الخميس، 30 أبريل 2020

لا يصح القطع بالتأثيم في مسائل الاجتهاد


لا يصح القطع بالتأثيم في مسائل الاجتهاد
إن مسائل الاجتهاد مسائل ظنية تحتملها الأدلة, وتختلف فيها الأفهام, ويتفاوت فيها المجتهدون, لا سيما النوازل.
وهذه المسائل وإن كان المجتهدون يتفاوتون في القطعية والظنية إلا أنه لا يسوغ لمن وصل في مسألة تحتملها الأدلة إلى القطع أن يؤثم المخالف.
وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح تأثيم المجتهد فيها, قال الجويني في التلخيص: (وقد أجمع أهل العصر قاطبة على أن مسائل الاجتهاد لا يجري فيها التأثيم)
فكيف بالقطع بتأثيم من خالف -على سبيل العموم-؟!!
ولا يلزم من عدم تأثيمه انتفاء الخطأ؛ إذ الخطأ هنا غير متعمد وهو معفو عنه؛ لاحتمال الأدلة وظنيتها.
ثم إن القطع بالتأثيم في المسألة يشترط فيه القطع برفع احتمال الأدلة, وهذا لا يتأتى مع المسائل الاجتهادية, وإذا انتفى الشرط انتفى ما ترتب عليه, فالقطع بالتأثيم منتف لفوات شرطه.
وإذا تأتى فهو أمر نسبي لا يخرج المسألة عن ظنيتها.
وهذا ما درج عليه الأئمة ومنهم من نص على ذلك, قال إسحاق في مكاتبة العبد الذي علم فيه خيرا: أخشى أن يأثم إن لم يفعل.
وقال أحمد في إخراج زكاة الفطر نقدا: ( أخاف ألا يجزئه، خلاف سنة رسول الله _صلى الله عليه وسلم_).
وكما لا يصح القطع بالتأثيم لا يصح للمفتي إلزام الناس باتباعه في هذه المسائل, قال ابن تيمية في مجوع الفتاوى: (وهذا كما أن الحاكم ليس له أن ينقض حكم غيره في مثل هذه المسائل ولا للعالم والمفتي أن يلزم الناس باتباعه في مثل هذه المسائل؛ ولهذا لما استشار الرشيد مالكا أن يحمل الناس على " موطئه " في مثل هذه المسائل منعه من ذلك. وقال: إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار وقد أخذ كل قوم من العلم ما بلغهم. وصنف رجل كتابا في الاختلاف فقال أحمد: لا تسمه " كتاب الاختلاف " ولكن سمه " كتاب السنة ").
وقال: (ولهذا كان أئمة أهل السنة والجماعة، لا يلزمون الناس بما يقولونه من موارد الاجتهاد، ولا يكرهون أحدا عليه )
 فلا نعامل مسائل الاجتهاد مسائل الإجماع, ولا نقطع فيها بالتأثيم على سبيل العموم, وإنما هو ظن يتفاوت بحسب قوة الاستدلال وضعفه.
وإن القطع بالتأثيم في مثل هذه المسائل يوقع في الحرج, ويكون سببا للعداوة والبغضاء, وهذا ينافي تسويغ الاجتهاد فيها, ويؤدي إلى هدم مقصد الشارع من الاجتماع على الحق والتآلف.
ومحل الكلام المتقدم في القطع بالتأثيم في المسألة, وأما في المعين فلا نقطع بالتأثيم سواء خالف في مسألة قطعية أو ظنية إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع؛ لعموم قوله تعالى: [ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ].

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

السبت، 25 أبريل 2020

[حكم الدعاء بقول: "صحه فطورك" ونحوه بعد الإفطار من الصيام]


[حكم الدعاء بقول: "صحه فطورك" ونحوه بعد الإفطار من الصيام]
 سؤال: شيخ, حكم قول صحة فطورك مع التفصيل رحم الله والديك ونفع بك
والجواب:
هذه تهنئة خاصة لسبب خاص, وقد اشتملت هذه التهنئة على الدعاء له بالصحة والهناء عقب الإفطار من صيام.
ولاشك أن المسلم يفرح بإفطاره, لكن هل هذا الفرح يقتضي دعاء خاصا ملتزما؟
فهنا أمران:
الأول: الفرح بما أذن الله الفرح به, والفرح هنا يشمل الفرح الطبيعي بسد الجوع بالأكل, والفرح الإيماني وهو إتمام العبادة وسلامتها مما يفسدها.
فالفرح هو المأذون به شرعا, وأما ما زاد عليه من التهنئة فهو جائز في الجملة بقيد ألا يجري مجرى الشرعيات من الالتزام إذا كانت مقرونة بعبادة أو لوحظ فيها قصد زمان أو مكان لذاتهما؛ لأن الالتزام يخرجه عن كونه عادة, إلا ما ورد عن الصحابة, كالتهنئة بعيد الفطر والأضحى.
ولم يرد عنهم التهنئة بالإفطار.
لكن تجوز لا على وجه الالتزام.
وأما ما ورد في قصة توبة كعب, وفيه: (وانطلقت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم يتلقاني الناس فوجا فوجا يهنؤني بالتوبة, ويقولون: لتهنك توبة الله عليك...)
فليست من الباب الذي نتكلم فيه؛ لعدم وقوع الالتزام فيه, وإنما يدل على أن من وقع له أمر عظيم فيه خير دنيوي أو ديني فإنه يهنأ عليه, ومثل هذا لا يتصور فيه أن يجري مجرى الشرعيات.
الثاني: تخصيص دعاء له, ومعلوم أن الدعاء في نفسه عبادة أمر الله به في الجملة, وهنا قد أتى العبد به عقب عبادة مخصوصة وهي الصيام, وله حالان:
الحالة الأولى: ألا يلتزمه وإنما يفعله أحيانا, فهنا جائز؛ لأنه لم يضاهي الشرعيات, ولا أخذ صفة التشريع, ولا هو مظنة اعتقاد السنية والفضل.
الحال الثانية: أن يلتزمه, فهنا قد ضاهى المشروع في التخصيص والالتزام, وأعطاها صفة التشريع؛ إذ إن من أسباب كون الفعل سنة: الالتزام والمداومة, والتخصيص والتقيد, وهذا التخصيص والالتزام لم يدل عليه الدليل العام الوارد في حض الناس على الدعاء, كما أنه ذريعة لأن يعتقد الناس سنية الفعل وفضله.
ولو كان هذا التخصيص والالتزام مشروعا لفعله السلف؛ لوجود مقتضيه ولا مانع.
قال الشاطبي في الاعتصام (1/ 318): (وبيان ذلك أن الدليل الشرعي إذا اقتضى أمرا في الجملة مما يتعلق بالعبادات مثلا، فأتى به المكلف في الجملة أيضا، كذكر الله والدعاء والنوافل المستحبات وما أشبهها مما يعلم من الشارع فيها التوسعة؛ كان الدليل عاضدا لعلمه من جهتين: من جهة معناه، ومن جهة عمل السلف الصالح به.
فإن أتى المكلف في ذلك الأمر بكيفية مخصوصة، أو زمان مخصوص أو مكان مخصوص أو مقارنا لعبادة مخصوصة، والتزم ذلك بحيث صار متخيلا أن الكيفية، أو الزمان أو المكان مقصود شرعا من غير أن يدل الدليل عليه؛ كان الدليل بمعزل عن ذلك المعنى المستدل عليه.
فإذا ندب الشرع مثلا إلى ذكر الله، فالتزم قوم الاجتماع عليه على لسان واحد وبصوت، أو في وقت معلوم مخصوص عن سائر الأوقات؛ لم يكن في ندب الشرع ما يدل على هذا التخصيص الملتزم، بل فيه ما يدل على خلافه؛ لأن التزام الأمور غير اللازمة شرعا شأنها أن تفهم التشريع...)
وقال في الاعتصام (1/ 319): (فكل من خالف هذا الأصل؛ فقد خالف إطلاق الدليل أولا؛ لأنه قيد فيه بالرأي، وخالف من كان أعرف منه بالشريعة ـ وهم السلف الصالح رضي الله عنهم ـ، بل كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يترك العمل وهو يحب أن يعمل به خوفا أن يعمل به الناس فيفرض عليهم).
ومثله في الحكم التهنئة بيوم الجمعة.
كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

الجمعة، 24 أبريل 2020

أهل الحديث هم الطائفة الناجية


أهل الحديث: الطائفة الناجية

                                                                د. أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد؛ فإن من إقامة الله الحجة على خلقه أن أحالهم إلى طائفة عرفت الحق واختصت به, فجعل إصابة الحق من هداية الله لها وتوفيقه إياها, ومن حكمته سبحانه أنه لم يجعله لآحادها وإنما جعله للطائفة, وأصل ذلك قوله تعالى: [والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان]
وأهل الحديث, هم: المتبعون لرسول الله صلى الله عليه وسلم دون غيره, فهم أعلم الناس بأقواله وأحواله, وأعظم معرفة بمعاني حديثه واتباعا لها.
ولذا فإنهم فلا ينصبون مسألة ويجعلونها من أصول دينهم إلا إذا ثبتت ثبوتا قطعيا أنها فيما جاء به الرسول, فهم أعلم الأمة وأخصها بعلم الرسول صلى الله عليه وسلم, وأعلم الناس بالسابقين وأتبعهم لهم.
وهم الذين أخبر عنهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما جاء عن معاوية - رضي الله عنه - عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: " لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم أو خالفهم حتى يأتي أمر الله وهم ظاهرون على الناس" رواه البخاري ومسلم
قال علي بن المديني (234 هـ): ( إن المقصود بالطائفة: أهل الحديث الذين يتعاهدون مذاهب الرسول صلى الله عليه وسلم ويذبون عن العلم، لولاهم لم تجد عند المعتزلة والرافضة والجهمية وأهل الإرجاء والرأي شيئًا من السنن)
وقال الإمام أحمد (241هـ) لما سئل عن الجماعة: "إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟)-
فصل, أهل الحديث مذهبهم حق لا باطل فيه؛ وذلك أنه لما كانت نصوص الكتاب والسنة منها ما هو نص في الدلالة ومنها ما هو ظاهر في الدلالة ومنها ما هو مجمل لم تقم الحجة على الخلق فيما كان ظاهرا ومجملا إلا ببيان رسول الله صلى الله عليه وسلم لأصحابه ما دلت عليه النصوص بيانا شافيا, وقد قال تعالى: [لتبين للناس ما أنزل إليهم] ، ففصل لهم النصوص تفصيلا يزول معه الاشتباه والاشتراك والإجمال المنافي لفهم المراد بالخطاب الذي انقطع به العذر، وإذا كان المخاطبون لم يفهموا معنى كلامه لم يكن قد بلغهم بلاغا مبينا.
وإذا علم أن الصحابة أخذوا عن الرسول لفظ القرآن ومعناه, بل أخذوا عنه المعاني وعبروا عنها بألفاظ مختلفة؛ مما يدل على فهمهم الدلالة على وجهها؛ حتى عبروا عنها بألفاظ أخرى, فلا يحتاج مع بيانهم إلى لغة أحد.
نعم, قد يختلفون في المعاني كاختلافهم في نقل الألفاظ, وإنما الكلام هنا فيما لم يختلفوا فيه أو لم ينقل فيه خلاف, وما اختلفوا فيه على معنيين فلا يجوز إحداث معنى ثالث.
فحصل للصحابة ما لم يحصل لغيرهم من رؤية الحال التي نزل عليها الخطاب, والعلم بالمراد, ومشاهدة التنزيل, فليس من سمع ورأى وعلم حال المتكلم كمن كان غائبا عنه، وإذا كان هذا هو حال الصحابة كان من اعتنى بنقل مذهبهم هم أولى الناس بالحق بل الحق لا يتجاوز مذهبهم.
وهذه الدلالة تلقاها الصحابة عن التابعين, وتلقاها تابعو التابعين عن التابعين, واعتنى بنقلها أهل الحديث نقلا بالسند, وحكاية الأقوال.
فلهذه الخصائص التي تميز بها أهل الحديث عن غيرهم كان مذهبهم حقا لا مرية فيه, وما وجد من حق في الطوائف الأخرى فلموافقتهم الحق الذي عند أهل الحديث, ولا تمتدح طائفة إلا بالحق الذي عندهم الموافق لما عليه أهل الحديث.
فمذهب أهل الحديث قائم على نقل معاني نصوص الكتاب والسنة ومراد الشارع ممن أخذها مباشرة أو بواسطة عن المبلغ عن الله.
ومذهب غيرهم قائم على العدول عن المعاني المنقولة عن الصحابة, وهو من تحريف الكلم عن مواضعه الذي ذم الله به اليهود في قوله: [أفتطمعون أن يؤمنوا لكم وقد كان فريق منهم يسمعون كلام الله ثم يحرفونه]
ولازم مذهبهم أن الصحابة كانوا أميين معرضين عن المعاني, فلا يعلمون إلا الألفاظ, وهذا أمر لا يليق بالصحابة وقد ذم الله المعرض عن الكلام في معنى النصوص فقال: [ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني] فكيف يليق بمسلم يصحح مذهبا من لازمه الذي لا ينفك عنه جَعْلُ الصحابة كالأميين المعرضين عن تفهم معنى النصوص وتعقلها وتدبرها؟!
ومذهب أهل الحديث قائم على العلم الضروري القائم على تواتر النصوص تواترا معنويا, فإن تواتر النصوص على معنى واحد يوجب علما ضروريا بهذا المعنى أعظم من العلم بجود حاتم وشجاعة عنترة, وهذا يعلمه أهل الحديث؛ لعلمهم بالأحاديث وطرقها ونقلتها, وهذا ما لا يوجد عند غيرهم, فتجد عند غيرهم قلة معرفة بطرق الأحاديث, وعدم خبرة بالنقلة, وعدم اعتناء بالرواية, ولهذا لم ينسبوا إلى الحديث.
ومن هنا تجد أن أهل الحديث يقطعون بما تضمنته النصوص, ويقطعون بأن من كذب بمعنى النصوص فهو ضال.
ومذهب أهل الحديث ينشأ عنه الثبات والاستقرار, فتجد أهل الحديث ثابتين مستقرين لا ينتقلون من قول إلى قول مناقض للأول, ولا يرجعون عن اعتقادهم, بخلاف ما عليه غيرهم.
لذا كان مذهبهم حقا لا يتطرق إليه الخطأ بوجه من الوجوه.
خاتمة, لا يصح ربط مذهب أهل الحديث بمذهب فقهي معين, كأن يقال هو مذهب الحنابلة أو مذهب المالكية؛ إذ إن ربطه بمذهب يضعف مذهب أهل الحديث المبني على التواتر والإجماع القطعي, ويجعله مذهبا سائغ الاتباع لا واجب الاتباع, وهذا ما يدندن حوله البعض, وغفلوا أنه مذهب واجب الاتباع, قد أخذ قوته من قوة مصدره, فهو يعتمد على النقل المتواتر عن الصحابة والتابعين, ويتعلق بمنهج الاستدلال وأصول الدين.


السبت، 18 أبريل 2020

حكم العمليات التي يقدم الرجل فيها على قتل نفسه في الجهاد ويسميهالاالبعض: (العمليات الانتحارية-العمليات الاستشهادية)


حكم العمليات التي يُقدم الرجل فيها على قتل نفسه في الجهاد
د. أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن النفس البشرية أمر الله بالحفاظ عليها ونهى عن قتلها, فبقاء النفس وحياتها حق لله وحده, لا يملكه أحد من الخلق, فليس للعبد أن يتصرف في نفسه إلا فيما أذن له الشرع, والتعدي عليها تعدٍّ على حق الله وملكه.
وما يسمى بالعمليات الانتحارية أو الفدائية أو الاستشهادية تصويرها على النحو الآتي: إقدام المسلم على قتل نفسه بمتفجرات ونحوها؛ نكاية في العدو.
وقبل الكلام عن حكمها, يجب بيان الأصل فيها, فالأصل فيها التحريم؛ لأنه من باب مباشرة المسلم قتل نفسه, وقتل المسلم نفسه حرام, بل كبيرة من كبائر الذنوب؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (مَن تردى من جبل فقتل نفسه فهو في نار جهنم يتردى فيه خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن تحسَّى سمّاً فقتل نفسه فسمُّه في يده يتحساه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ، ومَن قتل نفسه بحديدة فحديدته في يده يجأ بها في بطنه في نار جهنم خالداً مخلداً فيها أبداً ) رواه البخاري ( 5442 ) ومسلم ( 109)
وعن ثابت بن الضحاك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : ( مَن قتل نفسه بشيء في الدنيا عذب به يوم القيامة ) رواه البخاري ( 5700 ) ومسلم ( 110 ) .
فهذا هو الأصل, ويعم كل صورة إلا ما استثناه الشرع لفظا أو معنى, وإن الناظر في ألفاظ النصوص ومعانيها يجد أنها استثنت صورا وهي: الرجل يحمل وحده على صف الكفار ويدخل فيهم, ويسمي العلماء ذلك: "الانغماس في العدو", أو الرجل ينهزم أصحابه فيقاتل وحده العدو؛ نكاية في العدو .
ودليله: ما جاء في صحيح مسلم من قصة أصحاب الأخدود, وفيها: أن الغلام دل على قتل نفسه.
فأقدم على إهلاك نفسه بما يغلب على ظنه, أو يتحقق به الهلاك؛ لمصلحة ظهور الدين.
وأيضا ما أخرجه الترمذي عن أسلم أبي عمران التجيبي قال : كنا بمدينة الروم فأخرجوا إلينا صفا عظيما من الروم فخرج إليهم من المسملين مثلهم أو أكثر على أهل مصر عقبة بن عامر وعلى الجماعة فضالة بن عبيد فحمل رجل من المسلمين على صف الروم حتى دخل فيهم فصاح الناس وقالوا سبحان الله يلقي بيديه إلى التهلكة؟
فقام أبو أيوب فقال يا أيها الناس أنكم تتأولون هذه الآية هذا التأويل وإنما أنزلت هذه الآية فينا معشر الأنصار لما أعز الله الإسلام وكثر ناصروه فقال بعضنا لبعض سرا دون رسول الله صلى الله عليه و سلم إن أموالنا قد ضاعت وإن الله قد أعز الإسلام وكثر ناصروه فلما اقمنا في أموالنا فأصلحنا ماضاع منها فأنزل الله على نبيه صلى الله عليه و سلم يرد علينا ما قلنا { وأنفقوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة } فكانت التهلكة الإقامة على الأموال وإصلاحها وتركنا الغزو فما زال أبو أيوب شاخصا في سبيل الله حتى دفن بأرض الروم
وروى أحمد عن أبي إسحاق، قلت للبراء: الرجل يحمل على المشركين، أهو ممن ألقى بيده إلى التهلكة؟ قال: لا. لأن الله عز وجل بعث رسول الله صلى عليه وسلم فقال: « فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك » إنما ذاك في النفقة.
ووجه: عدم دخوله: أن الله أمر بالجهاد وهذا من تمامه وإكماله, وأما الآية فهي في غير الجهاد في سبيل الله.
فالصور الجائزة يجمعها: فعل ما أمر الله به مع إفضائه إلى قتل النفس غالبا أو محققا؛ لمصلحة المسلمين.
ولما كانت الصور الجائزة مستثناة من أصل شرعي, فيجب عدم التوسع فيها توسعا يخرج عن دلالة لفظ النص ومعناه.
والنصوص قيدت الجواز بأمور:
الأول: أن يكون في جهاد توفرت شروطه, وهو جهاد في سبيل الله, ولإعلاء كلمة الله.
الثاني: أن يكون مع كفار حربيين, لا مع معاهدين ونحوهم, فضلا عن المسلمين ولو كانوا بغاة.
الثالث: أن تكون فيه مصلحة للمسلمين.
الرابع: ألا يترتب على الفعل مفسدة أكبر.
الخامس: أن تدعو الحاجة إليه, أو يتوقف النصر عليه.
السادس: ألا يكون عملا فرديا من غير الرجوع إلى من له الأمر في تقدير المصالح والمفاسد.
فإذا كان اقتحام مكان العدو توفرت فيه هذا القيود وغلب على الظن أو تحقق أن القائم بها يُقتل فهو جائز؛ لدلالة النصوص المتقدمة على الجواز, وإلا فلا.
قال ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (8/ 185): (وأما مسألة حمل الواحد على العدد الكثير من العدو فصرح الجمهور بأنه إن كان لفرط شجاعته وظنه أنه يرهب العدو بذلك أو يجرئ المسلمين عليهم أو نحو ذلك من المقاصد الصحيحة فهو حسن, ومتى كان مجرد تهور فممنوع, ولا سيما إن ترتب على ذلك وهن في المسلمين)
وقال أبو عبد الله القرطبي في تفسيره (2/ 363): (وقال ابن خويز منداد: فأما أن يحمل الرجل على مائة أو على جملة العسكر أو جماعة اللصوص والمحاربين والخوارج فلذلك حالتان: إن علم وغلب على ظنه أن سيقتل من حمل عليه وينجو فحسن، وكذلك لو علم وغلب على ظنه أن يقتل ولكن سينكى نكاية أو سيبلى أو يؤثر أثرا ينتفع به المسلمون فجائز أيضا. وقد بلغني أن عسكر المسلمين لما لقي الفرس نفرت خيل المسلمين منالفيلة، فعمد رجل منهم فصنع فيلا من طين وأنس به فرسه حتى ألفه، فلما أصبح لم ينفر فرسه من الفيل فحمل على الفيل الذي كان يقدمها فقيل له: إنه قاتلك. فقال: لا ضير أن أقتل ويفتح للمسلمين. وكذلك يوم اليمامة لما تحصنت بنو حنيفة بالحديقة، قال رجل من المسلمين: ضعوني في الحجفة «2» وألقوني إليهم، ففعلوا وقاتلهم وحده وفتح الباب).
بقي أن نبين أن مقتضى ألفاظ النصوص تقييد الجواز بأن يتم قتله بيد الأعداء لا بيده هو, وهو مستمسك من منع هذه العمليات- والخلاف معتبر-, لكن بالنظر إلى معنى النصوص الذي بني على تجويز الإقدام الذي يغلب على الظن معه قتل النفس أو يتحقق؛ لمصلحة المسلمين: جوزنا العمليات التي تقوم على مباشرة المسلم قتل نفسه؛ لمصلحة المسلمين بالقيود المتقدمة, فالظن غالب في كليهما أو محقق, وهو وسيلة لتحقيق مأمور به؛ إذ إن المسلم مأمور بالجهاد في سبيل الله وهذا من إكماله, ولا يجتمع الأمر به مع النهي عما يُكمِّله, وهو أيضا من باب ما لا يتم المأمر إلا به فهو مأمور به؛ إن توقف تحقيق الأمر عليه.
ومما يدل على اعتبار القصد بين من يقتل نفسه؛ اعتراضا على قدر الله, وبين من يقتل نفسه في الجهاد؛ لإعلاء كلمة الله ونصرة المسلمين: ما أخرجه مسلم عن إياس بن سلمة، حدثني أبي، قال: قدمنا الحديبية مع رسول الله صلى الله عليه وسلم... فوقع سيف مرحب في ترس عامر، وذهب عامر يسفل له، فرجع سيفه على نفسه، فقطع أكحله، فكانت فيها نفسه، قال سلمة: فخرجت، فإذا نفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، يقولون: بطل عمل عامر، قتل نفسه، قال: فأتيت النبي صلى الله عليه وسلم وأنا أبكي، فقلت: يا رسول الله، بطل عمل عامر؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «من قال ذلك؟» قال: قلت: ناس من أصحابك، قال: «كذب من قال ذلك، بل له أجره مرتين».
فمات بسيف نفسه ولم يعده النبي صلى الله عليه وسلم انتحارا؛ بالنظر إلى مقصده, وهو دليل أيضا على ما ذهب إليه الشافعية والحنابلة من أن من عاد إليه سيفه فقتله فهو شهيد.
يبقى أن تحقيق المناط مرجعه لأهل العلم وأمراء الحرب.
ويجب أن يعلم: أنه ليس من الجهاد في شيء ما يفعله من تلبس بتكفير المسلمين بغير حق, فيفجر نفسه في المسلمين؛ ظنا منه أنهم كفار, أو من يفجر نفسه في كفار معاهدين, أو في حربيين ويعود ذلك بمفسدة أكبر من قتل عشرات من المسلمين بل مئات؛ انتقاما لقتل أنفس قليلة من الكفار, أو تشويه الإسلام, ونحو ذلك.

الخميس، 16 أبريل 2020

توجيه ما حصل من امتناع بعض الصحابة عن البيعة وأنه ليس بخروج


توجيه ما حصل من امتناع بعض الصحابة عن البيعة وأنه ليس بخروج
د. أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فيخلط البعض بين الخروج والامتناع عن البيعة ممن له أتباع وأنصار وشوكة, فالخروج يكون بعد المبايعة؛ منازعة في الحكم, ويعد نكثا وغدرا, كما حصل من أهل المدينة يوم الحرة, فعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: ( لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ، حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ )، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ) رواه البخاري
وأما ما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما, والحسين ويزيد, وابن الزبير ويزيد, فهو: امتناع عن البيعة ممن له شوكة وأتباع, ومن أهل المشورة والحل, وليس خروجا بالسيف؛ لانتزاع الخلافة.
فحقيقة ما حصل بين معاوية وعلي رضي الله عنهما أن معاوية امتنع عن المبايعة؛ طلبا للقصاص من قتله عثمان أولا, وهو اجتهاد منه, وأما علي فرأى تأخير ذلك؛ للمصلحة, ورأى أن يقاتل معاوية لإدخالهم في الطاعة, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعال وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في " كتاب صفين " من تأليفه ، بسند جيد ، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع عليا في الخلافة ؛ أو أنت مثله ؟قال : لا ، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه ، ووليه ؛ أطلب بدمه ؟ فأْتُوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان .
فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي .
فامتنع معاوية ، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين ، وسار معاوية حتى نزل هناك .
وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، فتراسلوا ، فلم يتم لهم أمر ، فوقع القتال ." فتح الباري " (13 / 86(
وقال ابن حزم: (ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 124)
وقال ابن تيمية: (ومعاوية " لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا.
بل لما رأى علي - رضي الله عنه - وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف). الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 455)
وكذلك ما وقع من الحسين وابن الزبير , فإنهما قد امتنعا من مبايعة يزيد؛ اجتهادا منهما, فهما من أهل المشورة والحل ولهما أتباع وشوكة, قال أبو العباس ابن تيمية عن ابن الزبير: (وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا، ثم بذل المبايعة له، فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيرا، فجرت بينهما فتنة) منهاج السنة النبوية (4/ 523)
ويجب أن يعلم أن يزيد لم يستتب له الأمر على جميع بلدان المسلمين, فقد مات وبعض البلدان لم تبايع له, وكانت خارجة عن طاعته, قال ابن تيمية: (فيزيد في ولايته هو واحد من هؤلاء الملوك، ملوك المسلمين المستخلفين في الأرض، ولكنه مات وابن الزبير ومن بايعه بمكة خارجون عن طاعته، لم يتول على جميع بلاد المسلمين، كما أن ولد العباس لم يتولوا على جميع بلاد المسلمين، بخلاف عبد الملك وأولاده فإنهم تولوا على جميع بلاد المسلمين، وكذلك الخلفاء الثلاثة ومعاوية تولوا على جميع بلاد المسلمين، وعلي - رضي الله عنه - لم يتول على جميع بلاد المسلمين). منهاج السنة النبوية (4/ 524)
وقال عن يزيد: (وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم) مجموع الفتاوى (3/ 410)
فامتناع من امتنع من الصحابة على المبايعة صادر من أهل المشورة والحل, وهو اجتهاد منهم, ولا يعد هذا من الخروج في شيء.
بقي أن أبين أن ما حصل بين عائشة وطلحة والزبير لا علاقه له بالبيعة ولا بالخروج بالسيف, وإنما كانوا يطالبون بالقصاص من قتلة عثمان, قال ابن تيمية: (وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه، لم يكن لعلي غرض في قتالهم، ولا لهم غرض في قتاله، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة عثمان، وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم، فلم يتمكنوا منهم، فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم، عرفهم أن هذا أيضا رأيه، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر، فلما علم بعض القتلة ذلك، حمل على أحد العسكرين ، فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين، ثم وقع قتال على الملك). منهاج السنة النبوية (6/ 339)
وإني لأعجب ممن يستدل بواقعة الجمل على جواز المظاهرات؛ زعما منه أن خروجهم الجماعي والإنكار على علي رضي الله عنه هو بعينه ما يحدث في المظاهرات, ولا أدري كيف صح لهم جعل ما حدث وقت الفتنة أصلا مع التباس الأمر فيه ووقوع التأويل!, بل ظهر خطأ المعترضين على علي رضي الله عنهم من جهات:
الأولى: أن عائشة رضي الله عنها تحققت خطأ فعلها, وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها منه إلا أنها استمرت؛ للإصلاح, فقد أخرج أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: أن عائشة رضي الله عنها لما بلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب". فقال لها الزبير: ترجعين!! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين الناس)
وكانت نادمة فقد أخرج ابن عبد البر عن ابن أبي عتيق قال: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك، وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير، قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت.
فإذا صح أن يكون أصلا للمظاهرات فهو أصل في النهي عنها؛ لما تقدم.
الثانية: مع حرص الصحابة على البعد على الدماء وعدم إرادة القتال إلا أن أهل الفتنة أشعلوا فتيل الحرب, وترتب على هذا الصنيع مفسدة كبرى, ففعلهم هذا أدى إلى مفسدة كبرى؛ مما يبين لنا حكمه, وهكذا فليكن الأمر في المظاهرات.
الثالثة: أنهم كانوا مخطئين في إنكارهم؛ إذ لم يفهموا الأمر على وجهه؛ حتى وضح لهم علي رضي الله عنه حقيقة الأمر, وهذا التوضيح لا يحصل في المظاهرات, ثم هو قد يبنى على أمور لم تفهم على وجهها فلا يكون وسيلة مشروعة للإنكار, فكيف وهو بالوجهين المتقدمين وسيلة منهيا عنها, فلا  يكون من باب الوسائل التي لها أحكام المقاصد.
وكلامي هنا من جهة الاستدلال عليها بما حدث في معركة الجمل, وليس من الممنوع: المظاهرة التي لا يكون فيها اعتراض بل موافقة إذا لم يصاحبها مخالفات شرعية.

فإن قيل: ذكرت امتناع بعض الصحابة عن البيعة, فهل يسوغ الآن الامتناع عن البيعة؟
قيل: البيعة تحصل من أهل الحل والعقد ممن تتحقق بهم الشوكة وتحصل بطاعتهم له مقصود الإمامة وهم أهل المشورة, فقد جاء في صحيح البخاريِّ عن عُمرَ رضي الله عنه أنَّه قال: «مَن بايع رجلًا عن غير مشورةٍ من المسلمين، فلا يُبايَع هو ولا الذي بايَعَه؛ تغِرَّةَ أن يُقتلَا»،
ولا يشترط فيهم عدد, ولا تسقط بتخلف من ليس لهم شوكة ولا أتباع, ولا تنعقد بهم إمامة, بل الواجب عليهم أن يبايعوا ولا يفرقوا الأمة؛ لأن العبرة بالقدرة والقوة, وقد تخلف عن بيعة أبي بكر سعد بن عبادة ولم يضر.
ومن هنا يظهر ضلال ما تسمى بـ دولة الخلافة التي تبنتها "داعش", فهي قائمة على أفراد ليسوا من أهل المشورة, ولا لهم شوكة؛ حتى تنقاد لهم الأمة الإسلامية, ولا تتحقق بهم مقصود الإمامة العظمى.
أما إذا تخلف من لهم أتباع وشوكة من أهل الحل والعقد والمشورة فله حالان:
الحال الأولى: أن يقاتلهم فيدخلوا في طاعته طوعا أو كرها, أو يقاتلوه فيدخل في طاعتهم, فهنا يكون الأمر لمن استتب له, كما حصل مع عبد الملك بن مروان, وجعل الإمام أحمد انعقاد الإمامة بالإجماع, فقال: "مَن وَلِي الخلافة، فأجمع عليه الناسُ ورَضُوا به، ومَن غلبهم بالسَّيف حتى صارَ خليفةً، وسُمِّي أميرَ المؤمنين، فَدَفْعُ الصَّدقاتِ إليه جائزٌ، بَرًّا كان أو فاجرًا"، وقال في رواية إسحاق بن منصور، وقد سُئِل عن حديث النبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم: «مَن مات وليس له إمامٌ، مات مِيتةً جاهليَّة» ما معناه؟ فقال: تَدْري ما الإمام؟ الإمامُ الذي يُجمع عليه المسلمون، كلُّهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه" (انظر: منهاج السُّنة النبويَّة [1/530])
الحال الثانية: ألا يحصل اقتتال ولا يمكن أن يكون الإمام واحدا ويستقل كل واحد بقطره, فهنا لكل واحد من الأقطار ولاية تخصه؛ للضرورة, كما حصلت خلافة بني أمية في الأندلس مع قيام خلافة بني العباس في غيرها.
خاتمة: إذا تقرر هذا علمنا أن الصحابة لم يخرج أحد منهم على إمام بايعه واستبب له الأمر.

الأحد، 12 أبريل 2020

[من حكى الخلاف في مسألة الخروج على الحاكم الفاسق من المتأخرين]


[من حكى الخلاف في مسألة الخروج على الحاكم الفاسق من المتأخرين]


تقدم بيان إجماع القرني الثالث والرابع على تحريم الخروج على الحاكم المسلم الفاسق, وهو ما تواترت به النصوص, فتكون حكاية الخلاف بعد القرنين مردودة بالإجماع المتقدم.
وممن حكى الخلاف:
-ابن حزم, قال في كتابه مراتب الإجماع وهو يرد على ابن مجاهد البصرى الطائي: (فإنه أتى فيما ادعى فيه الإجماع أنهم أجمعوا على أن لا يخرج على أئمة الجور, فاستعظمت ذلك ولعمري إنه عظيم أن يكون قد علم أن مخالف الإجماع كافر ,فيلقي هذا إلى الناس وقد علم أن أفاضل الصحابة وبقية الناس يوم الحرة خرجوا على يزيد بن معاوية وأن ابن الزبير ومن اتبعه من خيار المسلمين خرجوا عليه أيضا رضي الله عن الخارجين عليه ولعن قتلتهم وأن الحسن البصري وأكابر التابعين خرجوا على الحجاج بسيوفهم أترى هؤلاء كفروا بل والله من كفرهم أحق بالكفر منهم...)
وسبب حكايته الخلاف:
-رده على ابن مجاهد حكايته الإجماع على تحريم الخروج مع اعتقاد ابن حزم أن مخالف الإجماع: كافر, فهو إنما رد الإجماع على ابن مجاهد؛ دفعا للتكفير.
ويجاب عليه: أنه لا يلزم من مخالفة الإجماع التكفير؛ لوجود الشبهة عند المنكر.
-استند على خروج يوم الحرة على يزيد, وخروج ابن الزبير, والخروج على الحجاج.
قال الأبي: (واحتَجَّ من أجاز القيام والخروج بقيام الحسين، وابن الزبير بمكة، وأهل المدينة على بني أميّة)
فهذا مستند حكاية الخلاف فإذا ثبت خروجهم ثبت الخلاف, وإذا انتفى انتفى الخلاف, وبقي الإجماع.
ونجيب عليها بالتفصيل, فنقول:
-خروج الحسين على يزيد بن معاوية.
أولا: أن الصحابي قد يخالف ما كان واضح الدلالة من النص, أو ما كان معلوما من الدين بالضرورة متؤولا, وهذا لا ينقص من قدره, فهذا الصحابي البدري وهو من السابقين إلى الإسلام وشهد أحدا: قدامة بن مظعون شرب الخمر متأولا, فوقع في إنكار ما هو معلوم من الدين بالضرورة, فدل ذلك على أن الصحابي قد يخالف دلالة النصوص القطعية على سبيل التأويل.
ثانيا: لم يكن الحسين مبايعا ليزيد؛ لعدم استقرار الأمر له بعد, وكان الحسين أحق منه, وهو من أهل الحل والعقد, فلم يخرج الحسين على إمام استقر له الأمر, ولم يكن مبايعا له بعدُ, قَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ : (وَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ)
ثالثا: أنه لما مات معاوية بعث الحسين بن علي بن أبي طالب ابن عمه مسلم بن عقيل ابن أبي طالب إلى أهل الكوفة ليبايعوه فبايعه ناس كثير فجمع يزيد بن معاوية لعبيد الله بن زياد العراق فخرج بأهل العراق فقتل مسلم بن عقيل وهانئ بن عروة المرادي
وفيها خرج الحسين بن علي من مكة يريد الكوفة فقال الفرزدق خرجت أريد الحج فلما كنت بذات عرق رأيت قبابا مضروبة فقلت لمن هذه قالوا للحسين ابن علي فعدلت إليه فقلت يا بن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أعجلك عن الحج قال كتب إلي هؤلاء القوم يعني أهل الكوفة يذكرون ما هم فيه ثم سألني كيف تركت الناس وراءك فقلت فداك أبي وأمي تركت القلوب معك والسيوف مع بني أمية, كما في تاريخ خليفة بن عياط البصري (ت240هـ).
قال ابن تيمية في المنهاج: (والحسين - رضي الله عنه - ما خرج يريد القتال ، ولكن ظن أن الناس يطيعونه، فلما رأى انصرافهم عنه، طلب الرجوع إلى وطنه، أو الذهاب إلى الثغر، أو إتيان يزيد، فلم يمكنه أولئك الظلمة لا من هذا ولا من هذا ولا من هذا وطلبوا أن يأخذوه أسيرا إلى يزيد، فامتنع من ذلك وقاتل حتى قتل مظلوما شهيدا، لم يكن قصده ابتداء أن يقاتل).
فلم يخرج على يزيد وإنما ذهب إلى الكوفة؛ ليبايَع, فلما انصر فوا رجع عن رأيه وأراد أن يبايع يزيدا , ويدخل تحت طاعته.
رابعا: أنه ندم على خروجه إلى الكوفة, ولم يفرق الجماعة بل طلب الدخول في الجماعة, قال ابن تيمية في منهاج السنة: (( وأحاديث النبي صلى الله عليه و سلم التي يأمر فيها بقتال المفارق للجماعة لم تتناوله فإنه رضي الله عنه لم يفرق الجماعة ولم يقتل إلا وهو طالب للرجوع إلى بلده أو إلى الثغر أو إلى يزيد داخلا في الجماعة معرضا عن تفريق الأمة))
فكيف يحتج بفعل ندم منه؟
خامسا: لو سلمنا أنه خروج- وهو ليس بخروج- فقد أنكر عليه بعض الصحابة كابن عباس وابن عمر, فعند الطبري أن ابن عمر قال للحسين وابن الزبير: (اتقيا الله, ولا تفرقا جماعة المسلمين).
وللتوضيح: فإنكارهم لما خشوه من الغدر به، فهم لم ينكروا عليه؛ لأنه خرج على الحاكم، فهو لم يخرج كما تقدم, وإنما امتنع عن بيعته
فتبين لنا خطأ من يقول: بخروج الحسين على يزيد, وبذا لم يثبت عن صحابي أنه خرج على حاكم بويع له واستقر الأمر له, فتحقق إجماع الصحابة, ويتضح هذا جليا في إنكار ابن عمر على ابن مطيع خروجه على يزيد, ففي مسلم عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية").
-خروج سليمان بن صرد.
لم يخرج على إمام بايعه وقد استقر له الأمر, فقد كان فيمن كتب إلى الحسين بن علي أن يقدم الكوفة من أجل مبايعته, فلما قدمها أمسك عنه ولم يقاتل معه, فخرج في جيش تابوا إلى الله من خذلانهم الحسين الشهيد، وساروا للطلب بدمه، وسموا جيش التوابين.
-خروج ابن الزبير.
لم يخرج ابن الزبير على إمام بايعه وقد استقر له الأمر , فابن الزبير لم يبايع، ولجأ إلى مكة وأرسل إليه يزيد جيشا فمات يزيد واستخلف ابنه معاوية فبقي أربعين يوما ومات ولم يستخلف أحدا فبايع الناس ابن الزبير، قال ابن الجوزي: «فدعى إلى نفسه، وسمي أمير المؤمنين، وولى العمال، واستوثقت له البلاد، ما خلا طائفة من الشام، فإنهم بايعوا مروان»
قال أبو بكر بن عياش: (( ما بقي أرض إلا ملكها ابن الزبير إلا الأردن )) أخرجه الخلال
وقَالَ الحَافِظُ ابْنُ كَثِيرٍ : (وَلَمَّا أُخِذَتِ الْبَيْعَةُ لِيَزِيدَ فِي حَيَاةِ مُعَاوِيَةَ، كَانَ الْحُسَيْنُ مِمَّنِ امْتَنَعَ مِنْ مُبَايَعَتِهِ هُوَ وَابْنُ الزُّبَيْرِ وَعَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ أَبِي بَكْرٍ)
وقال ابن قدامة في المغني: (... فإن عبد الملك بن مروان ، خرج على ابن الزبير ، فقتله ، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بايعوه طوعا وكرها ، فصار إماما يحرم الخروج عليه ؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين )
تنبيه: ما وقع من الحسين وابن الزبير , فإنهما قد امتنعا من مبايعة يزيد؛ اجتهادا منهما, فهما من أهل المشورة والحل ولهما أتباع وشوكة, قال أبو العباس ابن تيمية عن ابن الزبير: (وأما في حياة يزيد فإنه امتنع عن مبايعته أولا، ثم بذل المبايعة له، فلم يرض يزيد إلا بأن يأتيه أسيرا، فجرت بينهما فتنة) منهاج السنة النبوية (4/ 523)
ويجب أن يعلم أن يزيد لم يستتب له الأمر على جميع بلدان المسلمين, فقد مات وبعض البلدان لم تبايع له, وكانت خارجة عن طاعته, قال ابن تيمية: (فيزيد في ولايته هو واحد من هؤلاء الملوك، ملوك المسلمين المستخلفين في الأرض، ولكنه مات وابن الزبير ومن بايعه بمكة خارجون عن طاعته، لم يتول على جميع بلاد المسلمين، كما أن ولد العباس لم يتولوا على جميع بلاد المسلمين، بخلاف عبد الملك وأولاده فإنهم تولوا على جميع بلاد المسلمين، وكذلك الخلفاء الثلاثة ومعاوية تولوا على جميع بلاد المسلمين، وعلي - رضي الله عنه - لم يتول على جميع بلاد المسلمين). منهاج السنة النبوية (4/ 524)
وقال عن يزيد: (وتولى بعد أبيه على كراهة من بعض المسلمين ورضا من بعضهم) مجموع الفتاوى (3/ 410)
فامتناع من امتنع من الصحابة على المبايعة صادر من أهل المشورة والحل, وهو اجتهاد منهم, ولا يعد هذا من الخروج في شيء.
-خروج أهل المدينة يوم الحرة على يزيد.
ذكر الحافظ ابن كثير في "تاريخه": قال: وكان سببها أن أهل المدينة لما خلعوا يزيد بن معاوية، وولوا على قريش عبد الله بن مطيع، وعلى الأنصار عبد الله بن حنظلة بن أبي عامر، فلما كان في أول هذه السنة أظهروا ذلك، واجتمعوا عند المنبر، فجعل الرجل منهم يقول: قد خلعت يزيد كما خلعت عمامتي هذه، ويلقيها عن رأسه، ويقول الآخر: قد خلعته كما خلعت نعلي هذه، حتى اجتمع شيء كثير من العمائم، والنعال هناك، ثم اجتمعوا على إخراج عامل يزيد من بين أظهرهم، وهو عثمان بن محمد بن أبي سفيان ابن عم يزيد، وعلى إجلاء بني أمية من المدينة، فاجتمعت بنو أمية في دار مروان بن الحكم، وأحاط بهم أهل المدينة يحاصرونهم، واعتزل الناس علي بن الحسين زين العابدين، وكذلك عبد الله بن عمر بن الخطاب، لم يخلعا يزيد، ولا أحد من بيت ابن عمر، وقد قال ابن عمر لأهله: لا يخلعن أحد منكم يزيد، فتكون الفيصل بيني وبينه، وأنكر على أهل المدينة في مبايعتهم لابن مطيع، وابن حنظلة على الموت..اهـ
ثم إنه ليس هناك حجة في خروجهم؛ لإنكار ابن عمر عليهم, وبيانه لهم أن خروجهم هذا مخالف لدلالة النصوص القطعية, ففي مسلم عن نافع، قال: جاء عبد الله بن عمر إلى عبد الله بن مطيع، حين كان من أمر الحرة ما كان، زمن يزيد بن معاوية، فقال: اطرحوا لأبي عبد الرحمن وسادة، فقال: إني لم آتك لأجلس، أتيتك لأحدثك حديثا سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقوله، سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: "من خلع يدا من طاعة، لقي الله يوم القيامة لا حجة له، ومن مات وليس في عنقه بيعة، مات ميتة جاهلية").
وجعل هذا من الغدر مع أنه كان في يزيد من الظلم ما كان, فعَنْ نَافِعٍ، قَالَ: ( لَمَّا خَلَعَ أَهْلُ المَدِينَةِ يَزِيدَ بْنَ مُعَاوِيَةَ، جَمَعَ ابْنُ عُمَرَ، حَشَمَهُ وَوَلَدَهُ، فَقَالَ: إِنِّي سَمِعْتُ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( يُنْصَبُ لِكُلِّ غَادِرٍ لِوَاءٌ يَوْمَ القِيَامَةِ )، وَإِنَّا قَدْ بَايَعْنَا هَذَا الرَّجُلَ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ غَدْرًا أَعْظَمَ مِنْ أَنْ يُبَايَعَ رَجُلٌ عَلَى بَيْعِ اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُنْصَبُ لَهُ القِتَالُ، وَإِنِّي لاَ أَعْلَمُ أَحَدًا مِنْكُمْ خَلَعَهُ، وَلاَ بَايَعَ فِي هَذَا الأَمْرِ، إِلَّا كَانَتِ الفَيْصَلَ بَيْنِي وَبَيْنَهُ ) رواه البخاري
وأنكر ذلك أيضا: النعمان بن بشير, وعبد الله بن جعفر, وسعيد بن المسيب, وغيرهم.
- خروج العلماء في فتنة ابن الأشعث ضد الحجاج.
أئمة أهل السنة أكثرهم لم يخرجوا على الحجاج, ومن خرج منهم فقد ندم وتاب, ولا حجة في فعله قبلُ؛ لأنه مخالف للإجماع قبله, وبعدُ لأنه تاب عنه ورجع وندم.
ولو سلمنا جدلا بوجود أفراد منهم لم يندموا؛ فبالإجماع لا عبرة برأي الأفراد المخالف للجمهور, بل الأكثر, ولا يعد خلافهم نقضا لمذهب أهل الحديث ولا يقدح في كونه مذهبا لأهل الحديث.
 روى ابن سعد في الطبقات ( 7 / 187 ) عن حماد بن زيد قال : ذكر لأيوب السختياني القراء الذين خرجوا مع ابن الأشعث ، فقال : (( لا أعلم أحدا منهم قتل إلا وقد رغب عن مصرعه، ولا نجا أحد منهم إلا حمد الله الذي سلمه، وندم على ما كان منه ))
وعن أبي قلابة: قال لي مسلم بن يسار: إني أحمد الله إليك أني لم أرم بسهم، و لم أضرب فيها بسيف، قلت له: فكيف بمن رآك بين الصفين فقال: هذا مسلم بن يسار لن يقاتل إلا على حق، فقاتل حتى قتل؟ فبكى ، والله حتى وددت أن الأرض انشقت، فدخلت فيها . (التاريخ الكبير للبخاري 2 / 302 ) (سير أعلام النبلاء 4 / 513)
وفي (تاريخ الطبري 3 / 644) قال الشعبي للحجاج معتذرا عن خروجه : ( أيها الأمير، إن الناس قد أمروني أن أعتذر إليك بغير ما يعلم الله أنه الحق، وايم الله لا أقول في هذا المقام إلا الحق، قد والله تمردنا عليك، وحرضنا وجهدنا كل الجهد، فما آلونا، فما كنا بالأقوياء الفجرة، ولا بالأتقياء البررة، ولقد نصرك الله علينا، وأظفرك بنا، فإن سطوت فبذنوبنا، وما جرت إليك أيدينا، وإن عفوت عنا فبحلمك، وبعد فالحجة لك علينا. فقال الحجاج: أنت والله يا شعبي أحب إلي ممن يدخل علينا يقطر سيفه من دمائنا، ثم يقول: ما فعلت ولا شهدت. قد أمنت البداية عندنا يا شعبي. قال: فانصرفت، فلما مشيت قليلا قال: هلم يا شعبي. قال: فوجل لذلك قلبي، ثم ذكرت قوله: قد أمنت يا شعبي، فاطمأنت نفسي. فقال: كيف وجدت الناس بعدنا يا شعبي؟ قال: - وكان لي مكرما - فقلت: أصلح الله الأمير، قد اكتحلت بعدك السهر، واستوعرت السهولة، واستوخمت الجناب، واستحلست الخوف، واستحليت الهم، وفقدت صالح الإخوان، ولم أجد من الأمير خلفا. قال: انصرف يا شعبي. فانصرفت ) .
وهنا ينبغي التذكير بأمر مهم وهو: أن جمعا من العلماء كانوا يرون كفر الحجاج, فكان خروج بعضهم  على حاكم كافر لا مسلم.
 قال الحافظ ابن حجر ( تهذيب التهذيب 2 / 185) : ( وكفره جماعة منهم سعيد بن جبير والنخعي ومجاهد وعاصم بن أبي النجود والشعبي وغيرهم ) وانظر المصنف لابن أبي شيبة ( 6 / 163

بعد هذه الاجتهادات الخاطئة وندمهم عليها: استقر أمر الأئمة على حكاية الإجماع على عدم الخروج؛ تأكيدا للإجمااع القديم, وهو الموافق لدلالة النصوص القطعية, قال ابن تيمية في منهاج السنة: (وكان أفاضل المسلمين ينهون عن الخروج والقتال في الفتنة، كما كان عبد الله بن عمر وسعيد بن المسيب وعلي بن الحسين وغيرهم ينهون عام الحرة عن الخروج على يزيد، وكما كان الحسن البصري ومجاهد وغيرهما ينهون عن الخروج في فتنة ابن الأشعث. ولهذا استقر أمر أهل السنة على ترك القتال في الفتنة للأحاديث الصحيحة الثابتة عن النبي - صلى الله عليه وسلم - وصاروا يذكرون هذا في عقائدهم، ويأمرون بالصبر على جور الأئمة وترك قتالهم، وإن كان قد قاتل في الفتنة خلق كثير من أهل العلم والدين).

فتبين لنا أن ما اعتمد عليه ابن حزم وكل من سوغ الخلاف كالقاضي عياض وغيره لا يصح, فإذا سقط سقط معه تسويغ الخلاف, وتبقى دلالة الأدلة على التحريم قطعية, ولا شيء يعارض الإجماع في زمن الصحابة والتابعين.
قال ابن قدامة في المغني: (وجملة الأمر أن من اتفق المسلمون على إمامته وبيعته ، ثبتت إمامته ، ووجبت معونته ؛ لما ذكرنا من الحديث والإجماع ، وفي معناه ، من ثبتت إمامته بعهد النبي صلى الله عليه وسلم أو بعهد إمام قبله إليه ، فإن أبا بكر ثبتت إمامته بإجماع الصحابة على بيعته ، ، وعمر ثبتت إمامته بعهد أبي بكر إليه ، وأجمع الصحابة على قبوله .
ولو خرج رجل على الإمام ، فقهره ، وغلب الناس بسيفه حتى أقروا له ، وأذعنوا بطاعته ، وبايعوه ، صار إماما يحرم قتاله ، والخروج عليه ؛ فإن عبد الملك بن مروان ، خرج على ابن الزبير ، فقتله ، واستولى على البلاد وأهلها ، حتى بايعوه طوعا وكرها ، فصار إماما يحرم الخروج عليه ؛ وذلك لما في الخروج عليه من شق عصا المسلمين )

وأنبه هنا: أن من أردأ الاستدلالات وأقبحها: الاحتجاج بما حصل بين الصحابة من قتال, وما حدث بينهم من فتنة, ولا أحد منهم خرج على علي ينازعه الخلافة أو أراد خلعه, وإنما اجتهدوا في أمر آخر, هم فيه بين المصيب والمخطئ.
والواجب: الإمساك عما شجر بينهم, وعدم الخوض فيها, فقد سئل الحسن البصري رحمه الله عن قتالهم فقال : ( قتال شهده أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وغبنا ، وعلموا وجهلنا ، واجتمعوا فاتبعنا ، واختلفوا فوقفنا )
وسئل عمر بن عبد العزيز رحمه الله عن علي وعثمان والجمل وصفين وما كان بينهم ؟ فقال : "  تلك دماء كف الله يدي عنها ، وأنا أكره أن أغمس لساني فيها   ."الطبقات الكبرى" (5/394) .
وقال شيخ الإسلام في « منهاج السنة » (4/448): « كان من مذاهب أهل السنة الإمساك عما شجر بين الصحابة فإنه قد ثبت فضائلهم ووجبت موالاتهم ومحبتهم وما وقع منه ما يكون لهم فيه عذر يخفى على الإنسان ومنه ما تاب صاحبه منه ومنه ما يكون مغفوراً فالخوض فيما شجر يوقع في نفوس كثير من الناس بغضاً وذماً، ويكون هو في ذلك مخطئاً، بل عاصياً فيضر نفسه ومن خاض معه في ذلك كما جرى لأكثر من تكلم في ذلك فإنهم بكلام لا يحيه الله ولا رسوله إما من ذم من لا يستحق الذم وإما من مدح أمور لا تستحق المدح ولهذا كان الإمساك طريقة أفاضل السلف ».
ثم يقال: ما حصل بين علي ومعاوية رضي الله عنهما, والحسين ويزيد, وابن الزبير ويزيد, فهو: امتناع عن البيعة ممن له شوكة وأتباع, ومن أهل المشورة والحل, وليس خروجا بالسيف؛ لانتزاع الخلافة.
فحقيقة ما حصل بين معاوية وعلي رضي الله عنهما أن معاوية امتنع عن المبايعة؛ طلبا للقصاص من قتله عثمان أولا, وهو اجتهاد منه, وأما علي فرأى تأخير ذلك؛ للمصلحة, ورأى أن يقاتل معاوية لإدخالهم في الطاعة, قال الحافظ ابن حجر رحمه الله تعال وقد ذكر يحيى بن سليمان الجعفي أحد شيوخ البخاري في " كتاب صفين " من تأليفه ، بسند جيد ، عن أبي مسلم الخولاني أنه قال لمعاوية : أنت تنازع عليا في الخلافة ؛ أو أنت مثله ؟قال : لا ، وإني لأعلم أنه أفضل مني وأحق بالأمر ، ولكن ألستم تعلمون أن عثمان قتل مظلوما، وأنا ابن عمه ، ووليه ؛ أطلب بدمه ؟ فأْتُوا عليا فقولوا له يدفع لنا قتلة عثمان .
فأتوه فكلموه ، فقال : يدخل في البيعة ويحاكمهم إلي .
فامتنع معاوية ، فسار علي في الجيوش من العراق حتى نزل بصفين ، وسار معاوية حتى نزل هناك .
وذلك في ذي الحجة سنة ست وثلاثين ، فتراسلوا ، فلم يتم لهم أمر ، فوقع القتال ." فتح الباري " (13 / 86(
وقال ابن حزم: (ولم ينكر معاوية قط فضل علي واستحقاقه الخلافة لكن اجتهاده اداه إلى أن رأى تقديم أخذ القود من قتلة عثمان رضي الله عنه على البيعة ورأى نفسه أحق بطلب دم عثمان) الفصل في الملل والأهواء والنحل (4/ 124)
وقال ابن تيمية: (ومعاوية " لم يدع الخلافة؛ ولم يبايع له بها حين قاتل عليا، ولم يقاتل على أنه خليفة، ولا أنه يستحق الخلافة، ويقرون له بذلك، وقد كان معاوية يقر بذلك لمن سأله عنه، ولا كان معاوية وأصحابه يرون أن يبتدئوا عليا وأصحابه بالقتال، ولا يعلوا.
بل لما رأى علي - رضي الله عنه - وأصحابه أنه يجب عليهم طاعته ومبايعته، إذ لا يكون للمسلمين إلا خليفة واحد، وأنهم خارجون عن طاعته يمتنعون عن هذا الواجب، وهم أهل شوكة رأى أن يقاتلهم حتى يؤدوا هذا الواجب، فتحصل الطاعة والجماعة.
وهم قالوا: إن ذلك لا يجب عليهم، وأنهم إذا قوتلوا على ذلك كانوا مظلومين قالوا: لأن عثمان قتل مظلوما باتفاق المسلمين، وقتلته في عسكر علي، وهم غالبون لهم شوكة، فإذا امتنعنا ظلمونا واعتدوا علينا، وعلي لا يمكنه دفعهم، كما لم يمكنه الدفع عن عثمان؛ وإنما علينا أن نبايع خليفة يقدر على أن ينصفنا ويبذل لنا الإنصاف). الفتاوى الكبرى لابن تيمية (3/ 455)
وأما ما حصل بين عائشة وطلحة والزبير فلا علاقه له بالبيعة ولا بالخروج بالسيف, وإنما كانوا يطالبون بالقصاص من قتلة عثمان, قال ابن تيمية: (وأما الحرب التي كانت بين طلحة والزبير وبين علي فكان كل منهما يقاتل عن نفسه ظانا أنه يدفع صول غيره عليه، لم يكن لعلي غرض في قتالهم، ولا لهم غرض في قتاله، بل كانوا قبل قدوم علي يطلبون قتلة عثمان، وكان للقتلة من قبائلهم من يدفع عنهم، فلم يتمكنوا منهم، فلما قدم علي وعرفوه مقصودهم، عرفهم أن هذا أيضا رأيه، لكن لا يتمكن حتى ينتظم الأمر، فلما علم بعض القتلة ذلك، حمل على أحد العسكرين ، فظن الآخرون أنهم بدأوا بالقتال، فوقع القتال بقصد أهل الفتنة لا بقصد السابقين الأولين، ثم وقع قتال على الملك). منهاج السنة النبوية (6/ 339)
وإني لأعجب ممن يستدل بواقعة الجمل على جواز المظاهرات؛ زعما منه أن خروجهم الجماعي والإنكار على علي رضي الله عنه هو بعينه ما يحدث في المظاهرات, ولا أدري كيف صح لهم جعل ما حدث وقت الفتنة أصلا مع التباس الأمر فيه ووقوع التأويل!, بل ظهر خطأ المعترضين على علي رضي الله عنهم من جهات:
الأولى: أن عائشة رضي الله عنها تحققت خطأ فعلها, وتحذير النبي صلى الله عليه وسلم لها منه إلا أنها استمرت؛ للإصلاح, فقد أخرج أحمد في المسند والحاكم في المستدرك: أن عائشة رضي الله عنها لما بلغت مياه بني عامر ليلاً نبحت الكلاب، قالت: أي ماء هذا؟ قالوا: ماء الحوأب، قالت: ما أظنني إلا راجعة، إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لنا: "كيف بإحداكن تنبح عليها كلاب الحوأب". فقال لها الزبير: ترجعين!! عسى الله عز وجل أن يصلح بك بين الناس)
وكانت نادمة فقد أخرج ابن عبد البر عن ابن أبي عتيق قال: قالت عائشة: إذا مر ابن عمر فأرونيه، فلما مر ابن عمر قالوا: هذا ابن عمر، فقالت: يا أبا عبد الرحمن، ما منعك أن تنهاني عن مسيري؟ قال: رأيت رجلاً قد غلب عليك، وظننت أنك لا تخالفينه، يعني ابن الزبير، قالت: أما إنك لو نهيتني ما خرجت.
فإذا صح أن يكون أصلا للمظاهرات فهو أصل في النهي عنها؛ لما تقدم.
الثانية: مع حرص الصحابة على البعد على الدماء وعدم إرادة القتال إلا أن أهل الفتنة أشعلوا فتيل الحرب, وترتب على هذا الصنيع مفسدة كبرى, ففعلهم هذا أدى إلى مفسدة كبرى؛ مما يبين لنا حكمه, وهكذا فليكن الأمر في المظاهرات.
الثالثة: أنهم كانوا مخطئين في إنكارهم؛ إذ لم يفهموا الأمر على وجهه؛ حتى وضح لهم علي رضي الله عنه حقيقة الأمر, وهذا التوضيح لا يحصل في المظاهرات, ثم هو قد يبنى على أمور لم تفهم على وجهها فلا يكون وسيلة مشروعة للإنكار, فكيف وهو بالوجهين المتقدمين وسيلة منهيا عنها, فلا  يكون من باب الوسائل التي لها أحكام المقاصد.
وكلامي هنا من جهة الاستدلال عليها بما حدث في معركة الجمل, وليس من الممنوع: المظاهرة التي لا يكون فيها اعتراض بل موافقة إذا لم يصاحبها مخالفات شرعية.


خاتمة مهمة
 لا يصح تعليق مسألة الخروج على الحاكم المسلم الفاسق بالمصلحة؛ لأن النصوص المتواترة دلت على تحريم الخروج نفسه, والحكمة منه: تعطيل المفاسد الكبرى, فالحكم مبنى على درء المفاسد الكبرى, وليس معلقا بدرء المفاسد الكبرى, فهي ليست من باب حيثما وجدت المفسدة وجد الحكم, وإنما هو من باب حيث وجد الخروج وجدت معه المفسدة الكبرى, وأظهر هذا الواقع في كل خروج حدث في التاريخ, فالمفاسد الكبرى ملازمة له ولا تنفك عنه.
ثم لو جعلناها علة: لخصصت اللفظ أو أبطلته, وهذا لا يجوز في العلل المستنبطة عند الأصوليين.
ويدل على أن الخروج في نفسه محرم: ما أخرجه الخلال في السنة عن علي بن عيسى، قال: سمعت حنبلا يقول في ولاية الواثق: اجتمع فقهاء بغداد إلى أبي عبد الله، أبو بكر بن عبيد، وإبراهيم بن علي المطبخي، وفضل بن عاصم، فجاءوا إلى أبي عبد الله، فاستأذنت لهم، فقالوا: يا أبا عبد الله، هذا الأمر قد تفاقم وفشا، يعنون إظهاره لخلق القرآن وغير ذلك، فقال لهم أبو عبد الله: " فما تريدون؟ قالوا: أن نشاورك في أنا لسنا نرضى بإمرته، ولا سلطانه، فناظرهم أبو عبد الله ساعة، وقال لهم: «عليكم بالنكرة بقلوبكم، ولا تخلعوا يدا من طاعة، ولا تشقوا عصا المسلمين، ولا تسفكوا دماءكم  ودماء المسلمين معكم، انظروا في عاقبة أمركم، واصبروا حتى يستريح بر، أو يستراح من فاجر» ، ودار في ذلك كلام كثير لم أحفظه ومضوا، ودخلت أنا وأبي على أبي عبد الله بعدما مضوا، فقال أبي لأبي عبد الله: نسأل الله السلامة لنا ولأمة محمد، وما أحب لأحد أن يفعل هذا، وقال أبي: يا أبا عبد الله، هذا عندك صواب، قال: لا، هذا خلاف الآثار التي أمرنا فيها بالصبر.
قال الشوكاني في نيل الأوطار: (وقد استدل القائلون بوجوب الخروج على الظلمة ومنابذتهم السيف ومكافحتهم بالقتال بعمومات من الكتاب والسنة في وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولا شك ولا ريب أن الأحاديث التي ذكرها المصنف في هذا الباب وذكرناها أخص من تلك العمومات مطلقا، وهي متوافرة المعنى كما يعرف ذلك من له أنسة بعلم السنة، ولكنه لا ينبغي لمسلم أن يحط على من خرج من السلف الصالح)
أضف إلى ذلك: أن الشارع قد علق الخروج على أمر لا احتمال فيه, عن جنادة بن أبى أمية قال دخلنا على عبادة بن الصامت وهو مريض فقلنا حدثنا أصلحك الله بحديث ينفع الله به سمعته من رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.فقال دعانا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فبايعناه فكان فيما أخذ علينا أن بايعنا على السمع والطاعة في منشطنا ومكرهنا وعسرنا ويسرنا وأثرة علينا وأن لا ننازع الأمر أهله قال « إلا أن تروا كفرا بواحا عندكم من الله فيه برهان ».أخرجه مسلم
فقد أكد الكفر هنا بعدة أمور:
الأول: أن يكون كفرا بواحا أي: ظاهرا واضحا لا محتملا موهما.
الثاني: أن يكون عندنا فيه من الله برهان بمعنى: عندنا أدلة واضحة بينة لا تحتمل التأويل
وما هذه القيود إلا لبيان عظم مفاسد الخروج على الأئمة, وتحققها.
والله أعلم
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار