقرب من العوائد التي ينسب منكرها إلى البدعة والضلال, ونخشى إن استمر الحال أن تصبح كأنها سنن أصليات وشرائع واجبات, فيختلط المشروع بغير المشروع, ويصبح المستمسك بالسنة كالنابذ للسنة...

فكان لزاما على أهل العلم أن ينكروها قبل أن تصبح من العوائد فيصعب الأمر ويشتد الخطب, كما كان التعصب للمذهب يوما هو الدين, والمعتقد عقيدة المتكلمين هو الموحد, ومن لم يسلك سبيل المتنسكين ليس متنسكا.

ومن أعظم ما يروج له الإعلام الملبس والأئمة المضلون في وقتنا وبلدنا: تسويغ الخلاف في مسائل الإجماع - إجماع أهل الحديث-.

فيا طلبة العلم هلموا لبيان السنن, فهو من الجهاد في سبيل الله, ولا يثبطكم المثبطون الذين يسوغون العوائد ويبررون الشوائب, ولنقف وقفة رجل واحد أمام دعاة السوء.

والله المستعان

كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار