الأربعاء، 29 يونيو 2022

القول بحرمة الأخذ من الشعر لمن أراد أن يضحي قول معتبر

 

تصوير أن القول بحرمة الأخذ من الشعر والأظفار لمن أراد أن يضحي: شاذ تفرد به الحنابلة وأن فقه التيسير يقتضى الجواز

بعيد عن التحقيق العلمي

وممن قال بالتحريم:

1-أم سلمة

2-سعيد بن المسيب

3-ربيعة الرأي

4-ابن سيرين

5-أحمد

6-إسحاق بن راهويه

7-ابن المنذر

8-الأوزاعي

9-أبو ثور

10-وجه عند الشافعية

11-ابن حزم

ففي مصنف ابن أبي شيبة (4/ 434) حدثنا أبو بكر قال حدثنا حاتم بن اسماعيل عن عبد الرحمن بن حرملة عن سعيد بن المسيب أنه قال : من كان يريد أن يضحي ، فلا يأخذ من شعره ولا من أظفاره شيئا إذا أهل ذو الحجة.

قال الترمذي في جامعه سنن الترمذي ت بشار (3/ 154): (وبه كان يقول سعيد بن المسيب، وإلى هذا الحديث ذهب أحمد، وإسحاق)

وقال البغوي في شرح السنة للبغوي (4/ 348): (فذهب قوم إلى أنه لا يجوز لمن يريد الأضحية بعد دخول العشر أخذ شعره وظفره ما لم يذبح، وإليه ذهب سعيد بن المسيب، وبه قال ربيعة، وأحمد، وإسحاق)

وقال القاضي عياض المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم (17/ 81): ( أخذ بظاهر هذا النهي أحمد ، وإسحاق ، وابن المنذر ؛ فمنعوا ذلك).

وقال النووي في المجموع شرح المهذب (8/ 391): (وفيه وجه أنه حرام حكاه أبو الحسن العبادي في كتابه الرقم وحكاه الرافعي عنه لظاهر الحديث)

وهؤلاء الأئمة خلافهم معتبر وقد استندوا على دليل؛ مما يمنع من وصف قولهم بالشذوذ.

ثم كيف يتجرأ طالب علم فيصف قولهم بالشذوذ مع أنه ليس في المسألة حديث صحيح صريح ولا معارض له, وليس فيها إجماع؟!!

 

أضف إلى ذلك أن الكراهة في لسان المتقدين يراد بها التحريم, كما حقق ذلك ابن القيم في إعلام الموقعين

وقد ذكر ابن حزم في المحلى بالآثار (6/ 28) : (... أن يحيى بن يعمر كان يفتي بخراسان: أن الرجل إذا اشترى أضحية، ودخل العشر أن يكف عن شعره وأظفاره حتى يضحي.

قال سعيد: قال قتادة: فذكرت ذلك لسعيد بن المسيب فقال: نعم، فقلت: عمن يا أبا محمد؟ قال: عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم -.

قال مسدد: ونا المعتمر بن سليمان التيمي سمعت أبي يقول: كان ابن سيرين يكره إذا دخل العشر أن يأخذ الرجل من شعره حتى يكره أن يحلق الصبيان في العشر، وهو قول الشافعي، وأبي ثور، وأحمد، وإسحاق، وأبي سليمان، وهو قول الأوزاعي)

 

أما الاتكاء على التيسير من غير نظر لمقتضى النصوص الشرعية ولا ضابط المشقة التي راعاها الشارع فهو في الحقيقة ليس من فقه التيسير في شيء؛ إذ إن رد ما ثبت به النص أو ما أمكن فيه الجمع بدعوى التيسير  من التساهل المذموم.

 

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

 

هل مصلحة الرد على المخطئ خطأه المنسوب للدين ارجح من المفسدة؟

السلام عليكم شيخنا

شيخنا حفظكم الله وثبتكم،

ما المصلحة المرجوة من منشور قصتك مع الكلية وانتقاد المفتي علنا؟
شيخنا هل وجب الغض عن كل المفاسد المترتبة على مثل هذه المناشير لأجل مصلحة ما؟ وما هي؟ وهل هي مقدمة على مفاسده ؟
شيخنا هذه أسئلة لا مساءلة، فأنت أعلم وأدرى، ولكن شغلني ما يحصل بينك وبين الدار وطلاب العلم، وصرت  في حيرة من أمري.!
أسعفنا بجواب يزيل عنا الإشكالات ويهدينا إلى الحق والصواب.

وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
حفظك الله وهداني الله وإياك إلى الحق والصواب

لاشك أن أهل العلم مطلوب منهم وجوبا حفظ الدين من جهة الوجود -أي تثبيت الدين وأركانه- ومن جهة العدم -أي درء كل ما يخل به-
ومن وسائل حفظ الدين: الرد على الخطأ الذي ينسب إلى الدين أو يخل بأصوله مهما كانت مكانة المخطئ؛ لأن النظر إلى الدين وحفظه أعظم من النظر إلى المخطئ ومكانته.
وقد كان الصحابة يرد بعضهم على بعض كرد ابن عباس على أبي بكر وعمر رضي الله عنهم في حجة التمتع، وردود عائشة وابن عمر وغيرهم رضوان الله عليهم..

وهذه المقدمة لا تكاد تجد من ينكرها، وقد أجمع عليها أهل السنة وغيرهم، ولذا كان هذا يرد على ذاك والعكس على مر العصور، بحسب ما يراه دينا ويذب عنه...

ولم ينظر أئمة السنة إلى مكانة المخطئء إذا أخطأ علنا مادام أن خطأه منسوب إلى الدين؛ لأن المقصود حفظ الشريعة من أن ينسب لها القول الخطأ
بل نجد ابن عباس رضي الله عنه رد على أبي بكر الخليفة رضي الله عنه علنا وكان يقول:(يوشك ان تنزل عليكم حجارة من السماء أقول لكم قال رسول الله وتقولوت قال أبوبكر وعمر) وإنكاره في مسألة تحتملها الأدلة، ولم يفهم أحد أن ذلك ينقص من مكانة المردود عليه أو فيه إيغار القلوب عليه ...
وكذا في المعاصرين ردود الشيخ الألباني على علماء الحجاز وكبار العلماء، والعكس، كل ذلك علنا...

ولو سلكنا مسلك السبر والتقسيم في بيان المصالح والمفاسد في الرد على المخطئ علنا وإن كان مفتيا للبلاد، أو دار إفتاء، لقلنا:
المصالح من الرد المعلن هي:
١-حفظ الدين من أن ينسب له ما ليس فيه.
٢-الحد من فشو الخطأ وانتشاره.
٣-بيان أن أهل العلم مهما علت منزلتهم في العلم يخطئون بل يقعون في زلات.
٤-رفع الإثم عن الساكت عن بيان الحق.
٥-دفع حجج العوام على أن الكلام حق؛ لسكوت أهل العلم عليه.
٦-درء المفاسد المترتبة على الخطأ خصوصا إذا خشي منها نقض أصل عقدي أو وقوع مفسدة كبرى.
٧-نصح المخطئ ونصح أتباعه.
وكلما كانت مكانة الشخص في أتباعه عظيمة كان الرد عليه أعظم وأوجب؛ لأن مكانته تجعل انتشار الخطأ وذيوعه ونسبته للشريعة أعظم.
ومما تميز به أهل السنة حقا أنهم لا يرون أحدا فوق الرد إلا المعصوم، ولذا تجد يرد بعضهم على بعض بعلم وأدب.

أما المفاسد فهي:
١- التنقص من المخطئ والطعن فيه والهجوم عليه.
٢-عدم ثقة الناس فيه.
٣-الإصرار على الخطأ.
٤-طعن الأتباع في الراد وسبه.
وغير ذلك
وإذا نظرنا إلى جملة المفاسد وجدنا إما أنها متوهمة أو يمكن دفعها بحفظ مكانة المخطئ وأنه لا يلزم من الرد الطعن والتنقص...
ولو فرضنا التعارض بين المصالح والمفاسد وأنه لا يمكن الجمع بينها
فمرتبة المصالح المتقدم ذكرها أعلى من مرتبة المفاسد المتقدمة، مما يوجب تقديم المصالح..
كما أن المصالح في مجملها متعلقة بالدين بخلاف المفاسد فهي متعلقة بالشخص، وما تعلق بحفظ الدين مقدم على ما تعلق بالشخص.
كما أن الواقع في ليبيا يتطلب خطابا دينيا مقاصديا لعلي أبين شيئا مما أقصده في مقال خاص..
فإن قيل: أليس درء المفاسد مقدما على جلب المصالح؟
قيل: نعم، إذا تساوت المصالح والمفاسد، وفي مسألتنا المصالح هي الأرجح.

وأنبه هنا إلى أن الإفتاء ليس ولاية شرعية، وإنما الذي ذكره العلماء في الولايات: القضاء؛ لأنه ملزم.

بعد هذا التطواف المقاصدي -وفقك الله- أعود بك إلى مصلحة الكلام عن #كلية_علوم_الشريعة_والإفتاء

فأقول: تعود المصلحة إلى حفظ أصول الدين، فما كان من الدين قطعي يجب أن يدرس على أنه قطعي، ولا يلزم من ذلك تنقص من خالف القطعي، فتصوير أن تدريس أصول العقيدة على أنها قطعية يلزم منه التعصب والطعن والتصنيف والتنقص وأن هذا من منهجِ المتعصبةِ الغَالينَ، من المنتسبينَ إلى أهلِ الحديثِ، الذينَ مزَّقوا الأمةَ بصِراعاتِهم: أمر عظيم يدل على توجه سيء  وضبابية في الرؤية!!
ومن المعلوم أن ناك فرقا بين التعصب للحق والتحزب له وبين الطعن والتنقص للأشخاص
فهل أئمة السلف كأحمد والدارمي وابن خزيمة والبخاري والترمذي وأبي داوود لما صنفوا كتبا خاصة في الرد على المتكلمين وبينوا انحرافهم عن المعتقد الصحيح وشددوا في ذلك فرقوا الأمة وبذروا الشقاق؟!!

ومع ذلك نقول: إن المتكلمين مع انحرافهم في باب أصول الاعتقاد إلا أن وزنهم محفوظ في العلوم الأخرى ويستفاد منهم فيها..

ولم نقرر يوما أنه لا يستعان بمن انحرف في الاعتقاد في تدريس العلوم الأخرى إذا اقتضت الحاجة، ولا أن تصبح الكلية محلا لتبديع الأشخاص، وقد حاربت في الكلية نفسها الغلو في التبديع وكنت أناقش الطلاب المتأثرين بهذا

فالحقيقة أننا كنا نربي الطلبة في الكلية على التفريق بين المسألة وصحة الاعتقاد والقطع به وبين عذر المخطئ في الأصول وقوة الشبهة عليه مما جعله يزل...
ونربيهم أيضا على أنه لا يلزم من عدم صحة اعتقاده طرح أقواله مطلقا..

فحصل الانسجام وتحقق العدل...

ولم أكن أسكت عن الخطأ في الكلية إذا حصل ووقع وإنما أعالجه بما يقتضيه المقام، وما كان في الوسع والإمكان
وأدعو إلى وحدة الكلمة بالاجتماع على الحق وعدم الاختلاف فيه
فكنت أصلح وأنا مدرس فيها، لا كما يدعي بعضهم زورا أني لم أتكلم وأصلح إلا بعد الاستغناء!!
وكنت ألمس في طائفة من الطلاب وبعضهم كان يصرح أثناء النقاش أن الاجتهاد توقف أو عدم أهله وأن قراءة كتب أصول الفقه ونحوها من باب العلم بالمصطلحات وحتى يفهم كلام فقهاء المذهب!!
فكنت أصحح لهم هذا الفهم وأبين لهم أن هناك فرقا بين التعصب للمذهب وبين كون التمذهب وسيلة لتحصيل الملكة الفقهية
وكنت أبين لهم أيضا أن الاجتهاد لا ينقطع إلى يوم القيامة ولا يشترط في المجتهد أن يكون كمالك وأبي حنيفة والشفاعي وأحمد إلى غير ذلك...

وأذكر أن بعض المشايخ ممن يدرس في الكلية كان يتكلم في درسه عن: الله في كل مكان أو لا في جهة ونحو ذلك
وآخر كان يقرر أن العبرة بالنتيجة لا بالوسيلة فالمتكلمون وأهل الحديث كلهم يريدون التنزيه لكن اختلفوا في الوسيلة فمنهم من أخذ بظاهر النص ومنهم من خرج بمقتضى عقله فهو من الخلاف الذي لا يشدد فيه!!
فكان الطلاب يوردون هذه الشبه ويطلبون مني الإجابة، فقد كنت أخصص لهم وقتا للأسئلة..
وعرف عن أحد الطلاب ممن ينسب نفسه للمتكلمين يشوش من ورائي وو

والخلاصة: أن نقدي لم يكن لأجل النقد والطعن وليس فيه تعالم، وإنما هو النصح وتصحيح الخلل
ولم أخرج عن لغة أهل العلم، وقد وازنت بين المصالح والمفاسد بحسب علمي وتبين لي أن مصلحة الرد أعظم.

وكم تمنيت أن تسود لغة العلم والأدب في ردود من رد علي -ومنهم من كنت أظن فيه الإنصاف وأنه يحمل هم الاعتقاد الصحيح والإصلاح-،
لكن غلب عليها الافتراء والتهم والخروج عن أدب الحوار وسمت أهل العلم!!
ولله الأمر من قبل ومن بعد.

ورحم الله شيخ الإسلام القائل في «ردّه على الأخنائي» (ص/21): «فأما ما فيه من الافتراء والكذب على المجيب فليس المقصود الجواب عنه، وله أسوة بأمثاله من أهل الإفك والزور، وقد قال -تعالى-: {إِنَّ الَّذِينَ جَاؤُوا بِالإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ لاَ تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِّنْهُم مَّا اكْتَسَبَ مِنَ الإِثْمِ }[النور:11].

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


الأربعاء، 22 يونيو 2022

مشروعية جهاد الدفع مقيدة بتحقيق المقصود منه

 

مشروعية جهاد الدفع مقيدة بتحقيق المقصود منه

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أما بعد, فإن من الأمور التي أوكلها الله للحكام أبرارا كانوا أو فجارا: جهاد الكفار والبغاة؛ لمصالحه العظيمة, وتصرفات الولاة فيه يجب أن تكون منوطة بالمصلحة الشرعية التي يتحقق بها حفظ الضرورات, والافتيات عليه في هذا الأمر يؤدي إلى فوضى ومفاسد عظيمة, وهو سلم للفتن.

ففي مواهب الجليل في شرح مختصر خليل (3/ 350): (وقال الشيخ أحمد زروق في بعض وصاياه لإخوانه التوجه للجهاد بغير إذن جماعة المسلمين وسلطانهم فإنه سلم الفتنة وقلما اشتغل به أحد فأنجح)

ولذا لم يكن لغير الحاكم أن يأمر به, وأن يخاطب به عامة الناس, ومن فعل ذلك أوقع الأمة في الفتنة.

ففي مسائل حرب الكرماني (3/ 1062): (وكان الحسن يقول: أربع من أمر الإسلام إلى السلطان: الحكم، والفيء، والجهاد، والجمعة.

قلت لهشام: وإن بروا أو فجروا؟ قال: وإن بروا أو فجروا).

وقال ابن قدامة في المغني (10/ 368): (وأمر الجهاد موكول إلى الامام واجتهاده ويلزم الرعية طاعته فيما يراه من ذلك)

ويدل على هذا ما جاء:

في صحيح البخاري (4/ 15) عن ابن عباس رضي الله عنهما، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا هجرة بعد الفتح، ولكن جهاد ونية، وإذا استنفرتم فانفروا»

فعلق الدعوة إلى الجهاد بالحاكم تعلق الشرط بالمشروط, ومفهوم المخالفة أنه إذا لم يستنفر فلا يؤمر الناس بالنفير؛ مما يدل على أن الدعوة إلى الجهاد معلقة بالحاكم.

قال ابن تيمية في منهاج السنة النبوية (6/ 118): (والجهاد لا يقوم به إلا ولاة الأمور، فإن لم يغز معهم، لزم أن أهل الخير الأبرار لا يجاهدون، فتفتر عزمات أهل الدين عن الجهاد، فإما أن يتعطل، وإما أن ينفرد به الفجار، فيلزم من ذلك استيلاء الكفار، أو ظهور الفجار، لأن الدين لمن قاتل عليه)

وفي صحيح مسلم (3/ 1471)  عن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم، قال: «إنما الإمام جنة، يقاتل من ورائه، ويتقى به، فإن أمر بتقوى الله عز وجل وعدل، كان له بذلك أجر، وإن يأمر بغيره كان عليه منه»

قال ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (6/ 116): (وقوله إنما الإمام جنة بضم الجيم أي سترة لأنه يمنع العدو من أذى المسلمين ويكف أذى بعضهم عن بعض والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس)

وقال النووي في شرح النووي على مسلم (12/ 230): (ومعنى يقاتل من ورائه أي يقاتل معه الكفار والبغاة والخوارج وسائر أهل الفساد والظلم مطلقا)

ولتعلقه بالحاكم نص أئمة أهل السنة على إقامة الجهاد مع الأمراء أبرارا كانوا أو فجارا

ففي أصول السنة للإمام أحمد: (والغزو ماض مع الأمراء إلى يوم القيامة البر والفاجر لا يترك) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (ص: 160)

وفي عقيدة الرازيين: ( ونقيم فرض الجهاد والحج مع ائمة المسلمين في كل دهر وزمان) شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة للالكائي (ص: 177)

 لكن هنا سؤال, وهو: هل يستثنى من ذلك دفع الصائل؟

وجوابه: أن دفع الصائل وهو ما يعرف بجهاد الدفع, أوجبه الله؛ لما فيه من دفع الكفر والإضرار بالمسلمين.

فهذا هو المقصود من شرعيته.

وهذا النوع من الجهاد قد يكون من الضروريات وقد يكون من التكميليات بحسب الحال, فإذا هجم الكفار على بلاد المسلمين وتحقق النفير العام وترتب على تركه ذهاب مصالح الدين والدنيا ولم يترتب على تركه إلا الإضرار بالمسلمين صار ضروريا ووجب على كل مسلم بحسب إمكانه وقدرته, ولا يتعلق بالحاكم إذا تعذر استئذانه أو فوت مصلحة ضرورية تفوت, أو فرض عدم وجوده.

قال ابن تيمية في الفتاوى الكبرى (5/ 538): (وأما قتال الدفع فهو أشد أنواع دفع الصائل عن الحرمة والدين فواجب إجماعا فالعدو الصائل الذي يفسد الدين والدنيا لا شيء أوجب بعد الإيمان من دفعه فلا يشترط له شرط بل يدفع بحسب الإمكان).

وفي هذا المعنى من تعرض للتهديد المباشر في نفسه أو عرصه أو ماله؛ لما رواه أبو داود والترمذي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال:“منْ قُتِل دُونَ مالِهِ فهُو شَهيدٌ، ومنْ قُتِلَ دُونَ دمِهِ فهُو شهيدٌ، وَمَنْ قُتِل دُونَ دِينِهِ فَهو شهيدٌ، ومنْ قُتِل دُونَ أهْلِهِ فهُو شهيدٌ”.

 

فإذا هجم العدو على البلد وتعذر الاستئذان فلا يتوقف وجود الجهاد على إذن الإمام بل ولا على وجوده؛ لأن في الجهاد هنا حفظا للضرورات, فتتحقق به المصلحة وتدفع به المفسدة العظمى.

وقد قدم الله الجهاد على حرمة الزمان والمكان؛ فقال تعالى: [ يسئلونك عن الشهر الحرام قتال فيه قل قتال فيه كبير وصد عن سبيل الله وكفر به والمسجد الحرام وإخراج أهله منه أكبر عند الله والفتنة أكبر من القتل ]

فعدم الاستئذان في جهاد الدفع مقيد – كما سيأتي- بتحقيق المقصود منه وهو عدم الإضرار بالمسلمين.

أما إذا لم يتعذر استئذانه ولم يفوت مصلحة ضروربة ولم يكن التهديد مباشرا فإنه لابد من استئذانه؛ للمصلحة العامة واجتماع الكلمة ووحدة الأمة وترتيب الصفوف.

ولا يتصور منه إلا الإذن؛ لتعلق الأمر بالضرورات.

ففي البيان والتحصيل (2/ 590) سئل مالك عن العدو ينزل بساحل من سواحل المسلمين، أيقاتلهم المسلمون بغير استئمار الوالي؟

فقال: أرى إن كان الوالي قريبا منهم - أن يستأذنوه في قتالهم قبل أن يقاتلوهم، وإن كان بعيدا لم يتركوهم حتى يقعوا بهم.

وفي مسائل الإمام أحمد رواية ابنه عبد الله (ص: 258) قال سمعت ابي يقول: إذا أذن الإمام القوم يأتيهم النفير فلا بأس أن يخرجوا.

قلت لأبي: فإن خرجوا بغير إذن الإمام؟

قال: لا, إلا أن يأذن الإمام إلا أن يكون يفاجئهم أمر من العدو ولا يمكنهم أن يستأذنوا الإمام فأرجو أن يكون ذلك دفعا من المسلمين.

وقد يكون جهاد الدفع من المكملات إذا ترتب على تركه كف أذى عن المسلمين وتقليل المفاسد والإبقاء على الأرواح ولو كان ذلك فيه ذهاب أموالهم, وهذا له تعلق بالحاكم ويتوقف على إذنه إذا وجد, فقد يستدعي الأمر مصالحة أو نحوها.

والجامع: أن هذا النوع من الجهاد يخضع لكليات الشريعة وقواعدها, فينظر فيه إلى حفظ الضرورات وتقديمها على حفظ الحاجيات والتحسينيات, ويعمل فيه بترك الواجب المطلق إذا تعين طريقا لدفع الضرر الأكبر.

فجهاد الدفع شرع لحفظ مصالح الدين والدنيا فيجب أن ينظر إليه من هذه الجهة, ولذا  اندرج تارة تحت الضرورات وتارة أخرى تحت المكملات.

وهو وسيلة إلى دفع المفاسد وجلب المصالح, فيشترط في مشروعبته أن يحقق المقصود منه وما كان وسيلة له.

ويجب عدم الخلط بين مقصد الشارع من جهاد الطلب وبين مقصد الشارع من جهاد الدفع, فإذا استصحبنا - مثلا- مقصد الشرع من جهاد الطلب وهو النكاية بالعدو في جهاد الدفع مع وجود العجز والضعف لأدى ذلك إلى مفسدة أكبر تنافي مقصد الشارع من جهاد الدفع وهو عدم الإضرار بالمسلمين وإبقاء الأنفس.

ومن الانحراف في هذا الباب: جعل جهاد الدفع مقصودا لذاته؛ حتى أخرجه طائفة عن باب المصالح والمفاسد والموازنة بينهما, وأوجبوه مطلفا حتى مع العجز وإفضائه إلى نقيض المقصود منه, وألغوا استئذان ولي الأمر فيه مطلقا.

ومعلوم أن الوسيلة إذا أفضت إلى نقيض المقصود لم تكن مشروعة, فإذا ترتب على جهاد الدفع مفسدة أعظم وأمكن دفعها بغير هذه الوسيلة تعينت.

وقابلهم من انحرف فعلق جهاد الدفع بإذن ولي الأمر مطلقا من غير تفريق بين تكييف الجهاد بأنه من  باب الضرورات أو بأنه من باب المكملات, ومن غير تفريق بين حاكم يتصرف وفق المصلحة الشرعية وبين حاكم يتصرف وفق هواه فيما تعلق بالضرورات.

وهناك إشكالية أخرى عند طائفة من المعاصرين في تحقيق مناط جهاد الدفع في الواقعة الخاصة؛ إذ ليس كل قتال للعدو الكافر يكون من باب جهاد الدفع, وإنما قد يكون فتنة...

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

الخميس، 16 يونيو 2022

[ لولا ما نخشاه على الدين من المنافقين والعلمانيين لوسعنا السكوت]

[ لولا ما نخشاه على الدين من المنافقين والعلمانيين لوسعنا السكوت]

إن ردة الفعل ممن يحسبون على طلب العلم الشرعي فاقت تصوري وغيرت نظرتي؛ لخروجها عن مقتضى البحث العلمي والنظر التأصيلي !!
وقد لا ألومهم من جهة أن من أحب شيخا وتعصب له رأى كل مناقشة علمية له طعنا وقدحا، وأخرجه ذلك
عن محل البحث ونقطة النقاش إلى ذكر أمور أخرى للتشويش.
وعدم اللوم هو بحسب النظر القدري الكوني...
لكن أقول لهم: إن مدار نقاشي مع #المفتي الشيخ #الصادق_الغرياني وفقه الله في تحقيق المناط الخاص وما يصحب التحقيق من مراعاة لأصول كلية،
بمعنى أن الشيخ ينزل الحكم المطلق على ما لا يتحقق أنه مناطه بالنظر إلى ملابساته ومآلاته، وهذا فيما يتعلق بأحكامه في الشان العام.
فللحكم مناط عام في الأنواع يتحقق في تنزيله مقصد الشارع، ومناط خاص في الأشخاص يتحقق في تنزيله مقصد الشارع ...
فمتى لم يتحقق #مقصود_الشارع عند التنزيل فلا يصح أن يكون هذا هو الحكم الشرعي..
قال الشاطبي في الموافقات٣/٩ :(فالحاصل أنه لابد من اعتبار خصوصيات الجزئيات مع اعتبار كلياتها وبالعكس، وهو منتهى نظر المجتهدين بإطلاق، وإليه ينتهي طلقهم في مرامي الاجتهاد)

وجميع الردود التي اطلعت عليها خرجت عن هذا التأصيل وانصب نقدها إلى أن المفتي أعلم بالواقع وان معه ثلة من المشايخ..
وأنت لا تخرج من رفوف مكتبتك!!
وكأني لا أخرج من غرفة مظلمة لا شعاع فيها ولا نور، ولا علاقة لي بأحد!!
وكأن الواقع الليبي خفي لا يدرك، وكأن الشيخ ومن معه يتواصلون مع الأطراف مباشرة ويعلمون خفايا ما يحصل!!!
وتصوير أنهم يفهمون الواقع كما هو وفق تسلسل معلوم ضرب من الخيال!
يدركه كل من يعرف الحال...
مع ما صاحب بعض تلك الردود من خروج عن الأدب وطعن في النيات والمقاصد، وهو تأكيد لظاهرة الغلو في الأشخاص!!
وتأكيد أيضا لعدم إدراكهم البعد التنزيلي!!
ففي #البعد_التنزيلي نظران: أحدها: فهم مناط الأحكام الشرعية والثاني: تعين المحل مناطا لذلك الحكم.
ولا يتعين إلا بمراعاة النظر الكلي..

ووجه خطأ الشيخ في نازلة #إغلاق_الحقول_النفطية على سبيل المثال متعلق بالنظرين معا
فأما بالنظر الأول ففي عدم التفريق بين مناط #الحرابة ومناط #البغاة
وهذا كان له أثر في التنزيل الواقعي..
ففي الحرابة لا ملحظ للتأويل، وإنما الملحظ في مجرد الإفساد من غير تأويل..
بينما في البغاة ملحظ التأويل معتبر ولو كان للدنيا..
وبسط ذلك في كتب الفقه...

وأما بالنظر الثاني -وهو المهم عندي وحوله أدندن- فعدم مراعاة الشيخ للواقع الخاص المتعين وما يحفه من ملابسات تتعلق بالمصالح والمفاسد و #فقه_الممكن..
فتراه يلتفت فيه إلى جلب المصالح دون مراعاة لدرء المفاسد، بل لا يلقي للمفاسد وزنا وإن كانت راجحة إذا تعلقت بالشأن العام
وليس محل الخلاف فيمن هو أعلم بالواقع كما يصوره من لا فقه له ولا تحقيق!!
وما فتاوى الشيخ في التعامل مع الغرب والتصريح بالتولي الكفري إلى غير ذلك عنا ببعيد..
وهذا المسلك هو مسلك للشيخ ولمجلس البحوث الذي هو في الحقيقة لا يخرج عن قول الشيخ ورأيه!!
..
فمن أراد ان يناقش، فهذا هو محل البحث والنقاش.

والغريب أن الشيخ خرج في مقطع لما انتقد في مسألة الحقول يقول فيه ما معناه: أنا أبين الحكم الشرعي!!
مع العلم أن النقاش ليس في بيان الحكم الشرعي من عدمه،  وإنما النقاش في انطباق الحكم على الواقع الخاص المتعين؛ إذ إن أفعال العباد في الخارج لا تكون إلا مقيدة
وما يصحب ذلك من الاعتناء بدرء المفاسد الراجحة
قال الشاطبي في الموافقات ٣/٣٤: (إن الشرائع إنما جاءت لتحكم على أفعال المكلفين من جهة ما هم فاعلون)

وعليه
فتسليط الضوء من المنتقدين لي على أني أجهل الواقع هو من العبث والسفه وخروج عن أصل النقاش!!
وأنا أجزم بعدم إدراكهم لأصل البحث وما أدندن حوله، ولذا لا ترى أحدا منهم ناقشه بعلم وإنما هو رمي للتهم، وخروج عن سياق النقاش!!

وليُعلم أني لست أنكر بيان الأحكام الشرعية المجردة وتذكير الأمة بها والوقوف ضد الغرب بالممكن الشرعي
لكن بشرط ألا تنزل الأحكام على واقع خاص متعين إلا بعد النظر الدقيق فيه ودفع المفاسد الراجحة ...
ولا أنكر ايضا السعي في إزالة المنكر وفق المستطاع...
مع أن كثيرا من المنتقدين لا يفرق بين الممكن الشرعي والممكن القدري وأن الحكم منوط بالاستطاعة الشرعية لا الكونية!!

وإنما الذي أنكره -وهو واضح في مقالاتي- التنزيل على واقع يترتب عليه نقيض ما يريده الله...

وما أدخل الأمة في الويلات وتسلط الأعداء عليها إلا ذلك النفس الذي سلكه من كفر المسلمين وفجر من غير أن يراعي المصلحة الشرعية، بدعوى ان هذا هو المستطاع!!...
وتأثر بشيء من أصولهم من تأثر!
هذا النفَس الذي يرى درء المفاسد الراجحة وتقديمها على جلب المصالح، والحفاظ على أصل الدين وبقائه: تخذيلا للأمة وإرجاء وإذهابا لمقدسات الأمة!!

وهو نفس بعيد عما عهد عن أهل العلم في ليبيا، وإنما استورد من الخارج

ولولا ما نخشاه على الدين من المنافقين والعلمانيين والمجرمين الذين يستغلون مثل هذه الفتاوى في هدم الدين وإبعاد أهله لما وسعنا إلا السكوت..

فما أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله.

وإنما كان الاعتراض على المفتي وبيان خطئه علنا؛ لأن خطأه منسوب إلى دين الله؛ فاقتضى حفظ الدين بيانه..
وحتى يدرك الأتباع الذين لا يفهمون إلا إذا صرح بنسبة القول إلى قائله..

وقد كان مشايخنا الكبار يرد بعضهم على بعض مع بقاء الود، ولا يرون ذلك من باب الطعن، فلله درهم ...

فحفظ الشريعة يقتضي أن نبين الخطأ مع حفظ الكرامة؛ تحقيقا لمصلحة حفظ الدين وتقديمها..
إلا أن المتعصبة أتباع الشيخ يرون كل نقد علمي طعنا؛ حتى صاروا يوالون ويعادون على الأشخاص فكونوا بذلك طائفة جديدة ولولا التنابز بالألقاب لخصصتهم بلقب ...
وللكلام بقية..
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار

الأحد، 12 يونيو 2022

الأحكام الشرعية وعلاقتها بالسياسة

 الأحكام الشرعية وعلاقتها بالسياسة 


إن كل فعل من العبد له حكم شرعي سواء صدر الفعل من شخص أو من أشخاص وسواء صدر من الراعي اتجاه الرعية أو العكس، أو كان بين الدول ...

إلا أنه يجب أن ينطبق الحكم الشرعي على الواقع السياسي الخاص بعد الإحاطة به، لأن لكل حكم مناطات ومتعلقات، فتختلف الأحكام بتغير متعلقاتها ..

ولا يصح الاكتفاء ببيان الحكم الشرعي العام الذي تختلف مناطاته عن مناطات الواقع السياسي الخاص.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ: «وَلا يَتَمَكَّنُ الْمُفْتِي وَلا الْحَاكِمُ من الْفَتْوَى وَالْحُكْمِ بِالْحَقِّ إلا بِنَوْعَيْنِ من الْفَهْمِ:

أَحَدُهُمَا: فَهْمُ الْوَاقِعِ، وَالْفِقْهِ فيه، وَاسْتِنْبَاطُ عِلْمِ حَقِيقَةِ ما وَقَعَ بِالْقَرَائِنِ وَالأَمَارَاتِ وَالْعَلامَاتِ؛ حتى يُحِيطَ بِهِ عِلْمًا.

وَالنَّوْعُ الثَّانِي: فَهْمُ الْوَاجِبِ في الْوَاقِعِ، وهو فَهْمُ حُكْمِ اللَّهِ الذي حَكَمَ بِهِ في كِتَابِهِ، أو على لِسَانِ رسوله صلى الله عليه وسلم في هذا الْوَاقِعِ، ثُمَّ يُطَبِّقُ أَحَدُهُمَا على الآخَرِ.

فَمَنْ بَذَلَ جَهْدَهُ، وَاسْتَفْرَغَ وُسْعَهُ في ذلك لم يَعْدَمْ أَجْرَيْنِ أو أَجْرًا.

فَالْعَالِمُ من يَتَوَصَّلُ بِمَعْرِفَةِ الْوَاقِعِ وَالتَّفَقُّهِ فيه إلَى مَعْرِفَةِ حُكْمِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ»

ومن الغلط الذي يستغله من يبعد الدين عن السياسة إنزال حكم شرعي عام على غير واقعه، وإعطاء حكم شرعي واحد على وقائع بينها فروق مؤثرة وإن حصل تشابه في الصورة الظاهرة..

فيجعلون هذا الغلط سببا لإبعاد أهل الدين عن الكلام في السياسة.

ولما كانت الفتوى في واقعة خاصة تحتاج إلى مزيد اجتهاد وتقدير للمصالح والمفاسد والموازنة بينها والنظر لعموم البلوى واعتبار الأعراف والعوائد وإعمال دليل الاستحسان والتفريق بين حال الضرورة وبين حال الاختيار كان المفتي الذي ينزل الأحكام الخاصة أعلى درجة من المفتي الذي يدرك الأحكام العامة ويصنف فيها ..

ومثل هذا الفقيه إذا تكلم في الشان العام والسياسة بأحكام تنزيلية تنسجم مع كليات الشريعة ومقاصدها تسلط عليه نوعان من الناس:

نوع غلبت عليه الحماسة والعاطفة فاستمسكوا بالأحكام المطلقة وأنزلوها على الوقائع الخاصة التي تختلف معها في متعلقاتها واتهموا من خالفهم بتضييع الدين والتنازل عن الثوابت ...

كما فعل الدواعش ومن وافقهم..

ونوع غلب عليهم فصل الدين عن الدولة فأنكروا الأحكام العامة والخاصة وعابوا بإطلاق على العلماء كلامهم في السياسة. 


ويجب أن يعلم أن كلام أهل العلم في السياسة له تأثير على المجتمع؛ لتعلقه بالمصالح العامة، وله تأثير أيضا على قبول الناس لكلام أهل العلم في السياسة؛ مما يستدعي اجتهادا خاصا واستنباطا دقيقا ومزيد أهلية.. 


ولما كانت السياسة في عصرنا مختتقات وأزمات وتعاملا مع دول فرضت هيمنتها وتسلطت على الدول الضعيفة وتدخلت في قرراتها كان على المفتي في السياسة البحث عن الحلول التي لا تخالف الشرع وأن يكون اعتناؤه بدرء المفاسد أعظم من اعتنائه بجلب المصالح، وأن يسعى في دفع الفوضى والاضطرابات، فتكون فتاويه قائمة على تقديم المصلحة العامة على الخاصة، وعلى إصلاح الدين وإصلاح ما لا يقوم الدين إلا به..

فيظهر للناس إصلاحه وحلوله الشرعية وبعد نظره، من غير أن توظف فتاويه على نصرة من لا يحقق للأمة مصالحها..

ومن غير أن تكون فتاويه سببا للاضطراب والفوضى وعدم تقدير المصالح..

فتسييس الفتاوى الشرعية مرفوض، والتضييق وعدم مراعاة حال الضرورة وفقه الممكن مرفوض أيضا... 


وللكلام بقية

د. أحمد محمد الصادق النجار 



الخميس، 9 يونيو 2022

[ مناقشة #المفتي الشيخ الصادق الغرياني في تنزيل الحكم العام المجرد على الواقعة المتعينة...]

 [ مناقشة #المفتي الشيخ الصادق الغرياني في تنزيل الحكم العام المجرد على الواقعة المتعينة...]

إن المفتي -وفقه الله- لا ينظر في (جملة) من فتاويه العامة (المتعلقة بواقع متعين) في المستطاع، فكثير ما يأمر بما لا يستطاع، وينزيل الأحكام العامة المجردة على وقائع خاصة مختلفة المناطات، ويخاطب الحكومات وكأنها حكومات قوية لها استقلالها، والإسلام فيها قوي، والشعوب قوية مستقلة!!
فالشيخ حفظه الله يغرق في النظر إلى الحكم العام مجردا من غير مراعاة لملابسات قد تخرجه عن تجرده وتغير صورته...
إلى غير ذلك ...

والصواب، كما قال الشاطبي:(اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين :
أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة ، وسن النكاح ، وندب الصدقات غير الزكاة ، وما أشبه ذلك .
والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات)
فالواقع المتعين لابد أن يكون الحكم وفق الواقع مع العلم الدقيق بملابساته، فيعمل فيه المناط الخاص.
وقد سبق أن نبهت على فقه الممكن، وكيفية إعماله ووجوب مراعاته بضوابطه...
ففي قصة من وقع على أهله في رمضان لما أخبر النبي صلى الله عليه  وسلم ابتداء بالمناط العام وهو أنه جامع أهله وهو صائم أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم العام وهو الإعتاق فإن لم بكن فصيام شهرين فإن لم يكن فإطعام ستين مسكينا
إلا أن هذا الأعرابي لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بواقعه الخاص وأنه لا يستطيع انتقل النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم العام المجرد إلى الحكم الخاص لتغير المناط فبدل أن يطعم غيره أطعم نفسه، فكان هذا هو حكمه الشرعي...
وإن لم يتدارك الشيخ هذا الخلل، فسينتج عنه مشقة خارجة على المعتاد وحرج على الأمة، وإنزال حكم على غير مناطه؛ مما ينفر عن الدين، ويسبب فتنة، وحتى لو فرضنا أنه حق فليس كل حق يقال وإنما ينظر للزمان والمكان والمحل، فإذا لم يراع المحل القابل انقلب الأمر إلى الضد، وشوهت الشريعة...

وحتى أفيد طلبة العلم سأشرح هذه المسألة ...
فأقول:
الشرع يحكم على فعل العبد بحكم مطلق إذا كان الفعل مطلقا
وبحكم مقيد إذا كان الفعل مقيدا
فعندما يكون الفعل مطلقا لا ملابسات له تقيده يكون الحكم مطلقا
وعندما يكون الفعل مقيدا له ملابساته يكون الحكم الشرعي مقيدا
ولا يصح إعطاؤه الحكم المطلق؛ لاختلاف المناط، وإنما يعطى حكم مقيد يكون هو الحكم الشرعي..
فالنظر يختلف بسبب تغير المناطات، فمن جعل الحكم المطلق هو حكم الشريعة فقد أخطأ.
وأعطيكم مثال يقرب:
السرقة من مال في حرز حكمها المطلق التحريم وإقامة الحد..
لكن السرقة في زمن المجاعة فعل مقيد له ملابساته ولا يصح إعطاؤه الحكم المطلق
ولذا لم يقم الحد عمر رضي الله عنه...
فمن يأتي ويعطيه الحكم المطلق يكون قد أخطأ..
فالحكم يختلف باختلاف مناطاته وما تقتضيه المصلحة الشرعية ويحقق مقاصد الشريعة..
وهذا من محال انتقاد المفتي وفقه الله، ولذا يعاب عليه اطراد فتاويه مع اختلاف الواقع المتعين...
فالواقع إذا ورد على مناط مطلق فهنا يأخذ حكما مطلقا، وأما إذا ورد على مناط مقيد فهنا يختلف حكمه عن الحكم المطلق.
والغريب أن يأتي من لا يفهم هذا التقرير فيعجم عن طريقة الفقهاء فيجعل الحكم المطلق هو الذي يجب أن يفتى به في الواقع المتعين بدعوى أن فتواه ليست ملزمة ولا يجب عليه تنفيذها!!
وهذا لعب بالشريعة، كمن يفتي زمن المجاعة بأن يقام الحد على السارق!
أو يجعل هذه الملابسات موانع!!

ويعجم آخر فيدعي أنه يجب على المفتي أن يبين الحكم المطلق ويلزم الحكومة شرعا بتنفيذه ولو كانت الحكومة غير قادرة عليه!
وهذا فيه هدم لكلي الشريعة؛ إذ الشريعة لا تكلف العبد ما لا يطيقه.
فكيف يكون الحكم غير المقدور عليه واجبا؟!
مع ما يترتب عليه من مفاسد كبرى ومآلية...
ومن كان يأمر بما لا يطاق ولا ينزل الحكم الخاص على الواقعة الخاصة كيف يسكت على اجتهاده ولا يبين خطأ مسلكه؟!!

ويجب أن يعلم أن بيان الحكم المطلق مع عجز الناس عن تطبيقه ليس هو من بيان الحق ولا الصدع به

أرأيتم لو إنسانا يصاب بالدوران والمشقة إذا صلى قائما..
أيصح أن يقال له: يجب عليك أن تصلي قائما؛ لأن هذا هو الحكم الشرعي ويجب بيانه، وأما العمل به والاستطاعة فشيء آخر!!
أرأيتم لو أن إنسانا اشتبه عليه ماء طاهر بماء نجس ولا يملك غيره..
أيصح أن يقال له: يجب عليك أن تتوضأ بالماء الطاهر!!
أرأيتم لو أن حكومة إسلامية ضعيفة ألزمها الكفار بدفع مال لها وإلا انقلبت أرضها جمرا..
أيصح أن يقال لها: يحرم عليك دفعه، ويجب عليك قتالها!!
أهذا من الصدع بالحق وبيان الحق وكلمة حق عند سلطان جائر!!!
عجب أمركم!!
الصدع بالحق ليس هذا بابه، بل هذا باب إفساد وفساد..
وما ضر الخوارج إلا أنهم أعملوا( لا حكم للرجال ولاحكم إلا لله)  في كل واقعة وإن اختلف المناط!!

إن الفقيه حقا من يعطي الحكم الخاص على الواقع الخاص ويراعي فيه مقاصد الشريعة, ولذا لم تشرع مخالفة اليهود في بداية ظهور الإسلام في المدينة للواقع الخاص..
فلما قوي أمر المسلمين أمر الله نبيه بمخالفتهم، فروعي في الواقع الخاص حكم خاص...
وانظر إلى فقه ابن تيمية رحمه الله عندما ذكر أن الحكم الشرعي لمن أقام عند الكفار وخشي على نفسه الضرر أو أراد دعوتهم أنه يلبس لباسهم ولا يتميز عنهم ولا يؤمر بمخالفتهم
فكان الحكم الشرعي خاصا لواقع خاص يتناسب مع الاستطاعة...
ولم يذكر الحكم العام وهو الأمر بمخالفتهم...
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 471) : "إن المخالفة لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا"
بل إن الجمود على الحكم المطلق المجرد دون مراعاة الواقع الخاص وعرفه ومناطاته: ضلال تصان عنه الشريعة،
وإذا أدى القول به إلى الحرج وإلى ما لا يستطاع فلا يمكن أن يكون هو الحكم الشرعي، فالشريعة جاءت لمصالح الناس في معاشهم ومعادهم...
قال الشاطبي في الموافقات (1/ 159): "إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر بإطلاق"
ومنه ما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (4/ 470):(والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين)
وقوله في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 52): وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم ممَّن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان"
كذلك تصان الشريعة عن تنزيل حكم مطلق على واقعة مخصوصة فيؤول إلى مفسدة أكبر
كمن يأتي ويفتي الحكومة بعدم التعامل مع الكفار وأنها موالاة كفرية هكذا بإطلاق ولا يراعي ما تؤول إليه هذه الفتوى من سيطرة على بلاد المسلمين وسفك دمائهم..
أو يدندن حول خروج الناس إلى الميادين من غير أن ينظر للمآلات..
ولله در الشاطبي القائل في الموافقات (5/ 178) : "وقد يكون -أي الفعل- مشروعاً لمصلحة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب -أي العاقبة- جار على مقاصد الشريعة"
والكلام يطول...
وبهذا ندرك أنه ليس من بيان الحق والصدع به تنزيل حكم مطلق على واقع مخصوص يختلف مع مناطات الحكم المطلق
وأن هذا من العبث الذي تصان عنه الشريعة، ويؤدي إلى الحرج ومفاسد كبرى ...

ولنختم بفتوى الشيخ في إغلاق #الحقول_النفطية في ليبيا وأنها حرابة ويجب على الحكومة إيقفاهم ومقاتلتهم...

إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن الحكومة عاجزة عن الذهاب للحقول النفطية للتصوير فيها فضلا عن أن تكون هي الآمرة الناهية, كما أن من أقفلها ليسوا مجرد نفر يريدون قطع الطريق والإفساد وإنما وراءهم دول كبرى تأمرهم وتنهاهم عبر نوابهم في البلاد.

والظاهر ممن تصدر مشهد الإقفال أنهم يطالبون بحقوق ويظنون أنهم على حق.

هذا جانب من الواقع...

وإذا تأملنا في فتوى الشيخ الصادق وجدنا أنه يكيف الفعل على أنه حرابة, ويأمر الدولة العاجزة عن قتالهم واسترداد الحقوق منهم!!

فبالله عليكم أتصح هذه الفتوى على هذا الواقع؟!!

أولا: إذا أهملنا النظر إلى الملابسات الدولية المتحكم الفعلي في النفط, واتجه نظرنا إلى أولئك الذين أغلقوا الحقول وخرجوا على الحكومة وجعلوه ورقة ضغط على الحكومة؛ ظنا منهم أنهم على حق, لكان الأقرب في التكييف أن يكونوا بغاة.

قال ابن رشد الجد في المقدمات الممهدات (3/ 236): (وأما من حارب على تأويل فقتل وأخذ المال مثل الحرورية والإباضية والقدرية وأهل الأهواء كلهم ثم أخذ ولم يتب فإنه لا يقام عليه حد الحرابة ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه).

وجاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 177): (...وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، بتأويل سمي بغيا)
فمن ضوابط البغي أن يكون تأويلهم لأجل الدنيا
وتختلف أحكام البغاة عن أحكام المحاربين في جوانب, كما هو مدون في كتب الفقه ..

ثانيا: لو سلمنا أنهم محاربون, فإشكال فتوى الشيخ في إنزال الحكم المطلق وهو وجوب مقاتلتهم على الحكومة التي سلطتها التنفيذية محدودة.

والنظر الواقعي يثبت أن الحكومة لن تجرأ على هذا الفعل؛ لعجزهم وعدم إعطاء الدول الكبرى الإذن لهم.
ثم لو تجرأت وقاتلت لترتب على ذلك مفسدة كبرى وربما زوالها وتسليط من يرتضونه عليها ودخول البلاد في حرب.
ومما هو متقرر شرعا أن الله لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر  مع إمكان الفعل إلى عدم ترتب مفسدة راجحة عليه, وهذا مما رأيت الشيخ وفقه الله لا يراعيه في جملة من فتاويه.
فأي حكم هذا الذي يفتي به الشيخ وفقه الله وهو يعلم عدم إمكان وقوعه؟!!
ولو أمكن وقوعه لترتب عليه مفسدة راجحة؟!!

ثم لو أن الشيخ جلس مع الحكومة ونظر إلى ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله وما يترتب على ما أمكن فعله من مصالح أو مفاسد ثم أصدر فتواه بناء على ذلك لما صح مني أن أتكلم, لكن ...

وليست إشكاليتي مع الشيخ في تصور الواقع وإنما في إنزال الحكم المطلق على هذا الواقع مع ما في الإنزال من التكليف بما ليس بممكن شرعا، وما فيه من حرج تأباه الشريعة
ويراه الأتباع صدعا بالحق ووقوفا ضد الحكومات !!
بل يرى الشيخ أن هذا من بيان الحكم الشرعي، ولا أدري كيف يكون بيانا للحكم الشرعي وهو يسأل عن حادثة خاصة لا عن حكم مطلق يبين فيه مسألة الحرابة وأحكامها ومن يقوم بها؟!!

وأنبه هنا إلى أن الحكومة إذا عجزت عن تنفيذ حكم مطلق لملابسات خاصة فإنها تكون معذورة, كما عذر  النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي عن تطبيق الشريعة والحكم بها.
وعليها أن تبحث بالطرق التي لا يمنع منها الشرع عن كيفية الخروج من هذا الأمر.

وللأسف أن مثل هذا التأصيل لا يتوافق مع عاطفة كثير من الأتباع وممن تربى على الحماس العاطفي, فيتوهمون أن فيه إلغاء الجهاد وإلغاء أحكام الله والصدع بها ...
وعلى عاطفتهم هذه يكون إعذار النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي تضييعا لتحكيم الشريعة !!

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

الأربعاء، 8 يونيو 2022

إغلاق الحقول النفطية في ليبيا

 

إغلاق الحقول النفطية في ليبيا

 تكلمت في مقالات سابقة عن تنزيل المفتي الشيخ الصادق الغرياني وفقه الله للأحكام المطلقة المجردة على وقائع مخصوصة لها ملابساتها ومناطاتها؛ مما ينتج عنه مفاسدة كبرى..

وهذا التنزيل سيتصادم حتما مع مقاصد الشريعة التي منها منع التكليف بما ليس في مقدور المكلف.

ولذلك أمثلة, منها:

حكمه على من أقفل الحقول النفطية..

إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن الحكومة عاجزة عن الذهاب للحقول النفطية للتصوير فيها فضلا عن أن تكون هي الآمرة الناهية, كما أن من أقفلها ليسوا مجرد نفر يريدون قطع الطريق والإفساد وإنما وراءهم دول كبرى تأمرهم وتنهاهم عبر نوابهم في البلاد.

والظاهر ممن تصدر مشهد الإقفال أنهم في الظاهر يطالبون بحقوق ويظنون أنهم على حق.

هذا جانب من الواقع...

وإذا تأملنا في فتوى الشيخ الصادق وجدنا أنه يكيف الفعل على أنه حرابة, ويأمر الدولة العاجزة عن قتالهم واسترداد الحقوق منهم!!

فبالله عليكم أتصح هذه الفتوى على هذا الواقع؟!!

أولا: إذا أهملنا النظر إلى الملابسات الدولية المتحكم الفعلي في النفط, واتجه نظرنا إلى أولئك الذين أغلقوا الحقول وخرجوا على الحكومة وجعلوه ورقة ضغط على الحكومة؛ ظنا منهم أنهم على حق, لكان الأقرب في التكييف أن يكونوا بغاة.

قال ابن رشد الجد في المقدمات الممهدات (3/ 236): (وأما من حارب على تأويل فقتل وأخذ المال مثل الحرورية والإباضية والقدرية وأهل الأهواء كلهم ثم أخذ ولم يتب فإنه لا يقام عليه حد الحرابة ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه).

وجاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 177): (...وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، بتأويل سمي بغيا)

وتختلف أحكام البغاة عن أحكام المحاربين في جوانب, كما هو مدون في كتب الفقه ..

ثانيا: لو سلمنا أنهم محاربون, فإشكال فتوى الشيخ في إنزال الحكم المطلق وهو وجوب مقاتلتهم على الحكومة التي سلطنها التنفيذية محدودة.

والنظر الواقعي يثبت أن الحكومة لن تجرأ على هذا الفعل؛ لعجزهم وعدم إعطاء الدول الكبرى الإذن لهم.

ثم لو تجرأت وقاتلت لترتب على ذلك مفسدة كبرى وربما زوالها وتسليط من يرتضونه عليها ودخول البلاد في حرب.

ومما هو متقرر شرعا أن الله لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر  مع إمكان الفعل إلى عدم ترتب مفسدة راجحة عليه, وهذا مما رأيت الشيخ وفقه الله لا يراعيه في جملة من فتاويه.

فأي حكم هذا الذي يفتي به الشيخ وفقه الله وهو يعلم عدم إمكان وقوعه؟!!

ولو أمكن وقوعه لترتب عليه مفسدة راجحة؟!!

ثم لو أن الشيخ جلس مع الحكومة ونظر إلى ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله وما يترتب على ما أمكن فعله من مصالح أو مفاسد ثم أصدر فتواه بناء على ذلك لما صح مني أن أتكلم, لكن ...

وليست إشكاليتي مع الشيخ في تصور الواقع وإنما في إنزال الحكم المطلق على هذا الواقع مع ما في الإنزال من التكليف بما ليس بممكن شرعا، وما فيه من حرج تأباه الشريعة

ويراه الأتباع صدعا بالحق ووقوفا ضد الحكومات !!


وهنا أنبه أن الحكومة إذا عجزت عن تنفيذ حكم مطلق لملابسات خاصة فإنها تكون معذورة, كما عذر  النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي عن تطبيق الشريعة والحكم بها.

وعليها أن تبحث بالطرق التي لا يمنع منها الشرع عن كيفية الخروج من هذا الأمر؟

 

ومثل هذا الحكم لا يتوافق مع عاطفة كثير من الأتباع وممن تربى على الحماس العاطفي, فيتوهمون أن فيه إلغاء الجهاد وإلغاء أحكام الله والصدع بها ...

وعلى عاطفتهم: ففي إعذار النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي تضييع لتحكيم الشريعة !!

هؤلاء المتحمسون غلبت عاطفتهم على التأصيل العلمي, وكم نتمنى من الشيخ أن يغير بطانته, فقد يؤتى الإنسان ممن حوله, والله المستعان

وهذه آخر مقالاتي الإصلاحية في هذا الباب, وفي الجعبة كثير, هداني الله وإياكم, وغفر لي ولكم

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

 

 

[بيان الحكم المطلق مع عجز الناس عن تطبيقه ليس هو من بيان الحق ولا الصدع به]

 

[بيان الحكم المطلق مع عجز الناس عن تطبيقه ليس هو من بيان الحق ولا الصدع به]

 

أرأيتم لو إنسانا يصاب بالدوران والمشقة إذا صلى قائما..

أيصح أن يقال له: يجب عليك أن تصلي قائما؛ لأن هذا هو الحكم الشرعي ويجب بيانه، وأما العمل به والاستطاعة فشيء آخر!!

أرأيتم لو أن إنسانا اشتبه عليه ماء طاهر بماء نجس ولا يملك غيره..

أيصح أن يقال له: يجب عليك أن تتوضأ بالماء الطاهر!!

أرأيتم لو أن حكومة إسلامية ضعيفة ألزمها الكفار بدفع مال لها وإلا انقلبت أرضها جمرا..

أيصح أن يقال لها: يحرم عليك دفعه، ويجب عليك قتالها!!

أهذا من الصدع بالحق وبيان الحق وكلمة حق عند سلطان جائر!!!

عجب أمركم!!

الصدع بالحق ليس هذا بابه، بل هذا باب إفساد وفساد..

بعد هذا فلنأصل المسألة:

إن الفقيه يعطي الحكم الخاص على الواقع الخاص ويراعي فيه مقاصد الشريعة, ولذا لم تشرع مخالفة اليهود في بداية ظهور الإسلام في المدينة للواقع الخاص..

فلما قوي أمر المسلمين أمر الله نبيه بمخالفتهم، فروعي في الواقع الخاص حكم خاص...

وانظر إلى فقه ابن تيمية رحمه الله عندما ذكر أن الحكم الشرعي لمن أقام عند الكفار وخشي على نفسه الضرر أو أراد دعوتهم أنه يلبس لباسهم ولا يتميز عنهم ولا يؤمر بمخالفتهم

فكان الحكم الشرعي خاصا لواقع خاص يتناسب مع الاستطاعة...

ولم يذكر الحكم العام وهو الأمر بمخالفتهم...

قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 471) : "إن المخالفة لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا"

بل إن الجمود على الحكم المطلق المجرد دون مراعاة الواقع الخاص وعرفه ومناطاته: ضلال تصان عنه الشريعة،

وإذا أدى القول به إلى الحرج وإلى ما لا يستطاع فلا يمكن أن يكون هو الحكم الشرعي، فالشريعة جاءت لمصالح الناس في معاشهم ومعادهم...

قال الشاطبي في الموافقات (1/ 159): "إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر بإطلاق"

ومنه ما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (4/ 470):(والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين)

وقوله في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 52): وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم ممَّن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان"

كذلك تصان الشريعة عن تنزيل حكم مطلق على واقعة مخصوصة فيؤول إلى مفسدة أكبر

كمن يأتي ويفتي الحكومة بعدم التعامل مع الكفار وأنها موالاة كفرية هكذا بإطلاق ولا يراعي ما تؤول إليه هذه الفتوى من سيطرة على بلاد المسلمين وسفك دمائهم..

أو يدندن حول خروج الناس إلى الميادين من غير أن ينظر للمآلات..

ولله در الشاطبي القائل في الموافقات (5/ 178) : "وقد يكون -أي الفعل- مشروعاً لمصلحة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب -أي العاقبة- جار على مقاصد الشريعة"

والكلام يطول...

وبهذا ندرك أنه ليس من بيان الحق والصدع به تنزيل حكم مطلق على واقع مخصوص يختلف مع مناطات الحكم المطلق

وأن هذا من العبث الذي تصان عنه الشريعة، ويؤدي إلى الحرج ومفاسد كبرى ...

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

 

السبت، 4 يونيو 2022

المعركة الحقيقية لنفاة العلو

 المعركة الحقيقية لنفاة العلو

إن المعركة الحقيقية ليست بين نفاة صفتي العلو والاستواء

وبين من يسمونهم بالوهابية والمجسمة كما يصورها نفاة العلو والاستواء, وإنما الحرب تدور بينهم وبين ظواهر نصوص الكتاب والسنة وما فهمه الصحابة والتابعون منها, وهذا ما لا يستطيع النفاة التصريح به!!

وتوضيح ذلك:

أن إثبات صفة الاستواء لله جاء في سبعة مواطن في القرآن, كلها تصرح بإثبات الاستواء صفة لله [ الرحمن على العرش استوى], وقد أجمع أهل اللغة على أن الاستواء المقيد بـ "على" لا يراد به إلا العلو والارتفاع ..

وهذا ما فهمه السلف من إضافة الاستواء إلى الله, ففسروه بالعلو والارتفاع,   كما قال أبو العالية عند قوله تعالى: (استوى إلى السماء) (( ارتَفَعَ )) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا في كتاب التوحيد (ص1276), وقال الإمام مجاهد:  [استوى]: (( عَلا )) أخرجه البخاري في صحيحه تعليقا في كتاب التوحيد (ص1276), وقد كتب الأئمة كتبا مستقلة في جمع أقوال السلف في إثبات العلو والاستواء صفات لله, كما فعله الذهبي في كتابيه العلو والعرش ...

وهو ما يدل عليه ظاهر النصوص...

فجاء نفاة الصفات فزعموا أن ظاهر النص ليس مرادا لله, وأن الله خاطبنا بما يوهم التجسيم والكفر, وأتوا بمصطلحات ابتدعوها منفرة ككون ظاهر النص يلزم منه أن يكون محدودا وأن يكون في جهة ومكان, وأنه يسكن السماء وتحيط به, ومن هنا بدأت الحرب!!

فأعلنوا حربهم على ظواهر النصوص مستندين على نفي الظاهر وما توهموه لازما له على عقولهم؛ حتى قال الرازي: (( الدلائلُ العقليةُ القاطعةُ التي قدَّمنا ذِكرَها, تُبطِلُ كونَه تعالى مختصا بشيء من الجهاتِ, وإذا ثبَتَ هذا ظهَرَ أنه ليس المرادُ من الاستواء: الاستقرار, فوَجَبَ أن يكون المرادُ هو: الاستيلاء والقهر, ونفاذ القدر, وجريان الأحكام الإلهية ...)

فحقيقة الحرب بين عقل استوردوه من فلاسفة أهل اليونان وبين ظواهر نصوص الكتاب والسنة وما فهمه الصحابة والتابعون منها  !!

وهذا العقل الذي ردوا بها دلالة النصوص قائم على الوهم؛ حيث توهموا من إثبات الإستواء إثبات مكان موجود مخلوق يحيط بالله سبحانه, وجعلوا هذا ما يدل على ظاهر نصوص الاستواء, وجاءوا بتلك المقولة التي نسبوها إلى علي رضي الله عنه ظلما وزورا, وهي أن الله كان ولا مكان وهو الآن على ما عليه كان !!

وتعجب كيف يستندون على ما لا أصل له ولا سند مع أنهم يشترطون في إثبات العقائد: القطع!!

وحقيقة توهمهم  أنهم حصروا المكان في المكان الوجودي المخلوق, وغفلوا أن الجهة والمكان يطلقان على الجهة العدمية والمكان العدمي, فليس فوق العرش مخلوقات وإنما هو عدم, فلا يلزم من كون الله فوق عرشه وجود شيء مخلوق معه سبحانه

وإذا كان الله بائنا من خلقه وما ثمة إلا خالق ومخلوق كان الله فوق المكان المخلوق بائنا منه, فالله الظاهر الذي ليس فوقه شيء.

والخلاصة: أن الله أعظم من أن يفهم من كلامه كفر أو تشبيه, فكلام الله حق ولازم كلامه حق.

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار