السبت، 29 أغسطس 2020

حم المظاهرات بنظرة مقاصدية

 

حم المظاهرات

بنظرة مقاصدية

 

الحمد لله وحدة, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أما بعد, فالشريعة الإسلامية حرمت كل فعل يفضي إلى مفسدة غالبة أو كثيرة وإن كان في الفعل مصلحة, فقد جاء في الصحيحين أن عبد الله بن أبى بن سلول في غزوة بنى المصطلق قال:" أما والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فبلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقام عمر فقال: يا رسول الله: دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم "دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه"

فمع أن في قتل المنافقين مصلحة؛ إذ إنهم وراء الفتن وإضعاف الدولة ونشر الشائعات إلا أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رءا أن في قتلهم مفسدة: ترك قتلهم, فلا يأت أحد ويقول: يقتلون إذا كان في قتلهم مصلحة, فهذا النوع لا يصح تعليقه بالمصالح والمفاسد, فيقال: يجوز إن كانت مصلحته راجحة ويحرم إن كانت مفسدته راجحة.

وكل ما أدى إلى المفسدة كثيرا لا غالبا ولا نادرا تأتي الشريعة بالنهي عنه وإن كانت فيه مصالح, ولذا حرم عليه الصلاة والسلام الخلوة بالمرأة الأجنبية، وأن تسافر مع غير ذي محرم, ونهى عن بناء المساجد على القبور, وعن الجمع بين المرأة وعمتها أو خالتها.

قال الشاطبي في الموافقات (3/ 85): (والشريعة مبنية على الاحتياط والأخذ بالحزم، والتحرز مما عسى أن يكون طريقا إلى مفسدة، فإذا كان هذا معلوما على الجملة والتفصيل؛ فليس العمل عليه ببدع في الشريعة، بل هو أصل من أصولها، راجع إلى ما هو مكمل؛ إما لضروري، أو حاجي، أو تحسيني)

وإن الناظر في واقع أمر المظاهرات يجد أن مفاسدها غالبة أو على أقل تقدير: كثيرة, وهذه المفاسد منها هو ظاهر لكل أحد, ومنها ما هو خفي لا يظهر إلا لأهل العلم الراسخين.

فالظاهر منها: ما يصاحبها من تخريب واعتداء وتضييع للحقوق والواجبات وإيذاء الناس وإغلاق الطرقات...

والخفي منها:

-ترفع هيبة الحاكم في نفوس الرعية وتسلط عليه السفهاء؛ مما يذهب بالمصالح العامة, قال القرافي في الذخيرة للقرافي (13/ 234): (ضبط المصالح العامة واجب ولا تنضبط إلا بعظمة الأئمة في نفس الرعية ومتى اختلف عليهم أو أهينوا تعذرت المصلحة)

فنخشى أن يخرج علينا من يقول: القرافي من علماء السلاطين! خصوصا إذا قرأ قوله في الذخيرة (13/ 234): (ويجب طاعة الأئمة وإجلالهم وكذلك نوابهم فإن عصوا بظلم أو تعطيل حد وجب الوعظ وحرمت طاعته في المعصية وإعانته عليها)

-أنها سبيل لتمكين الأعداء من المسلمين وإشعال الحرب بينهم,.

-تزرع الشقاق والعداوة.

-تحجب المسلمين عن السبب الحقيقي وهو البعد عن دين الله وضعف التدين

إلى غير ذلك...

وهذه الأمور محرمة شرعا, وإذا حرم الرب شيئا حرم الطرق المفضية إليه, وإلا عُد هذا تناقضا, فكيف يحرم شيئا ويبيح الطرق المفضية إليه؟!!

فحكمته سبحانه وعلمه يأبيان ذلك.

أضف إلى ذلك: أن الفوضى العامة التي تخشى من المظاهرات والتي في الغالب أو الكثير لا تفارقها: تذهب بالضرورات. فتتعرض الأنفس للقتل, والأموال للنهب, والأعراض للانتهاك إلى غير ذلك, بينما المطلوب للمتظاهرين في الغالب متعلق بالحاجيات والتحسينيات, وليس من الفقه في شيء: الدعوة إلى حفظ الحاجيات والتحسينيات مع ضياع وذهاب الضرورات؛ إذ إن الضرورات أرفع قدرا, ولا تقوم الحاجيات والتحسينيات إلا بقيام الضرورات, فهما مكملات, والمكمل متى ما عاد إلى الأصل بالنقض والبطلان فإنه يلغى.

وأشير إلى أن من يقول بجوازها: يخرج عن إجماع العلماء على مر العصور؛ إذ إن الجور والظلم وترك أداء الحقوق كان موجودا في كثير من الأمراء, ومع ذلك نجد أن العلماء لم يخرجوا في مظاهرات يطالبون بأداء الحقوق, فتركهم مع وجود المقتضي وعدم المانع يدل على التحريم.

ولا أظن أن أحدا ينكر أن المظاهرات طريقة محدثة أخذت من الغرب ودساتيرهم, وبدل أن تكون البيعة على الكتب والسنة صارت التعاقد على ما في الدساتير الغربية!!

وليعلم أن العلاقة بين الحاكم والمحكوم ليست علاقة تعاقد على أداء الحقوق, وإنما هي بيعة لا يجوز نكثها ونقضها وإن قصر الحاكم في حقوقه, كما وردت بذلك النصوص, وقد قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (35/ 16): ( وطاعة ولاة الأمور واجبة لأمر الله بطاعتهم فمن أطاع الله ورسوله بطاعة ولاة الأمر لله فأجره على الله. ومن كان لا يطيعهم إلا لما يأخذه من الولاية والمال فإن أعطوه أطاعهم؛ وإن منعوه عصاهم: فما له في الآخرة من خلاق. وقد روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {ثلاثة لا يكلمهم الله يوم القيامة ولا ينظر إليهم؛ ولا يزكيهم؛ ولهم عذاب أليم. رجل على فضل ماء بالفلاة يمنعه من ابن السبيل؛ ورجل بايع رجلا بسلعة بعد العصر فحلف له بالله لآخذها بكذا وكذا فصدقه وهو غير ذلك ورجل بايع إماما لا يبايعه إلا لدنيا؛ فإن أعطاه منها وفى؛ وإن لم يعطه منها لم يف} ).

 

فإن قيل: المتظاهر يريد رفع للظلم, ورفع الظلم مطلوب شرعا.

قيل: المتظاهر لرفع الظلم فاعل لمأمور به على وجه يقع فيه مضرة ومفسدة، مع إمكان فعله على وجه آخر لا يلحق فيه مضرة ولا تقع فيه مفسدة، وليس للشارع قصد في وقوعه على الوجه الذي يلحق به الضرر دون الآخر, كما فصل ذلك الشاطبي في الموافقات.

ففاعل التظاهر الذي لا يقع إلا بمفسدة إما أنه قصر نظره عن الفعل المشروع في الإنكار بما لا يقع معه مفسدة, وإما أنه قاصد للإضرار, وكلاهما ممنوع .

فإن قيل: في المظاهرات مصلحة. فتجد أن الحاكم يستجيب للمطالبات.

قيل: الواقع يكذب أن تكون المصلحة راجحة وكثيرة, وإنما هي في حقيقة الأمر: نادرة وقليلة, وحتى الاستجابة –إن وقعت- تقع بعد وقوع المفاسد, إذ لا توجد في العادة مفسدة عارية عن المصلحة جملة؛ إلا أن الشارع إنما اعتبر في مجاري الشرع غلبة المفاسد وكثرتها، ولم يعتبر ندور المصلحة وقلتها, وهنا يخرج الفعل عن أصل مشروعيته وهو الإباحة.

والخلاصة: أن المظاهرات محرمة؛ لكونها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المفاسد, ولا يتحقق بها المطلوب على وجه لا تقع معه مفسدة, ولا يصح تعليق حكمها بالمصالح, وليست طريقة مشروعة للإنكار, فلا تجوز مع الحاكم أو نوابه.


مناقشة ما استدل به مجوزوا المظاهرات من قواعد ومقاصد

يحتج بعض إخواننا بـ:

1-المظاهرات وسائل, والوسائل لها أحكام المقاصد.

فهنا اشتملت هذه الحجة على مقدمة صغرى ومقدمة كبرى ونتيجة, ونتيجتها: المظاهرات لها أحكام المقاصد, فيختلف حكمها بحسب المقصد.

لكن الذي خفي على هؤلاء: ما ضابط الوسائل التي لها أحكام المقاصد؟ وبعبارة أخرى: هل كل وسيلة لها أحكام المقاصد؟

فمثلا: الإصلاح بين الزوجين مقصد حسن, فلو أن رجلا أخذ بإطلاق القاعدة فجعل السحر وسيلة لهذا المقصد, فلا يشك مسلمان أن هذا لا يصح, والغاية لا تبرر الوسيلة.

فكما أن الوسيلة لها أحكام المقاصد فأيضا الغاية لا تبرر الوسيلة, ولا تعارض بينهما.

إذن يجب أن تكون الوسيلة غير منهي عنها شرعا إما بنص جزئي كنصوص تحريم السحر, أو بالنظر إلى قواعد الشريعة, فليس النهي عن الشيء محصورا في المنصوص, بل يكون في المنصوص عليه وفيما يؤخذ حكمه من قواعد الشريعة وكلياتها ومعانيها.

والمظاهرات من منعها منعها من جهة كونها تفضي غالبا أو كثيرا إلى مفاسد, وهي صورة من صور الإنكار العلني المحرم, ومن جوزها لم ير أنها وسيلة منهي عنها, فرجعنا إلى النقطة الأولى وهي كونها منهيا عنها أو لا, وبالتالي فلا يصح الاستدلال بقاعدة الوسائل لها أحكام المقاصد؛ لأن استعمال هذه القاعدة فرع إثبات كون الوسيلة غير منهي عنها, وهذا هو أصل البحث.

والمظاهرات عند المانعين منهي عنها؛ لأنها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم, وهي صورة من صور الإنكار العلني المحرم.

2-المظاهرات تعتريها الأحكام الخمسة, فقد تكون واجبة وقد تكون محرمة وهكذا...

فهنا أجرو المظاهرات مجرى الفعل غير المنهي عنه من حيث هو , ولهذا تلحقه الأحكام الخمسة بحسب ما يعرض له, وهذا لا يسلم به المانعون فرجعنا إلى أصل البحث.

وعليه فلا يقال: تعتريها الأحكام الخمسة؛ لأن كون الفعل تعتريه الأحكام الخمسة فرع إثبات كونه غير منهي عنه في نفسه.

فمثلا: لا يقال: الخلوة بالأجنبية تعتريها الأحكام الخمسة؛ لأن الفعل منهي عنه, بينما يقال ذلك في النكاح والأكل والشرب ونحو ذلك.

والمظاهرات عند المانعين منهي عنها؛ لأنها تفضي غالبا أو كثيرا إلى المحرم, وهي صورة من صور الإنكار العلني المحرم, فنظروا إلى كليات الشريعة.

3-المظاهرات لم يأت نص بتحريمها, فتكون جائزة أو تعتريها الأحكام الخمسة.

فحصروا التحريم في المنصوص, وهذا مسلك خطير يلزم منه حصر المحرمات فيما ورد به النص دون غيره, ولا يقول به فقيه أصولي, فالمحرمات تثبت بالملفوظ وتثبت بالقياس الجزئي والكلي.

4-المظاهرات تحقق مقصد الشارع في حفظ الضرورات الخمس.

فهنا أيضا انطلقوا من كون المظاهرات فعلا غير منهي عنه, وحكموا عليه بأنه يحقق مقصد الشارع, ولا يسلم المانعون بذلك, وإنما يرون أنه منهي عنه ولا يحقق مقصد الشارع, فرجعنا إلى أصل البحث؛ إذ إن المانعين انطلقوا من كونه وسيلة إلى تعطيل أو وقوع حرج في الضرورات الخمس؛ لأنها سبب لقتل الأنفس والتعدي على حقوق المجتمع والتضييق عليهم في معاشهم, كما يشهد به الواقع, فصار كون المظاهرات تحقق مقصد الشارع في حفظ الضرورات الخمس مجرد دعوى لا يشهد لها الواقع.

5-مصلحة الناس ضيعها الحكام فاستدعى ذلك تجويز المظاهرات.

فهنا انطلقوا من كون المظاهرات غير منهي عنها من جهة, ومن جهة أخرى أن الحاكم ضيع الضرورات الخمس جملة وتفصيلا, فتراهم منعوا من إقامة الصلوات ومن رفع الأذان وحرموا الناس من صلاة الجمعة والعيد, وألزموهم بالربا والزنا, وقتلوا الأنفس المسلمة بغير حق إلى غير ذلك.

وغفلوا أن المصالح متفاوتة في نفسها, وكذا المفاسد, وأن الشريعة تأمر باحتمال أدنى المفسدتين, وترى تقديم المصالح الضرورية الأصلية على المكمل لها.

ولذا ترى المانعين يقولون: إن أصل الضرورات الخمس موجود واقعا, وما يفعله الحكام من استئثار وظلم يجب أن يكون إنكاره بما لا يرفع أصل الضرورات الخمس, ومتى ما كان الفعل ناقضا لأصل الضرورات الخمس فإنه ينهى عنه.

ولما كانت المظاهرات وسيلة إلى رفع أصل الضرورات الخمس أو كانت نتيجتها أكثر ضررا فإنها تمنع, وانطلقوا من أن المصالح المكملة إذا رجعت إلى المصالح الأصلية بالنقض ألغيت, ورجعوا أيضا إلى احتمال أدنى المفسدتين, وهذا ما أمرت به الشريعة مع الحاكم المسلم الفاسق, ولم تناد بطلب الحقوق منهم طلبا يؤدي إلى منكر أعظم.

هذا هو النظر المقاصدي, لا التمسك بكون الشريعة تحفظ الضرورة الخمس من غير مراعاة لتفاصيل هذا الحفظ ودقائقه.

وعندما تمنع المظاهرات ليس من باب تثبيت الاستبداد والسيادة للبشر, وإنما هو من باب تعطيل المفاسد وتقليلها, والنظر إلى مصلحة الأمة, والمحافضة على المصالح الضرورية الأصلية.

والعبث كل العبث أن نبطل المصالح الضرورية الأصلية بمصالح دونها ومكملة لها.

قال القاضي عياض (( جماهير أهل السنة من الفقهاء والمحدثين والمتكلمين لا ينعزل بالفسق والظلم وتعطيل الحقوق, ولا يخلع ولا يجوز الخروج عليه بذلك, بل يجب وعظه وتخويفه؛ للأحاديث الواردة في ذلك )).

فجُلُّ من تكلم عن المظاهرات خرج عن أصل البحث, وتمسك بقواعد ومقاصد لا تفيده في الحكم.

والله أعلم

كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار


 

الأربعاء، 19 أغسطس 2020

حقيقة الهدنة الجائزة مع الكفار تخالف حقيقة التطبيع المعاصر

حقيقة الهدنة الجائزة مع الكفار تخالف

حقيقة التطبيع المعاصر

الهدنة الجائزة تخالف التطبي ع المعاصر في الموضوع ولزوم العقد وجوازه, فعقد الهدنة مع الكفار ليس موضوعا على التأبيد, وأما التطبيع المعاصر  مع الكفار فهو موضوع على التأبيد, فاختلفت الحقائق, ولذا لا يصح حمل التطبيع على الهدنة والصلح؛ لاختلاف الحقائق, وإذا اختلفت الحقائق تغايرت الأحكام.

ومن جهة أخرى, التطبيع لازم, وأما الهدنة فليس من شرطها أن تكون لازمة.

وتفصيل ذلك: أن الهدنة تجوز مطلقة ومقيدة إلا أن المقيدة بمدة تكون لازمة يجب الوفاء بها, وأما المطلقة فلا تكون إلا جائزة الإمضاء والفسخ لا لازمة, ويرجع في ذلك للمصلحة.

قال ابن القيم في أحكام أهل الذمة (2/ 877): (وعامة عهود النبي - صلى الله عليه وسلم - مع المشركين كانت كذلك مطلقة غير مؤقتة، جائزة غير لازمة، منها عهده مع أهل خيبر، مع أن خيبر فتحت، وصارت للمسلمين، لكن سكانها كانوا هم اليهود، ولم يكن عندهم مسلم، ولم تكن بعد نزلت آية الجزية، إنما نزلت في " براءة " عام تبوك سنة تسع من الهجرة، وخيبر فتحت قبل مكة بعد الحديبية سنة سبع. ومع هذا، فاليهود كانوا تحت حكم النبي - صلى الله عليه وسلم - فإن العقار ملك المسلمين دونهم).

وإذا كان الفقهاء قد اختلفوا في جواز الهدنة المطلقة, وصورتها: أن تقيد بالمشيئة وجواز الفسخ فيقال مثلا: نعاهدهم ما شئنا.

وقد منعها جماعة؛ لأنها تفضي إلى ترك الجهاد بالكلية, كما ذكر ذلك ابن قدامة في المغني.

فكيف يكون الحكم في السلام الدائم, والعقد اللازم؟!!

ثم لو فرضنا جواز الهدنة مع الكفار على التأبيد فمن شرط جوازها: عدم الشرط الفاسد, والتطبيع اشتمل على شروط فاسدة, منها: استيطان اليهود في بلاد المسلمين, وبقاء أراضي المسلمين في أيديهم وتحت حكمهم...؛ مما يدل على أن حكمه التحريم.

فهذا يوضح لنا حكم التطبيع المعاصر, ومخالفته للإجماع, ومناقضته للشرع.

والأصل في مثل هذه العقود المتعلقة بالأمة الإسلامية ومقدساتها أن تصدر من إمام المسلمين وخليفتهم أو نائبه فإن لم يكن فمن مجموع ولاة الأمور بعد استشارة علماء الأمة وتقدير المصالح على ألا يكون على التأبيد ويكون جائزا لا لازما حال عجز الأمة وضعفها.

وأما هل التطبيع كفر أكبر ؟

فيقال: التطبيع نوع موالاة, لابد من التفصيل فيه, فإن كان الباعث عليه نصرة دين الكفار وتمكنيه وحب له فلا شك في كونه كفرا أكبر.

وأما إذا كان الباعث عليه الدنيا والوجاهة والبقاء في السلطة فهو محرم وجرم كبير.

كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار


الاثنين، 10 أغسطس 2020

حكم مشاركات الأقليات المسلمة في #الانتخابات.

 حكم مشاركات الأقليات المسلمة في #الانتخابات.

لما كان توصيف الانتخابات بأنها اختيار من الناخب لمن يصلح أن يكون منتخَبا كان الواجب عند تعيين هذا الطريق أن يختار الأصلح ولا يجوز له أن يختار ما يتوافق مع هواه؛ لتقديم المصلحة العامة على الخاصة, فإن كان المنتخَبون كفارا فعليه أن يشارك ويختار من هو أخف ضررا على المسلمين؛ تحقيقا لمصلحة المسلمين, هذا إذا كان لمشاركته أثر ويحقق المصلحة.

الأحد، 9 أغسطس 2020

[أنت تدعي أن المسألة أصل ومخالفك يدعي أن خلاف قولك أصل, فمن نتبع؟]

 

[أنت تدعي أن المسألة أصل ومخالفك يدعي أن خلاف قولك أصل, فمن نتبع؟]

إن وصف مسألة ما بأنها قطعية؛ لدلالة الأدلة القطعية عليها: في الأصل يجب ألا يختلف الناس فيه؛ لأن من خصائص القطعي ألا يتطرق إليه الخطأ بوجه من الوجوه, ولا يحتمل الاختلاف فيه, لكن لما تباينت آراء الناس في تحديد الكلي والقطعي من الأدلة واختلفت مناهج استدلالهم ترتب على ذلك تباينهم في عد المسألة قطعية أو لا.

وأعطي مثالا واضحا لا غبار عليه يوضح, فالسلف يرون علو الذات أصلا ولا يقبل الاجتهاد, والمتكلمون يرون إنكار علو الذات أصلا ولا يقبلون خلاف قولهم بل يعدون خلاف قولهم كفرا, وهذا الاختلاف في تحديد الأصل ناشئ عن تباينهم في تعيين الأدلة القطعية.

وقد علم الله أزلا أن هذا سيقع, ووقوعه في أمر لا عذر للناس فيه من جهة وضوح دلالة الأدلة عليه, ولذا حدد لهم طائفة بها يعرف جنس الأدلة القطعية وما ترتب عليه من مسائل قطعية, فلم يتركهم لأهوائهم واجتهاداتهم في تحديد الأصول ولا إلى أشياخهم ومدارسهم ومذاهبهم, فليس الحَكَم هو المذهب والأشياخ وإنما الحكم موافقة هذه الطائفة في المنهج الاستدلالي وفي عدم الخروج عن أقوالهم في المسائل التي تكلموا فيها.

ولو تركهم الله لمدارسهم لترتب عليه إما تعدد الحق, أو ضياع الحق بين هذه الادعاءات, وكلا الأمرين فاسد.

فالحق المطلق فيما ثبت عن هذه الطائفة, وأعني بها: الصحابة ومن اتبعهم بإحسان, كما قال تعالى: [فإن آمنوا بمثل ما آمنتم به فقد اهتدوا], وقال [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان]

ومداد هؤلاء ووراثهم هم أهل الحديث دون غيرهم, وقد بينت ذلك في مقالات, ولذا نتبعهم, فما رأوه أصلا عددناه أصلا ولم نقبل الخلاف فيه, ولم يسع أن نعبر عنه إلا بالعبارات التي تفيد القطعية وتمنع الاختلاف, وما رأوه اجتهادا تحتمله الأدلة واختلفوا فيه قلنا بخلافهم ووسعنا الأمر فيه وقبلنا الرأي المخالف.

وهذا ما تعلمناه من كتب الأئمة, فقد قال الأوزاعي: (( العلم ما جاء عن أصحاب محمد r, وما لم يجيء عن أصحاب محمد r فليس بعلم )) أخرجه ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (1/769

وَعَن ابنِ وَهْبٍ قال: قلت لمالكٍ رضي الله عنه : أرأيْتَ القَومَ يجتمِعُونَ فَيَقْرَؤُونَ جميعا سُورَةً واحِدَةً حتى يَخْتِمُوها فَأنكَرَ ذلك وَعَابَهُ, وقالَ : لَيسَ هكذا كانَ يَصنَعُ النَّاس, إنما كانَ يَقرَأُ الرَّجُلُ على الآخَرِ يَعْرِضُهُ )) المدخل لابن الحاج (1/91)

وقال ابن عبد البر: (( قولُ مجاهدٍ هذا مردودٌ بالسُّنَّةِ الثابتةِ عن النبي r, وأقاويلِ الصحابة, وجمهور السلف, وهو قولٌ عند أهل السنة مهجورٌ, والذي عليه جماعَتُهُم ما ثبَتَ في ذلك عن نبيهم r, وليس من العلماء أحدٌ إلا وهو يُؤخَذ من قولِهِ ويُتركُ إلا رسول الله r  )) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (7/158)

 

وقد من الله علينا بالدراسة التفصيلية لمذهب أهل الحديث منهجا استدلاليا ومسائل, وبالدراسة التفصيلية لا الإجمالية لمذاهب غيرهم, ولا ندعى عصمة, لكن ما ادعينا أنه أصل فللمخالف أن يبطل الادعاء بنقل مذهب الصحابة ومن اتبعهم بإحسان على أنه ليس أصلا, أما أن يعتمد على غيرهم في عد مسائل الأصول وهم أربابها والمرجع في تحديدها فهذا مما لا يقبل ولا يصح منهجا ولا طريقة.

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

الثلاثاء، 4 أغسطس 2020

هل هناك تغاير بين ولي الأمر الشرعي والحاكم؟ وهل حكام زماننا ولاة شرعيون؟


هل هناك تغاير بين ولي الأمر الشرعي والحاكم؟ وهل حكام زماننا ولاة شرعيون؟
إن ما يذهب إليه بعض الإخوة من التفريق بين ولي الأمر الشرعي والحاكم؛ بناء على أن الحاكم -المسلم الذي استقر له الأمر وانقاد له الناس وساسهم طاعة أو قهرا- لا يلزم أن تكون ولايته شرعية: ناتج عن عدم تصور نوعي الولاية الشرعية, فالولاية الشرعية لها كمال وأصل, فكمالها: ما أقرته الشريعة ابتداء من طريقة تنصيبه وتوفرت الشروط فيه, وانتهاء من البيعة والسمع والطاعة في المعروف كخلافة الخلفاء الراشدين, وأما أصلها فما أقرته الشريعة باعتبار انتهائها؛ مراعاة لحال الضرورة ودفع المفسدة الكبرى واحتمال أدنى المفسدتين, فالشريعة هي التي أعطته أحكام الولاية فكان بهذا الاعتبار حاكما شرعيا, وهي إنما أعطته هذه الأحكام لاستقرار الأمر له ونفاذ أحكامه وسلطانه, كما أنها نظرت هنا للمآلات لا للاستحقاق, فمن تخلفت فيه شروط الإمامة ليست مستحقا لها ابتداء لكن لما كان في عدم اعتباره وليا مفاسد كبرى أعطته أحكام الولاية من السمع والطاعة وحرمت الخروج عليه ...
وباب الولاية يقوم على تحصيل المصالح ودفع المفاسد, وعند تعارضهما يغلب جانب درء المفاسد.
كما أن مقاصد الإمامة لها أيضا كمال وأصل, فمن مقاصد الإمامة أن تكون شعائر الإسلام ظاهرة.
وهذا ينطبق على حكام زماننا وغيرهم ما دام اسم الإسلام واقعا عليه ولم يخرجوا عنه.
وليت الأمر وقف على مصطلحات, أنسميه حاكما أو ولي أمر شرعي؟ وإنما تعدى الأمر إلى ترتيب أحكام على هذا التفريق, فمن لم يعتبره ولي أمر شرعي منع بيعته وانعقاد ولايته وإعانته وتعدى عليه بالسب والاستهزاء والتسفيه إلى غير ذلك.
ولاشك أن هذا ينافي الأصل المرعي في باب الولاية, ويسبب الفوضى وتنتج عنه مفاسد كبرى, وهذا الذي منع منه الشرع ولأجله أعطاه أحكام الولاية وعده وليا شرعيا انتهاء.
ومما يذكر في هذا الباب مما لم يبن على أصل باب الولاية: التفريق بين حكم الحاكم في نفسه وحكم نظامه؛ استنادا على قوله صلى الله عليه وسلم: "يقودكم بكتاب الله", كما هو مقرر في كتاب الإمامة العظمى.
وغفل أنه قيدٌ في السمع والطاعة المعينة لا في الولاية, فمن يقود الرعية بغير كتاب الله في آحاد المسائل من غير أن يكفر عينا فإنه تبقى ولايته إلا أنه لا يسمع له ويطاع في كل ما يخالف فيه  كتاب الله.
فالحديث سيق لإثبات لوازم الولاية الشرعية للعبد الحبشي, وأنه يسمع له ويطاع إلا في المعصية, كما  جاء عن أنس رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة» .
ويشهد لهذا أيضا: دلالة النصوص على بقاء الولاية مع عدم السمع والطاعة في المعصية.
وهذا المأمون والمعتصم والواثق قادوا الأمة بمسائل كفرية جهمية, وبقيت ولايتهم عند علماء أهل السنة في عصرهم.
وإن الناظر في جملة ممن تكلم في هذا الموضوع يجد أن نزعهم الولاية من حكام المسلمين سببه خلل في أصل المسألة التي لأجلها نزع الولاية, كمن نزعها بناء على أن الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر مخرج من الملة, أو الدخول في المواثيق الدولية كفر أكبر, أو أن دعم الغرب لحاكم أو تنصيبه كفر أكبر, أو أن مطلق الموالاة كفر أكبر, وهكذا, فلما ضل في الأصل ضل فيما نتج عنه.
وإذا طبقنا نظرية هؤلاء وشروطهم ما بقي للمسلمين في عصرنا حاكم, وخلا العصر من وجود جماعة لها إمام, ونتج عنه تضليل عامة المسلمين, ويشتد الأمر إذا كُفِّر الحكام جملة ونوابهم ومساعدوهم وشرطهم وهلم جرا.
نعم, حكام زماننا ليسوا على درجة واحدة, فمنهم من كفر عينا, ومنهم من وقع في كفر, ومنهم من سلم من ذلك, ولا تجد حاكما مسلما في الجملة إلا وهو يحكم شيئا من الشريعة قل أو كثر, وشعائر الإسلام في الدول الإسلامية ظاهرة في الجملة فالصلوات تقام في المساجد والأذان تسمع في المآذن إلى غير ذلك.
وعندما أقرر هذا لا يعني أني أقف في جانب ظلمهم وجورهم وعدم تحكيم كامل الشريعة ووو
لا, ولكن أراعي مصلحة الأمة وأدفع عنها المفاسد الكبرى, ولأخفف وطئة بعض شبابنا الذين يسمعون لأناس جروهم للفتن, وعدم تقدير الأمور, وحركوا عواطفهم من غير ضبط لها بالشرع, ولأصحح مفاهيم مغلوطة.
وهذا التقرير لا يتنافى مع نصحهم وإنكار المنكرات التي يقومون بها على أن يكون الإنكار وفق الشرع وتصرفات الشارع.
فلسنا مع من يرى الطاعة المطلقة لهم كما يفعل الرافضة مع أئمتهم, ولسنا مع من لا يرى ولايتهم شرعيتهم مطلقا ويكفرهم جملة.
فيا شبابنا تنبهوا ولا تطلقوا العنان, وتعقلوا ولا تطلقوا الآذان, وتأصلوا ولا تطلقوا الأحكام, وابنوا المسائل على أصولها, واهتدوا بهدي سلفكم الصالح.
اللهم وفقنا واهدنا واهد بنا.
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار

الأحد، 2 أغسطس 2020

طاعة الحاكم المتغلب المسلم الذي استقر له الأمر بين الإفراط والتفريط


طاعة الحاكم المتغلب المسلم الذي استقر له الأمر
بين
الإفراط والتفريط
د. أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد؛ فإن الكلام على الحاكم المتغلب المسلم الذي لم تتوفر فيه شروط التنصيب الشرعية ولم يحقق العدل واستقر له الأمر هو في الحقيقة كلام عن حال ضرورة, وما استقر عليه الواقع الذي لا يمكن دفعه إلا بمفسدة أكبر, ويندرج تحت إلغاء الشروط المكملة التي يؤدي اعتبارها إلى إسقاط الأصل ووقوع الفتنة, ولذا يجب أن ينطلق النظر من هذا الأصل, وتتفرع الفروع بناء عليه؛ حتى تتحقق المصلحة الشرعية.
وأما إذا لم يستقر له الأمر فوجب دفعه وقتاله ودرء فتنته.
فنريد بالحاكم المتغلب: من استقر له الأمر وانقاد له الناس, ولم تتوفر فيه شروط الإمامة إلا الإسلام أو توفرت, ولم ينصب بطريق شرعي كمن أخذها بالسيف.
هذا الحاكم يقول عنه الشافعي:( كان من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ويجمع الناس عليه - فهو خليفة. مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 448)
ويقول عنه ابن تيمية: (فمتى صار قادرا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله.
ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار: " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى أن قال: " ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا ".
وقال في رواية إسحاق بن منصور، وقد سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» " ما معناه؟ فقال: تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه) منهاج السنة النبوية (1/ 529)
إلا أن ولايته ليست أصلا, وإنما هي حالة استثنائية تتعلق بالضرورات ومراعاة الواقع الذي لا يمكن تغييره إلا بما هو أشد وأنكى.
والأصل الذي يجب التأكيد عليه وتكراره هو: أن إقرار الشرع لولاية المتغلب لأجل دفع المفسدة الكبرى وإزالة الفتنة ورفعها.
قال الغزالي (وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة، وتشويش النظام، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟) الاعتصام للشاطبي (2/ 625)
قال الشاطبي تعليقا على كلام الغزالي: (وما قرره هو أصل مذهب مالك.
: قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟ قال: لا. قيل له: فإن كانوا أئمة جور؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان، وبالسيف أخذ الملك. أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه.
قال يحيى: والبيعة خير من الفرقة.
قال: ولقد أتى مالكا العمري فقال له: يا أبا عبد الله، بايعني أهل الحرمين، وأنت ترى سيرة أبي جعفر، فما ترى؟ فقال له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا؟ فقال العمري: لا أدري، قال مالك لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده، فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام، فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح، فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك).
ولذا كانت ولاية المتغلب شرعية بهذا النظر, وهو الملائم لتصرفات الشرع، وإن فرضنا أنه لم يعضده نص على التعيين, فالشريعة قد تمنع الفعل ابتداء لكن بعد وقوعه واستقراره تعطيه أحكاما يتناسب مع دفع الضرر الأعظم, واحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما, كما منعت ابتداء من بناء الكعبة على غير قواعد إبراهيم وأقرته بعد وقوعه دفعا لمفسدة أكبر, فكان الحكم على ما استقر عليه الأمر, فلا يجوز لأحد من الملوك أن يعيده على ما كان عليه؛ تغليبا لجانب دفع المفاسد, وهذا محل اتفاق بين المسلمين.
فإذا تقرر هذا عُلِم خطأُ من اشترط في الحاكم المتغلب أن يكون عدلا تتوفر فيه شروط الإمامة؛ حتى يطاع ويكون وليا شرعيا, فهذا التقييد لم يُبن على ما تقدم من درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين, وإنما بني على غير حال الضرورة والنظر إلى الواقع وما يؤدي إلى مفاسد كبرى.
قال محمد الدسوقي المالكي: (اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها وإما بالتغلب على الناس لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته ولا يراعى في هذا شروط الإمامة إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين) حاشية الدسوقي (4/ 298)
وقال النووي: (وأما الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا، أو جاهلا، فوجهان، أصحهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيا بفعله). روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 46)
ومن غلط هؤلاء أن فهموا من عدم التقييد: إقرار المتغلب على اعتدائه وخروجه وتغلبه, وأنه مستحق للولاية, أو أنه يلزم على عدم التقييد: إعطاؤة الطاعة المطلقة, أو أن فيه نصرة الاستبداد والدكتاتوية والظلم, وهذا تصور خاطئ أثر عليه الواقع وضغوط البيئة المنفلتة.
فالتغلب في أصله حرام وبغي وظلم واعتداء واستيلاء بالقوة ومفسدة ويؤدي إلى تفريق الأمة سفك الدماء والفوضى, والمتغلب فاسق عاص غادر ناكث للبيعة خائن للأمانة, والشريعة إذ أقرت ولايته انتهاء إنما هو لدفع مفسدة أكبر كما تقدم.
وقد انقسم الناس في طاعة الحاكم المتغلب المسلم الذي لم تتوفر فيه شروط الإمامة وكان جائرا إلى:
1-إعطائه الطاعة المطلقة التي تعطى للحاكم الشرعي ابتداء وانتهاء.
2-عدم إعطائه الطاعة, وعدم اعتباره وليا شرعيا.
والتحقيق هو التفصيل, فالمتغلب يعتبر وليا شرعيا -بالنظر المتقدم- مالم يكفر عينا, قال أحمد في رواية العطار: (ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين: فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت، ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا). منار السبيل في شرح الدليل (2/ 399)
وتختلف نوع طاعته بحسب كونه عادلا أو ظالما, فالعادل يطاع مطلقا إلا إذا خالف الشرع, وأما الظالم فلا يطاع إلا إذا تحققنا أنه موافق للشرع, فالأصل في العادل أن أحكامه موافقة للشريعة, والأصل في الظالم أنها مخالفة للشريعة.
وإذا كان الحاكم الذي لم يكفر عينا يريد تغيير دين الناس؛ لوقوعه في بدعة كبرى ويوقعهم في كفر أو بدعة فهذا يطاع في المعروف بقدر ما يدفع المفسدة الكبرى التي روعيت في هذا الباب, ويسعى المصلحون في تغييره ما أمكن بما يتوافق مع الشرع ولا يترتب عليه مفسدة كبرى, وليس الخروج عليه  طريقا شرعيا.
ولاشك أن الحكام المتغلبين ليسو على درجة واحدة, فبعضهم يجحد أحكام الشريعة ويرى أنها لا تصلح لزماننا فهذا يكفر عينا, وتجب إزالته إذا توفرت القدرة وأمنت النفسدة الكبرى, وبعضهم يُحَكم الشريعة في بعض الأحوال والأبواب ولا يحكمها في غيرها ظلما وعدوانا أو شهوة لا استحلالا وامتناعا فهذا لا يكفر ولا يطاع إلا فيما وافق الشرع, وبعضهم قد يعجز عن تطبيق بعض الأحكام الشرعية إما جهلا منه بها أو خوفا من قومه وسطوتهم ويشبه حالهم حال النجاشي من وجه.
وعلى كلٍّ, فكل واحد له حكمه وأحكامه, وتعطيل الطاعة في المعروف مطلقا تجر إلى الفوضى وتعطيل الأحكام القضائية وتقود إلى أكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على حقوقهم والنيل من المؤسسات إلى غير ذلك, وهذا أمر لا تقره الشريعة وتدفعه وترفعه, ولذا غلبت جانب درء المفاسد على جلب المصالح.
والله أعلم.