الخميس، 31 مارس 2016

الامتحان المشروع بالأشخاص

الامتحان المشروع بالأشخاص

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فالأصل أن الإنسان يمتحن بالسنة ومدى موافقته لها؛ لأن السنة وحي من عند الله, وهي معصومة.
فيمدح الإنسان بموافقتها, ويذم بمخالفتها.
والامتحان لا يصح إلا بما تضمنه الدليل الشرعي؛ لأن الله أوجب على الناس اتباع الدليل الشرعي, وعلق النجاة ودخول الجنة على طاعة الله وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم, قال تعالى: [ ومن يطع الله ورسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها وذلك الفوز العظيم].
وهذا مبسوط في موضعه.
والنبي صلى الله عليه وسلم إنما كان يمتحن بما دل عليه الدليل, كامتحانه للجارية لما سألها: أين الله؟ فأجابت في السماء.
وكان السلف أيضا يمتحنون بما تضمنته الأدلة الشرعية موافقة أو مخالفة؛ فذكر الذهبي في سير أعلام النبلاء (6/ 200) بسنده عن مهدي بن هلال يقول: (( أتيت سليمان فوجدت عنده حماد بن زيد، ويزيد بن زريع، وبشر بن المفضل وأصحابنا البصريين، فكان لا يحدث أحدا حتى يمتحنه فيقول له: الزنى بقدر ؟ فإن قال: نعم استحلفه ان هذا دينك الذي تدين الله به ؟ فإن حلف حدثه خمسة أحاديث )).
وقال الذهبي: (( قال معاذ بن معاذ: كان سليمان التيمي لا يزيد كل واحد منا على خمسة أحاديث، وكان معنا رجل، فجعل يكرر عليه، فقال: نشدتك بالله أجهمي أنت ؟...))
وأما الامتحان بالأشخاص فلا يخلو:
1-أن يكون الشخص الممتحَن به قد جاء الثناء عليه في الكتاب والسنة بعينه, كأبي بكر وعمر وعثمان وعلي وغيرهم من الصحابة.
فكل من أثنى الله عليه, أو أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنه من أهل الجنة فإن المدح والذم يعلق بحبه وببغضه.
وقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم حب الأنصار وعلي رضي الله عنهم من الإيمان.
فيمتحن بحب الصحابة, فمن أحبهم فهو من أهل المدح, ومن أبغضهم فهو من أهل الذم.
والامتحان بهم يرجع إلى الامتحان بالسنة؛ لكون السنة قد وردت بمدحهم والثناء عليهم.
قال البربهاري في شرح السنة للبربهاري (116): (( وإذا رأيت الرجل يحب أبا هريرة وأنس بن مالك وأسيد بن حضير فاعلم أنه صاحب سنة إن شاء الله )).
2-من لم يرد فيه نصٌّ بالثناء عليه ومدحه .
فهنا نجد الأئمة يمتحنون ببعض أهل السنة, وببعض أهل البدع, لا بكل من كان من أهل السنة, أو كان من أهل البدع؛ وذلك راجع إلى معنى كلي, من أجله فرقوا بين سني وسني, ومبتدع ومبتدع.
وإن الناظر في هذه المسألة عليه أن يبحث عن هذا المعنى الكلي؛ ليلحق الشبيه بالشبيه, وحتى يتسنى له أن ينزل هذا المعنى الكلي على العلماء الذين يعاصرونه, فيحقق المناط.
ومن لم يعرف هذا المعنى الكلي فلن يتمكن من تحقيقه في المعينين, وسيقع في ظلم وجهل.
والمتتبع لواقعنا المعاصر يرى توسعا في الامتحان بالأشخاص من غير تحقيق للمعنى الكلي فيمن يمتحن به, ومن غير دراية بمن يستحق الامتحان.
وترتب على ذلك: التجني والهوى والظلم, وإخراج الناس من دائرة أهل السنة بلا موجِب شرعي.
والمعنى الكلي الذي ترجع إليه مسألة الامتحان بالأشخاص:
الإمامة في السنة, فلابد أن يكون الشخص الممتحَن به: إماما في السنة.
ولا يكون إماما في السنة إلا إذا كان من أعلم الناس بها, ومحل اتفاق بينهم.
وكذا في المقابل: الإمامة في البدعة.
ومن استقرى كتب السلف؛ تبين له إمامة من امتُحن الناس به, وإجماعهم على هذا.
قال ابن مهدي: (( رجلان من أهل الشام إذا رأيت رجلا يحبهما فأطمئن إليه الاوزاعي وأبو اسحاق كانا إمامين في السنة )) تهذيب التهذيب (1/ 132)
وقال أبو عبيد: (( إني لا تدين بذكر أحمد, ما رأيت رجلا أعلم بالسنة منه )). سير أعلام النبلاء (11/ 196)
وقال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 553): (( ...وكان الإمام - الذي ثبته الله وجعله إماما للسنة حتى صار أهل العلم بعد ظهور المحنة يمتحنون الناس به فمن وافقه كان سنيا وإلا كان بدعيا - هو الإمام أحمد بن حنبل فثبت على أن القرآن كلام الله غير مخلوق )) .
فخرج بذلك: من لم يكن إماما في السنة, ومن لم يكن إماما في البدعة.
فمن امتحن الناس بمن لم يكن إماما في السنة, أو إماما في البدعة فإنه يكون قد أخطأ, ووقع في بدعة؛ لمخالفته للأدلة, وفعل السلف.
وهذا المعنى الكلي يرجع إلى السنة نفسها, فكان المادح المحب لهذا الإمام هو في الحقيقة مادح ومحب للسنة, والمبغض له مبغضا للسنة.
وكذا يرجع إلى الإجماع, فجاز امتحان الناس به؛ لإجماع أهل السنة على إمامته في السنة, والإجماع حجة.
فرجع جواز الامتحان به إلى الدليل الشرعي, ولم يكن من باب تنصيب رجل يوالى ويعادى عليه.
والخلاصة: أن مرجع الامتحان المشروع بالأشخاص: الكتاب والسنة والإجماع.
فمن جاء التنصيص عليه بالثناء والمدح في الكتاب والسنة كان دليل الامتحان به: الكتاب والسنة والإجماع.
ومن لم يأت التنصيص عليه من الأئمة ممن اتفق أهل السنة على غمامته في السنة كان الدليل عليه: الإجماع.
وبالتالي: لم يتجاوز أهل السنة في الامتحان بالأشخاص الأدلة الشرعية.
ومن خرج عما تضمنته الأدلة فمدح به فإنه يكون قد خالف السلف, ووقع في البدعة.
ومن هنا: يعلم خطأ من يمتحن بمن لم يكن إماما في السنة أو في البدعة, فضلا عمن اختلف فيه, وتجاذبته الأنظار.
ويزداد الأمر شناعة: إذا رُتِّب على ذلك: الولاء والبراء, والقطيعة والهجر, والرمي بالبدعة.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (3/ 414): (( والإعراض عن ذكر يزيد بن معاوية وامتحان المسلمين به فإن هذا من البدع المخالفة لأهل السنة والجماعة فإنه بسبب ذلك اعتقد قوم من الجهال أن يزيد بن معاوية من الصحابة وأنه من أكابر الصالحين وأئمة العدل وهو خطأ بين )) .

وأنبه في ختام هذا المقال: إلى أنه لا يصح امتحان كل أحد, وإنما يمتحن من وجدت فيه الحاجة المعتبرة لامتحانه, كمن جُهل حاله, وارتيب فيه, فيمتحن بمن كان إماما في السنة, أو بمن كان إماما في البدعة؛ لأن الامتحان قرينة لمعرفة حال الرجل, بخلاف من عُرف بالسنة فإنه قد عُلِم حاله فلا نحتاج إلى امتحانه.
ومرجع ذلك إلى تحقق المصلحة الراجحة.
وتحقيق المصلحة الراجحة يختلف من مكان إلى مكان, ومن زمان إلى زمان, ومن شخص إلى شخص.
وهذا الامتحان قرينة لمعرفة حاله, فإذا تبين لنا أن الطعن فيمن ثبتت إمامته لأمر خارج عن السنة والإجماع, كجهله به, ونحو ذلك, ككلام يحيى بن معين في الشافعي, فهنا لا يكون القدح مخرجا له عن السنة.
 فينبغي التنبه لهذا.

ومن الخطأ امتحان من عُرف بالسنة بمن قُدح فيه بما ليس بقادح, أو بمن اختلف فيه أهل العلم المعتبرون.
ومن آفة ما وقع فيه بعض أهل زماننا: الامتحان بمشايخ من أهل السنة لم يصلوا إلى درجة الإمامة في السنة, وهذا من الخطأ البين؛ لخروجهم عن مقتضى الشرع, وفعل السلف.
والله المستعان.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار

22-6-1437هـ

الثلاثاء، 29 مارس 2016

المرجع في الجرح والتعديل المتعلق بالديانة لأهل العقائد أصالة


المرجع في
الجرح والتعديل المتعلق بالديانة
 لأهل العقائد
أصالة

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فهذا الباب باب عظيم, القيام به على وجهه من الجهاد في سبيل الله, وهو يفضي إلى حفظ الدين الذي هو أعلى الضرورات الخمس.
والجرح والتعديل منه ما هو متعلق بالرواية, ومنه ما هو متعلق بالديانة.
فما تعلق منه بالرواية-أي: برواة الأحاديث- فأربابه علماء الحديث, وقد صنفوا فيه المصنفات, كالجرح والتعديل لابن أبي حاتم, والضعفاء للعقيلي, والمجروحين لابن حبان.
والمقصود منه: حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولا ريب أن هذا النوع فيه تداخل بين علم الحديث وعلم العقيدة؛ لكلام الأئمة فيه عن العدالة والضبط, لكن يغلب عليه ما يتعلق بعلم الحديث.

ثم إن هناك خلافا بين المحدثين في قبول رواية المبتدع أو ردها.
وليس محل مقالي هذا النوع.
وأما ما تعلق بالديانة - وهو: الحكم على الرجل بالسنة والبدعة- فأربابه علماء العقيدة؛ لأنهم أعرف الناس بالسنة والبدعة, وما يتعلق بالفِرَق.
وقد ميزوا المسائل التي تُعدُّ أصولا يستحق صاحبها التبديع, وبينوا ضوابط تنزيل ذلك على المعين.
فهم أحق الناس بهذا الباب.
ومقصودي بأهل العقائد: من كان متمكنا في العقيدة السلفية, عارفا بأصول ال السنة والجماعة.
ذلك أن الجرح والتعديل المتعلق بالديانة يدور -في الجملة- على مباحث العقيدة.
ومن الفروق بين باب الجرح والتعديل في الرواية وبين باب الجرح والتعديل في الديانة:
1-اختلاف الموضوع, فموضوع الجرح والتعديل في الرواية: البحث في الرواة من جهة قبول روايتهم أو ردها, وموضوع الجرح والتعديل في الديانة: البحث في الناس من جهة السنة والبدعة.
2- اختلاف المقصود, فالمقصود من الجرح والتعديل في الرواية: حفظ حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, والمقصود من الجرح والتعديل في الديانة: حفظ الدين, وتغليب مصلحة حفظ الشريعة.
3-الجرح والتعديل في الرواية يُغلَّب فيه جانب الضبط, فقد يقبل حديث المبتدع – على خلاف بين أهل الحديث في قبول رواية المبتدع- ولا يقبل حديث السني الذي ليس بضابط, وأما الجرح والتعديل في الديانة فيغلب فيه جانب الدين, فلا يؤخذ من المبتدع.

4- الجرح والتعديل في الرواية قد لا يخرج الرجل من السنة, وأما الجرح والتعديل في الديانة فيخرجه من السنة.
5-اختلاف أنواع أسباب التجريح بينهما في الجملة.
فمثلا: أسباب التجريح المتعلقة بالضبط مختلفة عن أسباب التجريح المتعلقة بالبدعة ومخالفة أصول أل السنة والجماعة.
6-ما يترتب على الجرح في الديانة أعظم مما يترتب على الجرح في الرواية في الجملة.

فمثلا: يترتب على الجرح فيما يتعلق بالديانة: الهجر, والتحذير, والعقوبة, وأما الجرح المتعلق بالرواية فيترتب عليه عدم قبول روايته فقط.
وباب الجرح والتعديل المتعلق بالديانة: له ضوابط ومقاصد, فمن خرج عنها فإنه يكون قد تجنى على الشريعة وعلى الناس.
وهو في الأصل مستثنى من باب الغيبة.
وهذا الباب إنما استثني من أجل علة, يدور معها وجودا وعدما.
والمقصود منه: تحقيق مصلحة راجحة, وهي تعود إلى حفظ الدين.
ومتى انتفت هذه المصلحة الراجحة رجع إلى حكمه الأصلي.
قال ابن كثير في تفسير القرآن (7/ 380): (( والغيبة محرمة بالإجماع، ولا يستثنى من ذلك إلا ما رجحت مصلحته، كما في الجرح والتعديل والنصيحة، كقوله صلى الله عليه وسلم  ، لما استأذن عليه ذلك الرجل الفاجر: "ائذنوا له، بئس أخو العشيرة"  ، وكقوله لفاطمة بنت قيس -وقد خطبها معاوية وأبو الجهم-: "أما معاوية فصعلوك ، وأما أبو الجهم فلا يضع عصاه عن عاتقه"  , وكذا ما جرى مجرى ذلك )).
وما استثني من أصل يسمى رخصة, ولا يتجاوز فيه مقدار الحاجة.
ومن تجاوزها فإنه يكون قد وقع في الغيبة المحرمة.
قال النووي في شرح النووي على مسلم (1/ 124): (( إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد فإن تكلم كان كلامه غيبة محرمة كذا ذكره القاضي عياض رحمه الله وهو ظاهر)).
وقال ابن القيم في الروح (240): (( والفرق بين النصيحة والغيبة أن النصيحة يكون القصد فيها تحذير  المسلم من مبتدع أو فتان أو غاش أو مفسد فتذكر ما فيه إذا استشارك في صحبته ومعاملته والتعلق به كما قال النبي لفاطمة بنت قيس وقد استشارته في نكاح معاوية وأبي جهم فقال أما معاوية فصعلوك وأما أبو جهم فلا يضع عصاه عن عاتقه وقال بعض أصحابه لمن سافر معه إذا هبطت عن بلاد قومه فاحذروه .
 فإذا وقعت الغيبة على وجه النصيحة لله ورسوله وعباده المسلمين فهي قربة إلى الله من جملة الحسنات وإذا وقعت على وجه ذم أخيك وتمزيق عرضه والتفكه بلحمه والغض منه لتضع منزلته من قلوب الناس فهي الداء العضال ونار الحسنات التي تأكلها كما تأكل النار الحطب ))

وهنا سؤال مهم, وهو: هل باب الجرح والتعديل المتعلق بالديانة من قبيل الخبر أو الاجتهاد؟
والجواب: أنه من قبيل الخبر من جهة, ومن قبيل الاجتهاد من جهة أخرى: فهو من قبيل الخبر من جهة أن المجرِّح إذا جرَّح رجلا, فمفاد جرحه: أنه فاسق مخالف للسنة, وإذا عدَّل فمفاد تعديله: أنه على السنة.
والسنة هنا في مقابل البدعة, كما هو اصطلاح أهل العقائد.
فهو خبر لما عليه المعدَّل أو المجرَّح في نظر المعدِّل أو المجرِّح, ويُتلقى بالسمع.
وهو من قبيل الاجتهاد من جهة تحقيق المناط في المعين في صورة من لا يجرِّح إلا بسبب شرعي صحيح.
وأما من يجرح بما هو سبب مؤثر وبما ليس بسبب مؤثر فلابد أيضا من تحقيق هل ذلك السبب مؤثر أو لا؟.
فحصل الاجتهاد من جهتين:
1-من جهة تأثير السبب وعدمه.
2-من جهة تحقيق المناط وعدمه.
قال الحاكم في المدخل إلى الصحيح (114): ((  وأنا مبين بعون الله وتوفيقه أسامي قوم من المجروحين ممن ظهر لي جرحهم اجتهادا ومعرفة بجرحهم لا تقليدا فيه لأحد من الأئمة ))
وقال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 456): (( فإن التعديلَ من باب الإِخبار والحكم, لا من باب الشهادة)).
ويستفاد من هذا التفصيل أنه إذا جرَّح ثقةٌ تقيٌّ عالمٌ بأسباب الجرح المعتبرة, ولا يجرح إلا من يستحق التجريح, ولم يعارضه غيره, ولم يتسنَّ لغيره أن ينظر في الأسباب التي من أجلها جرَّح, ولم يعدَّل المجرَّح؛  فإنه يقبل.
فغُلِّبت هنا: جهة الخبر؛ حفظا للدين, ولأن إعمال قول المجرح أولى من إهماله في هذه الصورة.
وقد اختلف في العدد؛ فقال مالك ومحمد بن الحسن والشافعى: لا يقبل في التعديل والجرح أقل من رجلين.
ومن حججهم: قول النبي (صلى الله عليه وسلم) : (أيما مسلم شهد له أربعة بخير أدخله الله الجنة، قلنا: وثلاثة؟ قال: وثلاثة، قلت: واثنان؟ قال: واثنان، فلم نسأله عن الواحد)
وقال: أبو حنيفة وأبو يوسف: يقبل تعديل الواحد وجرحه.
انظر: شرح صحيح البخاري لابن بطال (8/ 25)
والأقرب: عدم اشتراط العدد.
وهل يشترط ذكر سبب التجريح؛ لتوقف معرفة كون الجرح مقبولا أو لا على كون السبب مؤثرا أو لا؟
الأقرب: عدم الاشتراط فيمن عُرف عنه أنه لا يجرح إلا بما كان مؤثرا, ويحسن تحقيق المناط, ولم يعدَّل المجرَّح ؛ وذلك حفظا للدين, وتغليبا لمصلحة الشريعة.
قال الخطيب في الكفاية في علم الرواية للخطيب البغدادي (100): (( ... إن كان الذي يرجع إليه في الجرح عدلا مرضيا في اعتقاده وأفعاله , عارفا بصفة العدالة والجرح وأسبابهما , عالما باختلاف الفقهاء في أحكام ذلك , قبل قوله فيمن جرحه مجملا , ولم يسأل عن سببه )).
وقال السخاوي في فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (2/ 32): (( ..المختار عند شيخنا- أي ابن حجر- أنه إن خلا المجروح عن تعديل قبل الجرح فيه مجملا، غير مبين السبب إذا صدر من عارف، قال: " لأنه إذا لم يكن فيه تعديل فهو في حيز المجهول، وإعمال قول المجرح أولى من إهماله ")).
أما من ثبتت عدالته فإنه لا يقبل فيه جرح إلا إذا كان مفسرا بما يكون مؤثرا؛ لأن الأصل فيمن ثبتت عدالته: العدالة, وهو اليقين, واليقين لا يزول بالشك.
وقد بوب البيهقي بابا في السنن الكبرى للبيهقي (10/ 211): (( لا يقبل الجرح فيمن ثبتت عدالته إلا بأن يقفه على ما يجرحه به )).
وأسند عن إبراهيم النخعي أنه قال: كان يقال: " العدل في المسلمين من لم يظهر منه ريبة "
وعلق عليه بقوله: (( وهذا عندنا فيمن ثبتت عدالته فهو على أصل العدالة ما لم يظهر منه ريبة ))
وقال أبو عبد الله المروزي: (( وكل رجل ثبتت عدالته برواية أهل العلم عنه وحملهم حديثه فلن يقبل فيه تجريح أحد جرحه حتى يثبت ذلك عليه بأمر لا يجهل أن يكون جرحة )) التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (2/ 33)
وقال ابن عبد البر في جامع بيان العلم وفضله (2/ 1093): (( من صحت عدالته وثبتت في العلم إمامته وبانت ثقته وبالعلم عنايته لم يلتفت فيه إلى قول أحد إلا أن يأتي في جرحته ببينة عادلة يصح بها جرحته على طريق الشهادات والعمل فيها من المشاهدة والمعاينة لذلك بما يوجب تصديقه فيما قاله لبراءته من الغل والحسد والعداوة والمنافسة وسلامته من ذلك كله، فذلك كله يوجب قبول قوله من جهة الفقه والنظر، وأما من لم تثبت إمامته ولا عرفت عدالته ولا صحت لعدم الحفظ والإتقان روايته، فإنه ينظر فيه إلى ما اتفق أهل العلم عليه ويجتهد في قبول ما جاء به على حسب ما يؤدي النظر إليه، والدليل على أنه لا يقبل فيمن اتخذه جمهور من جماهير المسلمين إماما في الدين قول أحد من الطاعنين: إن السلف رضي الله عنهم قد سبق من بعضهم في بعض كلام كثير، منه في حال الغضب ومنه ما حمل عليه الحسد، كما قال ابن عباس، ومالك بن دينار، وأبو حازم، ومنه على جهة التأويل مما لا يلزم المقول فيه ما قاله القائل فيه، وقد حمل بعضهم على بعض بالسيف تأويلا واجتهادا لا يلزم تقليدهم في شيء منه دون برهان وحجة توجبه )).
وأما إذا تعارضت أقوال المجتهدين فهنا يكون الأمر اجتهاديا, فقد يوافَق المعدِّل, وقد يوافَق المجرح بحسب ما يدل عليه الشرع, وصحة التنزيل على المعين.
قال ابن القيم في حاشية ابن القيم على سنن أبي داود (2/ 298): (( ... وحتى لو ثبت عن أحد منهم إطلاق الضعف عليه لم يقدح ذلك في روايته ما لم يبين سبب ضعفه وحينئذ ينظر فيه هل هو قادح أم لا وهذا إنما يحتاج إليه عند الاختلاف في توثيق الرجل وتضعيفه وأما إذا اتفق أئمة الحديث على تضعيف رجل لم يحتج إلى ذكر سبب ضعفه هذا أولى ما يقال في مسألة التضعيف المطلق ))
وبهذا يظهر لنا: أن الجرح والتعديل إذا كانا مبهمين فالتعديل يقدَّم.
وإذا تعارض الجرح المفسر مع التعديل المبهم؛ فإن الجرح المفسَّر المؤثر يقدم على التعديل.
ويستثنى من ذلك: ما لو اطلع المعدل على سبب الجارح وذكر أنه ليس بمؤثر, أو يقول: تاب منه؛ فهنا يقدم قول المعدِّل.
قال السخاوي في فتح المغيث بشرح ألفية الحديث (2/ 35): (( أما إذا قال المعدل: عرفت السبب الذي ذكره الجارح، لكنه تاب منه وحسنت توبته ; فإنه يقدم المعدل ...))
  
وأما من يعتبر قوله في هذا الباب, فهو العالم التقي العارف بأسباب الجرح, المنصف, المتيقظ, المتحري, المتقن.
وأسباب الجرح هنا: ما تعلق بالبدعة, ومتى يكون الرجل مبتدعا, وهذا يستدعي معرفة دقيقة بمواطن الاتفاق في العقيدة بين السلف, ومواطن الاختلاف, كما يستدعي معرفة دقيقة بالفرق وأقوال كل فرقة وما تميزت به عن غيرها.
قال الذهبي في تذكرة الحفاظ للذهبي (1/ 10): (( فحق على المحدث أن يتورع في ما يؤديه وأن يسأل أهل المعرفة والورع ليعينوه على إيضاح مروياته، ولا سبيل إلى أن يصير العارف الذي يزكى نقله الأخبار ويجرحهم جهبذا إلا بإدمان الطلب والفحص عن هذا الشأن وكثرة المذاكرة والسهر والتيقظ والفهم مع التقوى والدين المتين والإنصاف والتردد إلى مجالس العلماء والتحري والإتقان )).
وقال النووي في شرح النووي على مسلم (1/ 124): (( إنما يجوز الجرح لعارف به مقبول القول فيه أما إذا لم يكن الجارح من أهل المعرفة أو لم يكن ممن يقبل قوله فيه فلا يجوز له الكلام في أحد فإن تكلم كان كلامه غيبة محرمة كذا ذكره القاضي ))
ولا عبرة بقول من لم يكن معتبرا في هذا الباب.
قال ابن القيم في زاد المعاد في هدي خير العباد (5/ 456): (( وإذا تعارض معنا في الاحتجاج برجل قولُ ابن حزم، وقولُ البخاري، وأحمد، وابن المديني، والحميدي وإسحاق بن راهويه وأمثالهم، لم تلتفت إلى سواهم )).
فالاعتبار وعدمه عُلق بأوصاف لا بأشخاص, وحصر ذلك في أشخاص معينين دون غيرهم ممن انطبق عليهم الوصف: تحكم, لا دليل عليه.
ويجر إلى التعصب, وتقديس الأشخاص.
وليس كل من قيل فيه إنه من أهل الجرح والتعديل يكون كذلك, وإنما العبرة بتحقق الوصف المنضبط المعتبر فيه.
وقد دخل في ذلك الهوى والتعصب.
نسأل الله العافية.

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار

20-6-1437هـ

الاثنين، 28 مارس 2016

مسألة الهجر المشروع المتعلق بالدين والرد على د. عبد الله عبد الرحيم البخاري في هذه المسألة



مسألة الهجر المشروع المتعلق بالدين
والرد على د. عبد الله عبد الرحيم البخاري في هذه المسألة

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فالهجر أمر شرعي, المرجع في بيان حكمه إلى الشرع دون غيره.
والهجر في لغة العرب يعود إلى القطيعة والقطع.
ومما يدخل فيه: ترك الكلام والسلام, وعدم المجالسة, إلى غير ذلك.
والهجر في أمور الدين حق لله, فلابد فيه من الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والهجر بلا موجِبٍ شرعي محرم, وهو ينافي مقاصد الشارع, ومنها: الاجتماع على الحق والتآلف, والرحمة, والإحسان.
وقد عُلِّق الهجر في النصوص الشرعية بسبب, -وهو: إظهار الفسق-, مع ربط ذلك بالمصلحة الشرعية الراجحة.
فلابد من وجود السبب وتحقق المصلحة الراجحة.
وما وُجِد سببه وتحققت مصالحه الراجحة هو: الذي يفضي إلى تحقيق مقاصد الشرع في الهجر.
ومن الأدلة على كون الهجر عُلِّق بالمصالح الراجحة: هجر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك.
وجاء في حديث كعب قوله: ( ونهى  رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة ))
فقد ظهرت المعصية منهم -رضي الله عنهم-, ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلحة راجحة في هجرهم فهجرهم.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 174): (( صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم - لما تخلفوا عن غزوة تبوك وظهرت معصيتهم وخيف عليهم النفاق فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم ))
فمناط الهجر: إظهار الفسق مع تحقق المصلحة الشرعية الراجحة.
فمن أظهر الفسق سواء كان فسقه من جهة الاعتقاد –وهم أهل البدع-، أو كان فسقه من جهة العمل –وهم أهل الكبائر-، فإنه مستحق للعقوبة.
ومن العقوبات الشرعية: الهجر, وهو من باب التعزير.
فالهجر يدخل تحت العقوبات الشرعية.
ومقصد الشارع من هذه العقوبات: الزجر, والتطهير, ورجوع العامة عن مثل حاله, وعلو الدين, ونحو ذلك.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: (( ... لكن ينزل الله سبحانه من العقاب و يشرع من الحدود ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يخص فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته, أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه ))
فهي إما أن ترجع إلى المظهِر نفسه, أو للأمة.
وهذه القضية تدور عليها مسألة هجر التأديب الذي هو محل هذا المقال.
وعليه: فإن الهجر يختلف حكمه بحسب قوة الهاجر وضعفه, وتحقق مقاصد الشارع أو عدمه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): ((  وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله . فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا . وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر ))
فتبين لنا: أن مطلق الهجر ليس مشروعا, وإنما المشروع: هجر مخصوص, وهو: الذي يحقق مقاصد الشارع في العقوبات, وتترتب عليه مصالحه.
والمصالح المعتبرة هي التي تحافظ على مقصد الشارع.
والنبي صلى الله عليه وسلم تألَّف المؤلفة قلوبهم؛ لمكانتهم في أقوامهم: فكانت مصلحة تأليفهم أعظم من مصلحة هجرهم, بخلاف كعب وصاحبيه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): ((... لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم )).
والهجر المخصوص الذي يحقق مقاصد الشارع يختلف باختلاف المصالح المنوطة به, والأحكام التي علقت على المصالح تتغير بتغير المصالح.
ويترتب على هذا: أن تحقق مقاصد الهجر في المكان الذي تكون الشوكة فيه لأهل السنة ليس كتحققها في المكان الذي تكون الشوكة فيه لأهل البدع.
وتحقق مقاصد الهجر فيما إذا كان الهاجر قويا ذا شوكة ليس كتحققها في عامة الناس.
ومتى تخلفت مقاصد الهجر ولم تترتب عليه مصالحه الراجحة فإنه لا يكون مشروعا؛ لأنه سيترتب عليه مفسدة أرجح, وما ترتب عليه مفسدة راجحة فإنه لا يكون مشروعا.
ومن الأمثلة على ذلك: ما لو تُرك حديث أهل البصرة للقدر فسيترتب عليه ذهاب جملة من الأحاديث.
قال بعض الأئمة كما في شرح علل الترمذي لابن رجب (ص: 123): (( لو تركت أهل البصرة للقدر وتركت أهل الكوفة للتشيع لخربت الكتب )) .
وإذا تعارضت المصالح, أو المصالح والمفاسد رجح بينها بمسالك الترجيح.
ومن الخطأ أن تعطى قاعدة عامة لكل هاجر مع كل مهجور.
والخلاصة: أنه لا يصح إطلاق إيقاع الهجر ولا يصح إطلاق نفيه, وإنما يعلق ذلك بوجود سببه مع تحقق المصلحة الراجحة فيه.
وإذا تعارضت المصالح فيرجح أقواها.
وإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيقدم أرجحها.
فإن قيل: هل هجر المظهر للفسق يكون على الدوام مادام على فسقه؟
قيل: بحسب تحقق المصلحة الراجحة وعدمها, وذلك راجع لمقاصد عظيمة من مقاصد الشارع, ومنها: الرحمة بالخلق, والإحسان إليهم.


وقبل الختام: أعرج على شيء من كلام د. عبد الله البخاري في هذه المسألة؛ لأبين خطأه فيها؛ وذلك لاشتباه كلامه على جماعة من الإخوة:

قال د.عبد الله البخاري جوابا عن سؤال في محاضرة له بعنوان: ضوابط الهجر الشرعي " الهجر في ضوء الكتاب والسنة ": ((فكل الشرائع مبنية على المصالح صحيح فلما تخص هذه فتعينها بأنها مبنية على المصالح دون غيرها عرف الاختزال هذا اختزال أقول هذا اختزال ولا يجوز أن يختزل

...
المصالح هل المصلحة المرادَ هنا هي المصلحة المختصة بالمهجور أم المختصة بالهاجر أم المختصة بالناظرين أنا أسأل لأن هذه الكلمة كثيرا ما تردد الهجر للمصلحة الهجر للمصلحة !!صحيح نحن ما ردننا نقول الصلاة للمصلحة الصدقة للمصلحة الصيام للمصلحة الجهاد لمصلحة صحيح إذن لا تتعب في تقرير ما هو مقرر في الشريعة كلها لا ينازع في هذا اثنان ولا ينتطح فيها عنزان ))
والرد عليه من أوجه, منها:
الوجه الأول: تخصيص الهجر بأنه معلق بالمصالح ليس من باب الاختزال كما ذكر الدكتور, وتجرأ على تحريمه, وإنما هو لبيان أنه حكمٌ معلقٌ بالمصلحة, وفرقٌ بين الأحكام المعلقة بالمصلحة, وبين كون الشريعة بنيت على المصلحة, وليت الشيخ لم يخض في غير فنه.
الوجه الثاني: الأحكام المعلقة على المصالح, يقصد بها: الأحكام التي أنيطت بتحقق مصلحتها, فتكون تابعة لأصلها وعلتها وهي: المصلحة, فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما, بخلاف الأحكام التي لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال, فمثلا: كون الصلاة بنيت على المصلحة لا يجعل الصلاة تتغير بتغير الأزمان والأحوال, وكذلك الزكاة, والحج ...
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 330): (( ... فقالوا : الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه .
 والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة ..))
الوجه الثالث: في مسألة الهجر يجتهد المجتهد في تحقيق المصالح في المعين, فنُصَّ على المصالح مراعاة لتحقيق المناط.

قال د. عبد الله البخاري: (( فما هي المقاصد الشرعية من الهجر ؟لتتحقق المصلحة العامة التي هي المصلحة الدينية منها تحقيق العبودية لله لأن قلنا ماذا؟ الهجر عبادة فلابد أن تحقق العبودية لله عبادة في السراء وله عبادة في الضراء ومنها تحقيق معلمِ الولاء والبراء الولاء للإيمان والمؤمنين والبراءة من الكفر والكافرين والبدعة والمبتدعين
... المصلحة الخاصة هي على قسمين مصلحة تعلق بالمهجور ومصلحة تتعلق بالهاجر المصلحة المتعلقة إن خشي على نفسه الفتنة فله أن يهجر كل من يخشى على نفسه من مخالطه وهذا الذي يسمي ماذا بالهجر الوقائي وهذا ظاهر مسألة انتفاع المهجور المختصة بالمهجور إن انتصح وانتفع فالحمد لله وإن لم ينتصح ولم ينتفع هل نلغي المصالح الدينية العامة والكلية في مقابل مصلحة خاصة))
والرد عليه من أوجه, منها:
الوجه الأول: عدم التسليم بوجود التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة في كل صورة من صور الهجر, فقد تنتفي المصلحة العامة وتوجد الخاصة.
الوجه الثاني: عدم التسليم بتقديم المصلحة العامة مطلقا عند التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة, فقد تقدم الخاصة إذا لم تفوت العامة, أو كانت الخاصة أقوى رتبة من العامة, ونحو ذلك.
ومن أمثلة ذلك: تقديم طاعة الوالدين على جهاد الطلب مع كون جهاد الطلب يتعلق بالمصلحة العامة.
الوجه الثالث: أن المراد بالمصلحة العامة الكلية عند أهل العلم: التي تعم جميع المسلمين؛ فأخرجت المصلحة الجزئية.
فإذا تعارضت المصلحة العامة المتعلقة بجميع المسلمين مع المصلحة الخاصة المتعلقة بشخص أو مجموعة فهنا تقدم المصلحة العامة بقيدها, وهو اتحاد الرتبة وتفويت العامة.
والدكتور البخاري يفسر المصلحة العامة والكلية بالمصلحة الدينية!!, وهذا خطأ, وهي أعم من الدينية, فقد تتعلق بالنفس أو بالمال, ونحو ذلك.
 ومن خاض في غير فنه ...
الوجه الرابع: خلَط الشيخ بين البراءة من أهل البدع وبغضهم وبين عدم هجرهم إذا انتفت المصلحة الراجحة, فبغضهم بقدر بدعهم لا ينافي عدم هجرهم لانتفاء المصلحة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ترك هجر ابن أُبي مع أنه رأس النفاق, وترك هجر المتخلفين من المنافقين.
والمظهر للفسق اجتمع فيه ولاء وبراء: ولاء بقدر إيمانه وطاعته, وبراء بقدم فسقه وعصيانه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 209): (( وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ))
 الوجه الخامس: قد يسقط الهجر إذا لم ينتفع المهجور, وكانت المصلحة راجحة في تأليفه, ولم يتعارض مع المصلحة العامة الكلية, أو يفوتها.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): (( وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله .
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا .
وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك, بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر))
وقال في مجموع الفتاوى (28/ 206): (( وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه ))
وقال ابن باز في مجموع فتاوى ابن باز (5/ 344): (( ... فأنت أيها السائل ما دمت نصحته ووجهته إلى الخير ولكنه ما زاده ذلك إلا إظهارا للمعصية, فينبغي لك هجره وعدم اتخاذه صاحبا . وينبغي لك أن تشجع غيرك من الذين قد يؤثرون عليه وقد يحترمهم أكثر على نصيحته ودعوته إلى الله لعل الله ينفع بذلك , وإن رأيت أن الهجر يزيده شرا وأن اتصالك به أنفع له في دينه وأقل لشره فلا تهجره ؛ لأن الهجر يقصد منه العلاج فهو دواء , فإذا كان لا ينفع بل يزيد الداء داءا فأنت تعمل ما هو الأصلح من الاتصال به وتكرار النصيحة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير اتخاذه صاحبا ولا خليلا لعل الله ينفع بذلك, وهذا هو أحسن ما قيل في هذا من كلام أهل العلم رحمهم الله )).

وأخيرا:
أخطاء وقع فيها من غلا في التبديع:
من غلا في التبديع وقع في أخطاء متعلقة بهذه المسألة ومنها:
1-هجر من لم يقع في بدعة أصلا, أو وقع في بدعة لكن لم يبدَّع؛ لعدم توفر الشروط.
وهذا من التجني والاعتداء.
2-عدم مراعاة المصالح والمفاسد في الهجر.
3-مجاوزة الحد المشروع في الهجر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
19-6-1437هـ


السبت، 26 مارس 2016

مسألة حمل المجمل على المبين في كلام الناس

مسألة حمل
المجمل على المبين
في كلام الناس


الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن هذه المسألة من المسائل التي كثر فيها الجدل في هذا العصر؛ حتى جُعلت من مسائل الولاء والبراء.
وهذا من وضع المسائل في غير موضعها الذي ينافي العدل.
والمراد بالمجمل عند الأصوليين: ما لا يكفي الأخذ به وحده.
وله إطلاق عام, وهو: ما يحتاج إلى تقييد.
والمبين عند الأصوليين: ما كان واضحا بغيره.
وله إطلاق عام, وهو: كل مقيَّد.
قال الزركشي في البحر المحيط في أصول الفقه (3/ 43): (( قال القفال الشاشي: ويجوز أن يسمى العام مجملا, والخاص مفسرا على معنى أن العام جملة؛ إذ ليس لفظه مقصورا على شيء مخصوص بعينه, والخاص مفسر أي: فيه بيان ما قصد بتلك الجملة التي هي العموم.
 وقال أبو عبد الله الزبيري البصري من أصحابنا: اعلم أن الفقهاء قد استجازوا العبارة عن العموم باسم المجمل وإن كانت حقيقته المفتقر إلى ما يبينه ))
ومحل الكلام, هو: الإطلاق العام, لا الخاص.
وقد اختلفت أقوال المعاصرين فيها بين مثبت على الإطلاق, ونافٍ على الإطلاق, ومفصل.
والصواب هو: التفصيل؛ فيفرق بين الاستعمال والحمل, فليس كل حمل حسن يسوغ للمستعمل مطلق الاستعمال.
والفرق بين الاستعمال والحمل:
الاستعمال: إطلاق اللفظ, وإرادة المعنى, وهو من صفات المتكلم.
والحمل, هو: اعتقاد السامع مرادَ المتكلم.
فإذا جئنا لمقام الاستعمال فالواجب على المستعمل أن يستعمل الألفاظ في موضعها, فيجمل في موطن الإجمال, ويبين في موطن البيان, وليس له أن يجمل في مقام يستدعي البيان.
وإجماله في مقام البيان خطأ, وتترتب عليه مفاسد.
ولذا يُخطَّأ فيه.
يدل على هذا: قوله تعالى: [يأيها الذين آمنوا لا تقولوا راعنا وقولوا انظرنا]
فلما كانت كلمة "راعنا" محتملة, وفيها إجمال, أمر الله أن نستعمل كلمة أخرى مبينة وواضحة, لا احتمال فيها.
كما أن الله قد أمر أهل العلم بالبيان, وهو مستلزم لكل كلام مبيَّن وواضح, قال تعالى: [وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتب لتبيننه للناس ولا تكتمونه ].
وقال ابن القيم:
فعليك بالتفصيل والتمييز فالإ    طلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ       أذهان والآراء كل زمان   
وأما مقام الحمل؛ فالواجب أن يحمل كلام الرجل على مراده وأصوله, وهذا أصلٌ, فإن كان سنيا فيحمل كلامه المجمل- سواء تضمن باطلا أو لا- على المبين -سواء كان المبين متصلا بالمجمل أو منفصلا-, وتراعى أصوله السنية, ويحسن الظن به.
وإن كان مبتدعا فيحمل كلامه أيضا على أصوله المبتدعة, ومفصل كلامه المبتدع.
فمتى ما ظهر لنا مراد المتكلم, أو لم يظهر لنا ما يخالف ظاهر كلامه: وجب حمل كلامه على ظاهره.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (3/ 108): (( وعند هذا يقال: إذا ظهر قصد المتكلم لمعنى الكلام, أو لم يظهر قصد يخالف كلامه, وجب حمل كلامه على ظاهره )).
بل ذكر العلماء أن القصد إذا خالف العبارة؛ فالعبرة بالقصد والنية.
وهذا مقتضى العدل والرحمة, وهما من مقاصد الشريعة.
وسبب إعمالها في باب الحمل: أن الإجمال والبيان من جملة دلالات الألفاظ, وهذه الدلالات قد استعملها العرب قبل نزول القرآن, وبها فهموا كلامهم.
ولا تنافي بين الإجمال والتفصيل, وهذا أمر مهم.
ولا وجه لمن حصر استعمال دلالات الألفاظ في كلام الله دون كلام الناس إلا من جهة واحدة وهي: أن إطلاق الله وإجماله في موطنه مراد وحق, فالله سبحانه لا يغيب عليه شيء, وعلمه سبحانه أزلي, بخلاف إطلاق العبد فقد يكون غير مراد في موطنه, ولا يكون حقا, وإنما غلبه السهو أو الجهل أو النسيان, ونحو ذلك.
لكن هذه الجهة لا تدل على حصر إعمال دلالات الألفاظ في كلام الله دون كلام الناس؛ لأن إعمال ذلك في كلام الناس ليس باعثه أن إجماله حق ومراد, وإنما باعثه العدل والرحمة, وحمل كلامه على مراده.
فتبين أن قولنا بالحمل؛ بناء على هذه المقاصد: ليس من باب تنزيل كلام غير المعصوم منزلة كلام المعصوم.
ولا يدخل تحت الإجمال: القول الصريح في الباطل الذي لا يقبل تقييدا ولا احتمالا, فهذا لا ينطبق على مسألتنا, بحلاف الكلام الذي يحتمل التقييد, أو فيه عدة احتمالات, كأن يطلق في موطن ويقيد في موطن آخر, أو يعمم في موطن, ويخصص في موطن آخر, وهكذا.
فلو أن إنسانا قال: استوى الله على عرشه بمعنى: استولى, ثم في موطن آخر قال: استوى بمعنى: علا, فهنا لا مجال لحمل المجمل على المبين؛ لأنهما قولان متنافيان, ولا يحتملان التقييد.
وهذا بخلاف الكلام الذي يقبل التقييد, أو يحتمل عدة احتمالات, فهذا من العدل أن يفسر كلامه بكلامه, وإلا كان تجنيا عليه, وكذبا عليه؛ إذ فسر كلامه بغير مراده.
قال ابن تيمية في الجواب الصحيح (4/ 44): (( فإنه يجب أن يفسر كلام المتكلم بعضه ببعض ويؤخذ كلامه هاهنا وهاهنا وتعرف ما عادته يعينه ويريده بذلك اللفظ إذا تكلم به وتعرف المعاني التي عرف أنه أرادها في موضع آخر فإذا عرف عرفه وعادته في معانيه وألفاظه كان هذا مما يستعان به على معرفة مراده
 وأما إذا استعمل لفظه في معنى لم تجر عادته باستعماله فيه وترك استعماله في المعنى الذي جرت عادته باستعماله فيه وحمل كلامه على خلاف المعنى الذي قد عرف أنه يريده بذلك اللفظ بجعل كلامه متناقضا وترك حمله على ما يناسب سائر كلامه كان ذلك تحريفا لكلامه عن موضعه وتبديلا لمقاصده وكذبا عليه
 فهذا أصل من ضل في تأويل كلام الأنبياء على غير مرادهم ))

وحمل المجمل على المبين هو ما درج عليه الأئمة, ومن ذلك:
قال شيخ الإسلام في الصارم المسلول (287): ((  وأخذ مذاهب الفقهاء من الإطلاقات من غير مراجعة لما فسروا به كلامهم و ما تقتضيه أصولهم يجر إلى مذاهب قبييحة ))
وقال في منهاج السنة النبوية (5/ 266): (( وأبو أسماعيل لم يرد هذا فإنه قد صرح في غير موضع من كتبه بتكفير هؤلاء الجهمية الحلولية الذين يقولون إن الله بذاته في كل مكان وإنما يشير إلى ما يختص به بعض الناس ))
وقال في الاستقامة (1/ 92): (( ...الجنيد رضي الله عنه التوحيد إفراد القدم من الحدث
 قلت: هذا الكلام فيه إجمال والمحق يحمله محملا حسنا وغير المحق يدخل فيه أشياء ))
وقال ابن القيم في مدارج السالكين (3/ 521): ((  والكلمة الواحدة يقولها اثنان يريد بها أحدهما أعظم الباطل ويريد بها الآخر محض الحق والاعتبار بطريقة القائل وسيرته ومذهبه وما يدعو إليه ويناظر عليه ))
وقد أجاب الشيخ صالح الفوزان -حفظه الله تعالى- في شريط بعنوان"التوحيد يا عباد الله"السؤال رقم( 6 ) على سؤال:هل يحمل المجمل على المفصل في كلام الناس؟أم هو خاصٌ بالكتاب والسنة؟ نرجو التوضيح ـ حفظكم الله ـ؟
فأجاب الشيخ:"الأصل إن حمل المجمل على المفصل ,الأصل في نصوص الشرع من الكتاب والسنة، لكن مع هذا؛نحمل كلام العلماء، مجمله على مفصله، ولا يُقَوَّل العلماء قولا مجملاً، حتى يُرْجَع إلى التفصيل من كلامهم، حتى يرجع إلى التفصيل من كلامهم، إذا كان لهم قول مجمل، وقول مفصّل، نرجع إلى المفصل, ولا نأخذ المجمل"
و سُئل الشيخ عبد المحسن العباد في درس "سنن أبي داود"في المسجد النبوي ليلة 26 / صفر/ 1423ﻫ: إذا وُجد للعالم كلام مجمل في موضع، في قضية ما، وقد يكون هذا الكلام المجمل، ظاهره يدل على أمر خطأ، ووُجِد له كلام آخر، في موضع آخر، مفصل في نفس القضية، موافق لمنهج السلف، فهل يُحمل المجمل من كلام العالم على الموضع المفصل؟ فأجاب الشيخ: "نعم، يُحمل على المفصل، ما دامه شيئًا موهمًا، فالشيء الواضح الجلي هو المعتبر".
إلى غير ذلك.
فإن قيل: نحن مأمورون بالأخذ بالظاهر سواء كان مجملا أو مفصلا؟
قيل: مأمورون بالأخذ بالظاهر إذا لم يعارضه ظاهر آخر, فالمجمل ظاهر, والمبين ظاهر؛ وإعمالا للعدل وإحسان الظن أخذنا بالظاهر المبين دون المجمل.
كما أن الأخذ بالظاهر المأمورين به هو في مقابل الأخذ بالباطن, والتشقيق على ما في القلوب, فهو أخذٌ بالظاهر الذي لا معارض له من ظاهر آخر.
فإن قيل: لماذا لا يقال: له قولان؟
قيل: يقال له قولان: إذا كانا متنافيين في مسألة واحدة, فالقولان متى تنافيا وجب أن يكون أحدهما حقا, والآخر باطلا؛ لأن الحق واحد لا يتعدد.

والخلاصة: الكلام الذي يحمل على غيره: ما يقبل التقييد, أو يحتمل عدة احتمالات.
وهذا الحمل لا ينافي تخطئة الاستعمال.
ويخلط بعضهم بين الاستعمال والحمل, فيستدل بالتخطئة في الاستعمال على عدم جواز الحمل.
وهو خلط ظاهر.

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار

16-6-1437هـ