الخميس، 26 نوفمبر 2020

هل من مصارف الزكاة العلم ووسائله؟

 

هل من مصارف الزكاة العلم ووسائله؟

اتفق الفقهاء على أن مصارف الزكاة محصورة, وقد دل على هذا الحصر لفظ "إنما" في قوله تعالى [إنما الصدقات للفقراء ] الآية, وما تفيدة "اللام" من  الاختصاص المقتضي اختصاصهم باستحقاقها, فلو جاز صرفها إلى غيرهم لبطل الاختصاص.

وسبب الاستحقاق في الكل واحد وهو: الحاجة, إما لحاجته في نفسه كالفقير والمسكين وفي الرقاب  والغارم, أو لحاجة المسلمين إليه كالعامل عليها وفي سبيل الله على خلاف فيه.

انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 43) المغني لابن قدامة (620) (9/ 329)

 

وأما مسألة هل من مصارف الزكاة: العلم ووسائله؟

فهذه المسألة تبحث في مصرف "في سبيل الله", وهذا المصرف عند الإطلاق في الآية [إنما الصدقات للفقراء ] يراد به الجهاد في سبيل الله الذي هو الغزو.

إلا أن الأحناف توسعوا فأدخلوا فيه جميع القرب, فكل من سعى في طاعة الله وسبيل الخيرات بقيد فقر والحاجة. [انظر: بدائع الصنائع في ترتيب الشرائع (2/ 45)] فالأصناف عندهم تعطى بشرط الفقر إلا العامل عليها وكذا بشرط تملك المال للأشخاص, فلا يدخل بناء المؤسسات ونحو ذلك.

والملاحظ هو توسيعهم دائرة "في سبيل الله" من جهة معناه, وتضييقهم من جهة أهله ومستحقيه.

وأما المالكية فيقصرون اللفظ على الجهاد في سبيل الله الذي هو الغزو إلا أنهم لا يشترطون في المجاهد أن يكون فقيرا, فيعطى المجاهد وآلته ولو غنيا لا في الأسوار. [انظر: التاج والإكليل لمختصر خليل (2/ 351)]

فيلاحظ أنهم عنوا به نفس الجهاد لا ما يستعان به, فضيقوا اللفظ من جهة معناه ووسعوا من جهة أهله.

وكذا الشافعية وافقوا المالكية فيقصرون اللفظ على الجهاد في سبيل الله, ويوسعونه من جهة أهله إلا أنهم يشترطون في المجاهد ألا يكون له رزق في بيت مال المسلمين.

ومما علوا به إعطاء الغني: التحريض على الجهاد. انظر: المجموع شرح المهذب (6/ 212) نهاية المطلب في دراية المذهب (11/ 558)

وأما الحنابلة فحملوه على الجهاد والحج, فوسعوا اللفظ وإن كان توسيعهم أقل من توسيع الحنفية إلا أنهم وافقوا الشافعية في ألا يكون المجاهد من أهل الديوان الذين يأخذون أرزاقهم من بيت مال المسلمين بقيد أن ما يأخذه من رزق يكفيه .

وأما الحج فيشترطون في الحج الفرض وفي المعطى الفقر, والعمرة كالحج على صحيح المذهب.  انظر: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف للمرداوي (3/ 235)

ودليلهم على زيادة الحج: ما رواه أبو عبيد في "الأموال" رقم (1976) عن ابن عمر أنه سئل عن امرأة أوصت بثلاثين درهماً في سبيل الله، فقيل له: أتُجعل في الحج؟ فقال: أما إِنه في سبيل الله. وإسناده صحيح كما قال الحافظ في "الفتح" (3/ 258). وروى أبو عبيد رقم (1784 و1965) بسند صحيح عن ابن عباس-رضي الله عنهما-: "أنه كان لا يرى بأساً؛ أن يعطي الرجل من زكاة ماله في الحج وأن يعتق الرقبة"

والذي يعنينا من هذا أن التوسع في المعنى إنما كان من الحنفية والحنابلة دون المالكية والشافعية إلا أن هذا التوسع مقيد بالحاجة, كما تقدم.

ومع ذلك: الأقرب هو حصر معنى "في سبيل الله" على الجهاد والحج, دون التوسع بإدخال كل سبل الخير؛ لدلالة الحصر والاختصاص.

لكن هل يدخل في هذا المصرف العلم ووسائله؟

تقدم معنا: أن الجمهور يريدون بـ"في سبيل الله" الغزو في سبيل الله, وأما إدخال العلم ووسائله فالأقرب أنه يدخل فيه من جهتين:

الأولى: المعنى العام لـ"في سبيل الله" الذي يتضمن نصرة الدين والدفاع عنه ليس محصورا في الجهاد بالسيف, وإنما يدخل فيه الجهاد بالعلم ونشر الحق ودفع الشبهات, قال الله تعالى: {يَاأَيُّهَا النَّبِىُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} وقد روى أحمد والنسائي وصححه الحاكم: عن أنس رضي الله عنه: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "جَاهِدُوا المشركينَ بِأموالكم وأنفُسِكم وأَلْسِنَتِكُم" .

الثانية: التعليل, فمن عِلَل استحقاق الزكاة: حاجة المسلمين إليه, ولا يخفى أن حاجة المسلمين إلى العلم وتصحيح عقائد الناس ومفاهيمهم أعظم من حاجتهم إلى الطعام والشراب, كما أن النفع في العلم متعد وعام للمسلمين, ويتعلق بالحفاظ على ضروري من الضرورات وهو الدين, بل يتعلق بحفظ الضرورات الخمس, ويتأكد الأمر بكون حرب الأعداء أصبحت على المسلمين فكرية.

ثم إن طلب العلم يشترك مع الغزو في سبيل الله في حبس النفس على ما ينفع المسلمين.

وفي هذا المعنى ذكر الخرشي المالكي في شرح مختصر خليل (2/ 216): (...محمد الصالح بن سليم الأوجلي حين سئل عن إعطاء الزكاة للعالم الغني والقاضي والمدرس ومن في معناهم ممن نفعه عام للمسلمين بما نصه: الحمد لله يجوز إعطاء الزكاة للقارئ والعالم والمعلم ومن فيه منفعة للمسلمين ولو كانوا أغنياء لعموم نفعهم ولبقاء الدين كما نص على جوازها ابن رشد واللخمي وقد عدهم الله سبحانه وتعالى في الأصناف الثمانية التي تعطى لهم الزكاة حيث قال {وفي سبيل الله} [التوبة: 60] يعني: المجاهد لإعلاء كلمة الله، وإنما ذلك لعموم نفعهم للمسلمين فيعطى المجاهد ولو كان غنيا كما ذكرناه في عموم النفع، وفي هذا المعنى العالم والقارئ والمعلم والمؤذنون؛ لأن في ذلك بقاء الإسلام وشهرته وتعظيمه وإراحة القلوب عليه فينخرط ذلك في سلك قوله تعالى {وفي سبيل الله} [التوبة: 60] قاله محمد الصالح بن سليم الأوجلي وقال اللخمي: العلماء أولى بالزكاة ولو كانوا أغنياء ذكره الشيخ محمد الفاسي في حاشيته على المختصر قال شيخنا السيد محمد: هذا كله ما لم يكن لهم راتب في بيت المال).

وعليه فإن طالب العلم يعطى من الزكاة ما يحتاج إليه في العلم ونشره إذا تفرغ للعلم ولو كان غنيا مادام أنه يطلب العلم ويباشر نشره ورد شبهات أهل الباطل.

فطالب العلم إذا كان فقيرا فإنه يعطى من مصرف الفقير, وإذا كان غنيا فإنه يعطى من مصرف في سبيل الله.

ولا يتوسع في نشر الكتب وإنشاء الإذاعات والصحف وبناء المؤسسات العلمية التي يتحقق بها نصرة الحق ورد الشبهات عنه من الزكاة إلا بقدر حاجة المسلمين إليها وتعذر تغطية تكاليفها من طرق أخرى كالتبرعات والوقف ونحو ذلك؛ إذ لا بد في مصرف الزكاة من مراعاة المعنى والتعليل معا, ولا يشترط في مصرف "في سبيل الله" التمليك للشخص؛ لعدم ذكر لام التمليك فيه.

وما نراه في عصرنا من تكالب الأعداء على المسلمين ثقافيا ونشر الشبهات والأكاذيب حول الإسلام, وكذا تكالب أهل البدع وتشويه السنة؛ مما يستدعي فقهيا وأصوليا ومقاصديا: التوسع في مصرف "في سبيل الله" على ما ذكره جمهور الفقهاء بما يتوافق مع المعنى العام لـ"في سبيل الله" الذي يتضمن نصرة الدين والتعليل الذي هو حاجة المسلمين.

 

كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار

الأربعاء، 25 نوفمبر 2020

حكم قضاء الفوائت لمن تركها متعمدا

 

حكم قضاء الفوائت لمن تركها متعمدا

صورة المسألة: من فاتته صلاة أو صلوات كثيرة تركها عمدا أيقضيها؟

وقد بحثها الأصوليون ضمن مسألة: العبادة المؤقتة بوقت هل يجب قضاؤها بالأمر الأول المقيد بالوقت أو إنما يجب القضاء بأمر ثان؟

وأما الفقهاء فبحثوها ضمن مسألة قضاء الفوائت, وعبروا عن المسألة بالفوات إشارة منهم إلى أن المؤمن لا يتركها عمدا, فلذا لم ينسب الفعل إليه وإنما أسند الفوات إلى الصلاة, بخلاف ما لو قيل تركها, فيسند الفعل إلى العبد.

 

اتفق الفقهاء على وجوب القضاء على النائم والناسي, حكاه ابن جزي في القوانين الفقهية (ص: 50)

واتفقوا على إثم من تركها متعمدا ووجوب التوبة عليه, واتفقوا ايضا على أن التوبة تنفعه. الصلاة وأحكام تاركها لابن القيم (ص: 93)

واختلفوا في القضاء, وهل من تمام توبته القضاء أو لا؟:

فذهب أكثر العلماء وهو مذهب الحنفية والمالكية والشافعية والحنابلة إلى وجوب القضاء للفائتة تركها ناسيا أو لعذر غير النسيان أو عامدا على خلاف بينهم في التفاصيل. انظر: تبيين الحقائق شرح كنز الدقائق وحاشية الشلبي (1/ 185) و التاج والإكليل لمختصر خليل (2/ 275) كشاف القناع عن متن الإقناع (1/ 260)

وحكي المازري المالكي اتفاق جماعة الفقهاء على أن المتعمد لترك الصلاة، عليه قضاؤها. خلافًا لداود وأبي عبد الرحمن الشافعي. انظر: شرح التلقين (1/ 731)

وقال النووي: (أجمع العلماء الذين يعتد بهم على أن من ترك صلاة عمدا لزمه قضاؤها وخالفهم أبو محمد على ابن حزم ) المجموع شرح المهذب (3/ 71)

قال ابن رجب معترضا على حكاية الإجماع في فتح الباري لابن رجب (5/ 139): (وكيف ينعقد الإجماع مع مخالفة الحسن، مع عظمته وجلالته، وفضله وسعة علمه، وزهده وورعه؟

ولا يعرف عن أحد من الصحابة في وجوب القضاء على العامد شيء، بل ولم أجد صريحاً عن التابعين - أيضا - فيه شيئاً، إلا عن النخعي).

واحتجوا:

1-قوله عليه الصلاة و السلام { إذا رقد أحدكم عن الصلاة أو نسيها ثم فزع إليها ، فليصلها كما كان يصليها في وقتها الحديث } فقوله صلى الله عليه و سلم فيه :" أو نسيها " يدخل فيه التارك لها عمدا : لأن النسيان في اللغة هو الترك ، فيحمل على عمومه في السهو و القصد .

وأجيب عنه: أن حمل الحديث على نسيان الترك عمدا باطل؛ لأنه قال فليصلها إذا ذكرها, وهذا صريح في أن النسيان في الحديث نسيان سهو لا نسيان عمد وإلا كان قوله إذا ذكرها كلاما لا فائدة فيه فالنسيان إذا قوبل بالذكر لم يكن إلا نسيان سهو.

2-في ذكر النائم والناسي تنبيهًا على العامد؛ لأن النائم والناسي لا إثم عليهما ولا لوم في ترك الصلاة, والعامد مأثوم ملوم فهو أحق بالتكفير من الناسي. لأنه المذنب حقًا، والنائم لا ذنب له. انظر: مسائل ابن رشد (1/ 6) وشرح التلقين (1/ 731)

وأجيب عنه من وجوه:

 أحدها: المعارضة بما هو أصح منه أو مثله وهو أن يقال: لا يلزم من صحة القضاء بعد الوقت من المعذور المطيع لله ورسوله الذي لم يكن منه تفريط في فعل ما أمر به وقبوله منه صحته وقبوله منه متعد لحدود الله مضيع لأمره تارك لحقه عمدا وعدوانا فقياس هذا على هذا في صحه العبادة وقبولها منه وبراء الذمة بها من افسد القياس

 الوجه الثاني: إن المعذور بنوم أو نسيان لم يصل الصلاة في غير وقتها بل في نفس وقتها الذي وقته الله له فإن الوقت في حق هذا حين يستيقظ ويذكر

 فالوقت وقتان وقت اختيار ووقت عذر فوقت المعذور بنوم او سهو هو وقت ذكره واستيقاظه فهذا لم يصل الصلاة إلا في وقتها فكيف يقاس عليه من صلاها في غير وقتها عمدا وعدوانا

 الثالث: إن الشريعة قد فرقت في مواردها ومصادرها بين العامد والناسي ويبن المعذور وغيره وهما مما لا خفاء به فإلحاق أحد النوعين بالآخر غير جائز

 الرابع: إنا لم نسقطها عن العامد المفرط ونأمر بها المعذور حتى يكون ما ذكرتم حجة علينا بل ألزمانا بها المفرط المتعدي على وجه لا سبيل له إلى استدراكها تغليظا عليه وجوزنا قضاءها للمعذور غير المفرط. انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 121)

3-حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم (أمر المجامع في نهار رمضان أن يصوم يوما مع الكفارة أي بدل اليوم الذي أفسده بالجماع عمدا). انظر: المجموع شرح المهذب (3/ 71)

وأجيب عنه: أن هناك فرقا بين من ترك الصوم متعمدا, وبين من فعل شيئا أفسد به الصوم, كمن أفسد حجه فيجب عليه قضاؤه.

4- صحة صلاة من أخر الصلاة عمدا فصلى ركعة في الوقت وركعة خارج الوقت, قال صلى الله عليه وسلم: ( من أدرك ركعة من العصر قبل أن تغرب الشمس فقد أدرك العصر ومن أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح )

وأجيب عنه: أن من أدرك ركعة من الصبح قبل أن تطلع الشمس فقد أدرك الصبح, ولو كان فعلها بعد المغرب وطلوع الشمس صحيحا مطلقا لكان مدركا سواء أدرك ركعة أو اقل من ركعة أو لم يدرك منها شيئا.

5-  أن رسول الله لم يصل هو ولا أصحابه يوم الخندق صلاة الظهر! والعصر حتى غربت الشمس لشغله بما نصبه المشركون له من الحرب ((ولم يكن يومئذ ناسيا ولا نائما )) ولا كانت بين المسلمين والمشركين يومئذ حرب قائمة ملتحمة وصلى رسول الله الظهر والعصر في الليل. ذكره ابن عبد البر.

وأجيب عنه: أن التأخير منه صلوات الله وسلام عليه إما ان يكون نسيانا منه او يكون أخرها عمدا وعلى التقديرين فلا حجة لكم فيه  بوجه فإنه إن كان نسيانا فنحن وسائر الأمة نقول بموجبه وأن الناسي يصليها متى ذكرها وإن كان عامدا فهو تأخير لها من وقت إلى وقت أذن فيه كتأخير المسافر والمعذور الظهر إلى وقت العصر والمغرب إلى وقت العشاء. انظر: الصلاة وأحكام تاركها (ص: 124)

6- أن رسول الله قال بالمدينة لأصحابه يوم انصرافه من الخندق: لا يصلين أحدكم العصر إلا في بني قريظة فخرجوا متبادرين وصلى بعضهم العصر في طريق بني قريظة خوفا من خروج وقتها المعهود ولم يصلها بعضهم إلا في بني قريظة بعد غروب الشمس فلم يعنف رسول الله - عليه السلام - إحدى الطائفتين وكلهم غير ناس ولا نائم وقد أخر بعضهم الصلاة حتى خرج وقتها ثم صلاها وقد علم رسول الله ذلك فلم يقل لهم إن الصلاة لا تصلى إلا في وقتها ولا تقضى بعد خروج وقتها. ذكره ابن عبد البر

وأجيب عنه: أن الذين اخروها كانوا مطيعين لرسول الله معتقدين وجوب ذلك التأخير وأن وقتها الذي أمروا به حيث أدركهم في بني قريظة.

 

وذهب ابن حزم إلى أن من تعمد ترك الصلاة حتى خرج وقتها فهذا لا يقدر على قضائها أبدا، فليكثر من فعل الخير وصلاة التطوع؛ ليثقل ميزانه يوم القيامة؛ وليتب وليستغفر الله عز وجل.

ونسبه إلى: عمر بن الخطاب وابنه عبد الله، وسعد بن أبي وقاص وسليمان وابن مسعود والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وبديل العقيلي، ومحمد بن سيرين ومطرف بن عبد الله، وعمر بن عبد العزيز وغيرهم. انظر المحلى بالآثار (2/ 10)

وحكي عن عبد الرحمن صاحب الشافعي بالعراق، وعن ابن بنت الشافعي. وهو قول أبي بكر الحميدي في الصوم والصلاة إذا تركهما عمداً، أنه لا يجزئه قضاؤهما.

ووقع مثله في كلام طائفة من الحنابلة المتقدمين، منهم: الجوزجاني وأبو محمد البربهاري وابن بطة, وروي عن طائفة من السلف، منهم: الحسن.

وحكى الخلاف في ذلك: إسحاق بن راهويه ومحمد بن نصر المروزي.. انظر: فتح الباري لابن رجب (5/ 134)

وفي تعظيم قدر الصلاة للمروزي (2/ 1000): عن الحسن، قال: «إذا ترك الرجل صلاة واحدة متعمدا فإنه لا يقضيها»

قال أبو عبد الله: وقول الحسن هذا يحتمل معنيين أحدهما أنه كان يكفره بترك الصلاة متعمدا فذلك لم ير عليه القضاء لأن الكافر لا يؤمر بقضاء ما ترك من الفرائض في كفره، والمعنى الثاني أنه إن لم يكن يكفره بتركها فإنه ذهب إلى أن الله عز وجل إنما افترض عليه أن يأتي بالصلاة في وقت معلوم فإذا تركها حتى يذهب وقتها فقد لزمته المعصية لتركه الفرض في الوقت المأمور بإتيانه به فيه فإذا أتى به بعد ذلك فإنما أتى به في وقت لم يؤمر بإتيانه به فيه، فلا ينفعه أن يأتي بغير المأمور به عن المأمور به. وهذا القول غير مستنكر في النظر لولا أن العلماء قد أجمعت على خلافه.

واحتجوا:

1-أن الصلوات أمر الشارع العبد بفعلها في وقت مخصوص,  والأمر ، بالفعل في الوقت  لا يتناول الفعل بعد الوقت بنص و لا بدليل, بل تحديد الوقت لفعله يدل على أنه لا يفعل بعد الوقت عند من يقول بدليل الخطاب.

2-لو كان الأمر بفعل العبادة في الوقت يتناول فعلها بعد الوقت كما يتناول فعلها في الوقت لا كتفى الله ، عز و جل في ايجاب صوم شهر رمضان بقوله : { فمن شهد منكم الشهر فليصمه }[سورة البقرة الآية : 185] عن قوله : { فمن كان منكم مريضا او على سفر فعدة من أيام أخر }؛ لأن من البلاغة في النطق الايجاز فيه و حذف ما يستغني الكلام عنه لدلالته عليه .

3-قول الله تعالى: {فويل للمصلين} [الماعون: 4] {الذين هم عن صلاتهم ساهون} [الماعون: 5] وقوله تعالى: {فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلاة واتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا} [مريم: 59] فلو كان العامد لترك الصلاة مدركا لها بعد خروج وقتها لما كان له الويل، ولا لقي الغي؛ كما لا ويل، ولا غي؛ لمن أخرها إلى آخر وقتها الذي يكون مدركا لها.

4-جعل الله تعالى لكل صلاة فرض وقتا محدود الطرفين، يدخل في حين محدود؛ ويبطل في وقت محدود، فلا فرق بين من صلاها قبل وقتها وبين من صلاها بعد وقتها؛ لأن كليهما صلى في غير الوقت؛ وليس هذا قياسا لأحدهما على الآخر، بل هما سواء في تعدي حدود الله تعالى، وقد قال الله تعالى: {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه} [الطلاق: 1] .

5- القضاء إيجاب شرع، والشرع لا يجوز لغير الله تعالى على لسان رسوله, فنسأل من أوجب على العامد قضاء ما تعمد تركه من الصلاة: أخبرنا عن هذه الصلاة التي تأمره بفعلها، أهي التي أمره الله تعالى بها؟ أم هي غيرها؟ فإن قالوا: هي هي؛ قلنا لهم: فالعامد؛ لتركها ليس عاصيا؛ لأنه قد فعل ما أمره الله تعالى، ولا إثم على قولكم، ولا ملامة على من تعمد ترك الصلاة حتى يخرج وقتها، وهذا لا يقوله مسلم.

وإن قالوا: ليست هي التي أمره الله تعالى بها، قلنا صدقتم؛ وفي هذا كفاية إذ أقروا بأنهم أمروه بما لم يأمره به الله تعالى.

6-نقول لمن قال إنه يستدركها بالقضاء أخبرنا عن هذه الصلاة التي تأمر بفعلها هي التي أمر الله بها أم هي غيرها؟

 فإن قال: هي بعينها قيل له: فالعامد بتركها حينئذ ليس عاصيا؛ لأنه قد فعل ما أمر الله به بعينه فلا يلحقه الإثم والملامة وهذا باطل قطعا ,وإن قال: ليست هي التي أمر الله بها, قيل له: فهذا من أعظم حججنا عليك إذ أقررت أن هذه غير مأمور بها .

7- نقول أيضا: ما تقولون في من تعمد تفويتها حتى خرج وقتها ثم صلاها أطاعه صلاته تلك ام معصية؟

 فإن قالوا: صلاته طاعة وهو مطيع بها, خالفوا الإجماع والقرآن والسنن الثابتة, وإن قالوا: هي معصية, قيل: فكيف يتقرب إلى الله بالمعصية؟ وكيف تنوب المعصية عن الطاعة؟ فإن قلتم: هو مطيع بفعلها عاص بتأخيرها وهو أنه إذا تقرب بالفعل الذي هو طاعة لا بالتفويت الذي هو معصية. قيل لكم: الطاعة هي موافقة الأمر وامتثاله على الوجه الذي أمر به فأين الله ورسوله ممن تعمد تفويت الصلاة بفعلها بعد خروج وقتها حتى يكون مطيعا له بذلك؟ فلو ثبت ذلك لكان فاصلا للنزاع في المسألة.

انظر: مسائل ابن رشد (1/ 5) والمحلى بالآثار (2/ 10) الصلاة وأحكام تاركها (ص: 98)

 

والأقرب بالنظر إلى القواعد والأصول وما يقتضيه القياس: أنه لا قضاء عليه؛ وأما بالنظر إلى الأحوط؛ خروجا من الخلاف: فيقضي, ومن المعلوم أن الأخذ بالأحوط ليس حكما وإنما هو ورع.

ووجه ما يقتضيه القياس والأصول العامة: أن العبادة المؤقتة لا تقضى إلا بأمر جديد, كما ورد فيمن ترك الصلاة ناسيا أو نائما, ولم يرد في المتعمد أمر جديد فلا يجب عليه القضاء, كما أن لم يسو بين عامد وناسٍ في الأحكام؛ مما يقتضي تغايرا وتمايزا في الأحكام.

ثم إن القضاء لم يأت كفارة إلا لمن له عذر, والمتعمد لا عذر له فلا يكون القضاء كفارة له, ولذا قال ابن رجب في فتح الباري لابن رجب (5/ 138): (...فإنه إن كان كافراً بالترك متعمداً، فالقياس أن لا قضاء على الكافر، وإن كان مرتداً.

وإن لم يكن كافراً بالترك، فالقياس أنه لا قضاء بعد الوقت؛ لأن القضاء يحتاج إلى أمر جديد، وليس فيه أمر جديد، وإنما أمر بالقضاء من يكون القضاء كفارة له، وهو المعذور، والعامد لم يأت نص بأن القضاء كفارة له، بل ولا يدل عليه النظر؛ لأنه عاص آثم يحتاج إلى توبة، كقاتل العمد، وحالف اليمني الغموس).

وكما أن ما فرضه الله في مكان وكان شرطا فيه لا ينوب عنه مكان آخر, فكذلك الزمان.

ثم إن الوقت شرط في كون الصلاة عبادة يحبها الله, فإذا فات الوقت خرجت عن كونها عبادة يحبها الله.

والوقت آكد من جميع الواجبات, فيصلي المصلي في الوقت بدون وضوء ولا ستر عورة ولا طهارة الثياب حفاظا على الوقت وتأكيدا له, ولو كان للمصلي  القضاء لكانت صلاته بعد الوقت مع كمال الشروط والواجبات خيرا من صلاته في الوقت بدونها وأحب إلى الله وهذا باطل بالنص والإجماع. انظر الصلاة وأحكام تاركها (ص: 97)

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

السبت، 14 نوفمبر 2020

متى يسقط وجوب إنكار المنكر عند العز بن عبدالسلام؟

 

متى يسقط وجوب إنكار المنكر عند العز بن عبدالسلام؟

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد, فإن العز بن عبد السلام رحمه الله فقيه عٌرف بشجاعته وشدة إنكاره على بعض حكام عصره مع ما أُخِذ عليه من اعتناق عقيدة المتكلمين والدفاع عنها, وتأليب بعض الحكام على من خالف عقيدته في زمنه!.

وبسبب شجاعته في إنكار منكرِ بعض حكام زمانه في قصص ذكرها أهل التراجم؛ صار يًشبَّه به كل من يحسب أنه يتكلم بالحق ولا يخشى في ذلك أحدا, وتوسع الناس في ذلك؛ حتى وقع بعضهم في الظلم وتعدي الحق.

ولذا أردت أن أبين قواعد سار عليها في إنكار المنكر؛ ليتضح للقارئ الكريم أن الشجاعة في الحق وعدم الخوف من السلاطين وغيرهم محكوم بمقاصد الشريعة وكلياتها ونصوصها الجزئية؛ فإطلاق العنان لإنكار المنكر من غير اعتبار مقاصد الشرع ومراعاة حال العبد, وكذا الطعن مطلقا فيمن لم ينكر: من المنكر الذي ينكره العز بن عبد السلام, وإن كان العز رحمه الله يرى أن المخاطرة بالنفس في سبيل إعزاز الدين مندوب إليها, كما قال في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 94): (التقرير على المعاصي كلها مفسدة لكن يجوز التقرير عليها عند العجز عن إنكارها باليد واللسان، ومن قدر على إنكارها مع الخوف على نفسه كان إنكاره مندوبا إليه ومحثوثا عليه، لأن المخاطرة بالنفوس في إعزاز الدين مأمور بها) .

وقد ظن بعضهم أن من لم يقل قولة الحق في كل مكان ومع كل أحد- إن سلم أن ما يعتقده هذا القائل حقا- فهو خائن جبان على هوى السلطان...!!

وفي ضوء هذا الانبهار بمثل هذه الادعاءات وتزييف الحقائق وتغييرها كان لابد من ذكر أمور لها تأثير عظيم بمسألة المجاهرة بالإنكار:

ومن هذه الأمور التي كان يراعيها العز رحمه الله ويرتب الأحكام عليها: الخوف على النفس, فمتى كان المنكِر خائفا على نفسه فإنه يسقط عنه الإنكار باليد واللسان, وفي هذا رد على من ينفي الشجاعة وقول الحق من عالم سكت عن الإنكار؛ خوفا على نفسه, قال العز في شجرة المعارف: (...فإن قدر على إزالته بنفسه لزمه ذلك إلا أن يخاف على نفسه فسقط الوجوب وانتفى الاستحباب)  

وكذا كان يراعي العجز, فيجعله عذرا لترك الإنكار على الحاكم, فقال في شجرة المعارف (214) عن الحاكم الجائر: (وإذا كرهت أعماله وعجزت عن إنكارها فأنت مأجور على كراهيتها؛ إجلالا لله تعالى وتعظيما لأمره)

كما كان يراعي أيضا حال الإكراه ويرى وجوب طاعة المكره؛ لدفع مفسدة أكبر, فقال في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (2/ 134): (فمن أمر بمعصية فلا سمع ولا طاعة له، إلا أن يكره إنسانا على أمر يبيحه الإكراه فلا إثم على مطيعه، وقد تجب طاعته لا لكونه آمرا بل لدفع مفسدة ما يهدده به من قتل أو قطع أو جناية على بضع)

وهذا كله يدور في فلك حفظ النفس, فمصلحة حفظ النفس أعظم من مصلحة الإنكار هنا, ولذا جاز ترك الإنكار.

وإذا جاز الأخذ بالرخص؛ دفعا للمشقة, كما قال العز في قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 51): (وفي الرخص تترك المصالح الراجحة إلى المصالح المرجوحة للعذر دفعا للمشاق) وقال (1/ 52): (والحاصل أن الشرع يجعل المصلحة المرجوحة عند تعذر الوصول إلى الراجحة أو عند مشقة الوصول إلى الراجحة، بدلا من المصلحة الراجحة)

فما فوقها من باب أولى.

والعلماء ليسوا على درجة واحدة, فمقام أحمد بن حنبل ليس كمقام يحيى بن معين وعلي بن المدينى, ولذا صبر أحمد وصار إمام أهل السنة وأجاب في الفتنة يحيى وعلي رحمهم الله جميعا وهم أئمة يرجع إليهم ويؤخذ منهم.

لكن لا يعني ذلك تبرير الباطل وتسويغه بلا موجب شرعي كالإكراه.

كتبه أحمد محمد الصادق النجار