الأحد، 28 فبراير 2016

منهج "سمعنا وأطعنا" لآحاد أهل العلم مطلقا



منهج "سمعنا وأطعنا" لآحاد أهل العلم مطلقا
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فمن البدع المحدثة قديما وحديثا: السمع والطاعة المطلقة لآحاد العلماء في أبواب معينة في الدين؛ مغلِّفين ذلك باتباع العلماء, لكونهم قد غربلوا لنا الأحاديث, فميزوا صحيحها من ضعيفها, واستنبطوا منها الأحكام, فأعطونا النقي الصافي, ومنعونا المزيف المغشوش, وأنهم خبروا الرجال وعرفوا أحوالهم, فلا نحتاج بعدهم إلى أن نبحث وننظر, أو نظن أن الدليل بخلاف قولهم, فالقول ما قال الشيخ المعظَّم, والدليل ما دلل به وعليه, وما سواه فضعيف, أو مرجوح, أو لا يدل بأي وجهٍ من الدلالة على قول مخالفه, ومن حكم عليه آحاد العلم بالتبديع فالواجب اتباعهم مطلقا والانصياع لدليلهم, ولسان حالهم: وإن كان خطأً في نفس الأمر؛ لأنهم أعلم .
وهذه المحدثة عُرف بها متعصبة المذاهب قديما, كمن كان يتعصب لأبي حنيفة, أو مالك, أو الشافعي, أو أحمد, وعُرف بها بعض المعاصرين ممن يتعصب لبعض الأشياخ دون غيرهم, كالتعصب للشيخ عبيد الجابري أو الشيخ محمد المدخلي أو الشيخ عبد الله البخاري – ولولا عظم الفتنة ما سميتهم-.
وقد قال أحد المتعصبة: ( وفعلك هذا يبين مدى اتباعك لتوجيهات ونصائح أهل العلم خاصة أكابرهم من غير تردد تطبيقا لمنهج سمعنا وأطعنا ) .
وكذا عُرف بها أهل البدع من التكفيرين وغيرهم.
فتجدهم يتعصبون لأئمتهم ومعظميهم دون غيرهم في أبواب معينة في الدين, كمتعصبة المذاهب فإنهم يتعصبون لأئمتهم في المسائل الفقهية, وكمن يتعصب للمشايخ الثلاثة في المنهج, ومن يتعصب لأرباب الفكر التكفيري فيما يتعلق بالحكام, وهكذا.
والمسائل التي يُتعصَّب عليها لأجل قول فلان وفلان قد تكون مما يسوغ فيها الخلاف, وقد تكون مما لا يسوغ فيها الخلاف, ومضادة لمذهب السلف, والثانية أشد من الأولى؛ لجمع أهلها بين مخالفة أصل من أصول الدين, والتعصب الممقوت الممنوع.
والسمع والطاعة المطلقة لآحاد أهل العلم في نفسها قد دلت النصوص الشرعية, ومقاصد الشريعة, والقواعد العامة على تحريمها, والنهي عنها.
قال تعالى: يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
فلم يجعل الله الطاعة المطلقة لأولي الأمر, ولذا لم يُعِد فعل الأمر:"أطيعوا", وإنما جعل طاعة أهل العلم تبعا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فدل ذلك على أن الطاعة المطلقة لا تكون لآحاد العلماء.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 48): (( فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه ص - أنه قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ))
وقال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
فأمر الله عند التنازع بالرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ للعصمة, ولذا إذا أجمع المجتهدون فلا يرد إلى الكتاب والسنة؛ لأن الله قد علق الرد بشرط, ينتفي المشروط بانتفائه.
ووجه كون إجماع الأمة إذا ثبت فلا نرد الأمر إلى الكتاب والسنة: أن الأمة معصومة, وهذا لا ينطبق على آحاد العلماء, فلا تكون طاعتهم مستقلة.
ومنهج "سمعنا وأطعنا": مخالف أيضا لمقاصد الشريعة؛ لأنه ينافي اجتماع كلمة المسلمين على الحق, والتآلف, فهو يدعوا للفرقة بين المسلمين, والشحناء, والتباغض.
ومخالف أيضا لقواعد الدين العامة, كالولاء والبراء على الحق, فتصبح الموالاة والمعادة على آراء أشخاص محضة, لا على الحق.
وهو يؤدي إلى اتباع الخطأ؛ لأن آحاد العلماء ليسوا معصومين.
وعليه فليس لأحد أن ينصب أحدا غير معصوم يطيعه مطلقا ولو في باب؛ لأنه لا يطاع مطلقا إلا من كان معصوما.
وإذا كان الطاعة المطلقة لواحد من الصحابة دون غيره منكرة, فكيف بالطاعة لمن دونه؟!
والواجب على المسلم أن يتقصد الحق ويطلبه, لا أن يتقصد الرجال وآراءهم المحضة, وإن زُعم أنهم أقاموا الأدلة على أقوالهم, لأنه يبقى النظر في صحة الدليل ومدلوله, وما يعترض العموم من خصوص, والإطلاق من تقييد, إلى غير ذلك.
هذا بالنسبة للطاعة المطلقة ولو في باب.
وأما إيجاب اتباع واحدٍ بعينه, أو مجموعةٍ محصورة بعينها فهذا لا يجوز؛ لكون آحاد العلماء يخطئون, والخطأ لا يتابع عليه صاحبه.
وهو أيضا مخالف لمقاصد الشريعة؛ لأنه ينافي التيسير ورفع الحرج, واجتماع كلمة المسلمين على الحق, والتآلف.
فهو يوقع في الحرج؛ وذلك بإلزام الناس بأقوالِ أشخاص محصورين يتعذر استفتاء المسلمين كلهم لهم, مع التضييق عليهم فيما يسع فيه الخلاف, وهذا فيه تحجير لواسع, وإلزام الناس بما ليس بملزِم, ومخالف لما عليه العمل عند الصحابة والتابعين والأئمة, فأئمة المذاهب الأربعة لم يكونوا يرون أن أقوالهم ملزمة.
قال عمر بن عبد العزيز: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا؛ كان في الأمر سعة)
 كما يدعوا للفرقة بين المسلمين, والشحناء, والتباغض.
وإذا كان التعصب لواحد من الصحابة دون غيره منكرا, فكيف بالتعصب لمن دون الصحابة؟!
قال ابن تيمية: في الفتاوى الكبرى (2/ 107): (( ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين, كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة, وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما.
فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالما، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم.
قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات} ))
وكل ما ادُّعي في هذا من المصالح فلا يخرج عن كونه مصالح وهمية, أو مصالح مكمِّلة تنقض المصالح الأصلية وتذهبها, وكلاهما لا عبرة به.
وينبغي التفريق هنا: بين وجوب سؤال العامي للمفتي؛ لقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر, وبين إيجاب اتباع واحد بعينه من العلماء؛ إذ لا تلازم بينهما.
فقد كام من الصحابة من يَسأل غيره ممن هو أعلم منه من غير تخصيص واحد بعينه.
فتقليد واحد بعينه لا يجب على المسلمين.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 208): (( وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان, ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول, ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به, بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واتباع شخص لمذهب شخص بعينه؛ لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته: إنما هو مما يسوغ له, ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق, بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع, ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله, فيفعل المأمور ويترك المحظور ))

هذا ما أردت بيانه مختصرا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


الجمعة، 26 فبراير 2016

فرقٌ بين ما كان كفرا في نفسه من الأعمال وما لم يكن كذلك



يخلط بعضهم بين ما كان كفرا في نفسه وبين ما لا يكون كفرا في نفسه, فيظن أن من اشترط الاستحلال فيما ليس كفرا بنفسه أنه قد وافق المرجئة
وهذا خلط عظيم
فما كان كفرا في نفسه كسب الله, أو السجود لصنم, أو الاستهانة بالمصحف ونحو ذلك لا يشترط فيه الاستحلال,
بخلاف ما لم يكن كفرا في نفسه, كشرب الخمر, والزنا, ومجرد الحكم بغير ما أنزل الله, فإنه يشترط في التكفير بها الاستحلال, فلا يكفر أحد بكل ذنب إلا إذا استحله

فالحذر الحذر من الخلط بين المسائل؛ لأنه يؤول إلى الظلم والتعدي والبهتان
وتجد بعضهم لم يلقَّن من مذهب المرجئة إلا أنهم يحصرون الكفر فيما كان قلبيا ولم يعرف محل مذهبهم, فيرمي من قال: بالاستحلال فيما ليس كفرا بنفسه بمذهب الإرجاء

فأردت التنبيه؛ لتوضيح المسألة.

كتبه
أحمد محمد الصادق النجار

الثلاثاء، 23 فبراير 2016

مذهب السلف يطلق على أمرين

مذهب السلف يطلق على أمرين ، لا يخرج الحق عنهما باعتبارين:
الامر الأول: ما أجمعوا عليه سواء في المسائل او الدلائل
وهو بهذا لا يكون الدليل المعين او المسألة المعينة الا حق، ولا يسوغ لأحد ان يخالف .
وهذا النوع لابد ان يكون فيه نص عن الرسول
قال ابن تيمية في المجموع:( فكل مسألة يقطع فيها بالاجماع وبانتفاء المنازع من المؤمنين فإنها مما بين الله فيه الهدى)
الثاني: ما اختلفوا فيه،
ولا يخرج عن حالين:
الاولى: ما كان الخلاف معتبرا، فهنا لا يسوغ لأحد ان يأتي بقول خارج مطلقا عن أقوالهم؛ لأن الحق لا يخرج عن أقوالهم
وهذا يسوغ فيه الخلاف، وينسب القولان للسلف
ولهذا يقال: اختلف السلف على قولين، والراجح منهما كذا
الثانية: ما كان الخلاف غير معتبر، بأن يكون أحد السلف خالف في مسألة نصا صريحا صحيحا لا معارض له، أو إجماعا
فهنا لا ينسب قوله للسلف، وإنما يعد قولا شاذا لا يسوغ لأحد أن يقول به.
فتلحص لنا أن مذهب السلف لا يعرف الا بالنقل لا بالاستدلال المحض، وهو نقل متواتر، وينسب اليه القول الواحد المجمع عليه، أو القولان على سبيل البدل؛ لأن الحق واحد
وما ثبت مذهبا للسلف فإنه لا يسوغ مخالفته سواء فيما كان لهم فيه قول واحد، أو ما كان لهم فيه أقوال إلا أن ما كان لهم فيه أقوال معتبرة فلا يسوغ الخروج عن أقوالهم، وإنما الواجب الترجيح بينها
ومستند تقرير عدم مخالفة إجماعهم قطعي سواء في القول الواحد او في القولين على سبيل البدل؛ وذلك:
١-اتفاق السلف في مسائل الدين من حفظ الله للدين
سواء ماكان أصلا من أصول الدين
او فرعا حكي عنهم حكمه
٢-وما حفظ الله به الدين لا يكون الا حقا
فالنتيجة: اتفاق السلف لا يكون الا حقا
وحجة اخرى:
١-قول مجتهدي كل عصر قول للأمة
٢- والأمة معصومة
والنتيجة: قول مجتهدي كل عصر معصوم
وحجة أخرى:
١- اتفاق السلف في مسائل الدين يقطع فيه بانتقاء المخالف
٢-وما قطع فيه بانتفاءالمخالف فهو قطعي
والنتيجة: اتفاق السلف قطعي.
وتحت كل مقدمة من هذه المقدمات مقدمات أخرى تبين قطعيتها
وهي ترجع في الجملة للتواتر المعنوي
وعليه فلا يخرج الحق عن مذهب السلف، وهو أمر قطعي.
ولذا اشتد السلف على من خالف مذهب السلف
قال القاضي أبو يعلى:( ولا يجوز أن تجمع الأمة على خطأ، وقد نص أحمد على هذا في رواية عبد الله وأيي الحارث في الصحابة إذا اختلفوا لم يخرج عن أقاويلهم، أرأيت إن أجمعوا: له ان يخرج عن أقواليهم: هذا قول خبيث، قول أهل البدع.

كتبه
د.أحمد محمد الصادق النجار

الخميس، 18 فبراير 2016




مجموع ردود
 د. أحمد محمد الصادق النجار
 على
المشايخ الثلاثة

(عبيد الجابري- محمد المدخلي- عبد الله البخاري )

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فمن القواعد المقررة: أن الوسائل لها أحكام المقاصد, وهذه الردود, وسيلة لتحقيق مقصد وهو حفظ الدين.
وحفظ الدين: أعظم الضرورات الخمس, ووسائل حفظه هي أعظم الوسائل وأشرفها.
وقد كانت ردودي على هؤلاء المشايخ لأجل حفظ الدين من أن ينسب إليه ما ليس منه, وما وقع فيه المشايخ من أخطاء يجب بيانها؛ حفظا للدين, هذا من جهة.
ومن جهة أخرى  ما حصل من تعصب لهؤلاء المشايخ وتقديس؛ حتى اعتقد بعضهم فيهم العصمة معنى لا لفظا, فحفظا للدين كانت المصلحة راجحة في بيان شيء من أخطائهم.
وهذه الردود على النحو الآتي:
أولا الردود على الشيخ عبيد الجابري




1-وقفة مع جواب الشيخ عبيد الجابري على مسألة  قطعية القرآن والسنة من جهة الدلالة

قد سألني أحد الإخوة عن جوابٍ للشيخ عبيد الجابري حول مسألة قطعية الكتاب والسنة من جهة الدلالة, ولما رأيت أن الشيخ قد أخطأ فيه وانتشر جوابه رأيت التعليق عليه بما يزيل الخطأ, ويُجلِّي المسألة؛ حتى لا يغتر بالجواب من يغتر.
ولا يلزم من ردّ الخطأ الطعن.
وفي مثل هذه المسائل – القطع والظن- لابد من التأني والمراجعة؛ لخطورتها, ولما يترتب على الخطأ فيها من المفاسد.

السؤال الذي وُجِّه إلى الشيخ وجوابه عنه:
السؤال:
شيخنا - حفظكم لله - يقول السائل: هل دلالات القرآن قطعية أو ظنية؟ وما قولُ أهل السنة في هذه المسألة؟
الجواب:
سبحان لله! النصوص كلُّها دلالتها قطعية القرآن والسُّنة الصحيحة هذا الراجح من أقوال أهل العلم.
القرآن أنا ما أظن أحدًا من أهل السُّنة قال أدلته ظنية، لكنَّ هذه من فلسفة المتأخرين من الأصوليين؛ قطعي الدلالة ظنِّي الدلالة، أهل السُّنة لا يعرفونَ هذا أبدًا، ولا يقولونَ بهذا، فما دلَّ عليه الكتاب صراحةً ظاهرًا، وما صحَّت به السُّنة صراحةً فدلالته قطعية  اهـ  من فتاوى ميراث الأنبياءنعم.
فقد ذكر الشيخ في بداية جوابه بعد التعجب مما تضمنه السؤال: أن النصوص كلها دلالتها قطعية, وبين أنه الراجح, وهذا يشعر أن في المسألة قولين لأهل العلم.
ولا معنى للتعجب في المسائل التي يقال فيها: الراجح كذا؛ لأنه يسوغ فيها الخلاف.
ثم ذكر أنه لا يظن أن أحدا قال به من أهل السنة.
وهذا الظن إن ثبت لا يجعل المسألة اجتهادية, فكيف يقال فيها: الراجح كذا؟!.
ثم قطع الشيخ بأن قول القائل:"قطعي الدلالة ظني الدلالة" من فلسفة المتأخرين من الأصوليين, وأنه لا يعرف عند أهل السنة.
وهذا ينفي أن تكون المسألة اجتهادية.
ثم إن هذا النفي يحتاج إلى استقراء, وقد قطع الشيخ بما صرح أنه ظنٌّ.
فحصل من الشيخ تعجب مما تضمنه السؤال, ثم ترجيح, ثم ظن, ثم قطع.
ثم في آخر جواب الشيخ قيده كلامه بـ:" فما دلَّ عليه الكتاب صراحةً ظاهرًا، وما صحَّت به السُّنة صراحةً فدلالته قطعية  "
فكما هو ملاحظ حصل اضطراب في جواب الشيخ – حفظه الله-, بل تناقض, فجمع بين الترجيح والظن والقطع في مسألة واحدة, كما أنه عمم وأطلق في موطن وقيد في موطن آخر.
والجواب الصحيح أن يقال: نصوص الكتاب والسنة ليست على درجة واحدة من جهة الدلالة, فمن النصوص ما دلالتها قطعية؛ لعدم وجود الاحتمال, كدلالة قوله تعالى: [ويبقى وجه ربك] على إثبات الوجه لله, وكدلالة قوله تعالى: [تلك عشرة كاملة] على العدد.
ومن النصوص ما دلالتها ظنية؛ لوجود الاحتمال, كدلالة قوله تعالى: [أو لامستم النساء], فمن الأئمة من حمل الآية على اللمس, ومنهم من حمل الآية على الجماع.
 وقوله تعالى: [والمطلقات يتربصن بأنفسهم ثلاثة قروء], فمن الأئمة من حمل الآية على الطهر, ومنهم من حمل الآية على الحيض.
ونفي الاحتمال قد يؤخذ من النص نفسه بالوضع, وقد يؤخذ من القرائن.
وأهل السنة يفرقون بين دلالات النصوص.
والدلالات منها ما هو من قبيل النص الذي لا يحتمل إلا معنى واحدا, ومنها ما هو من قبيل الظاهر الذي يحتمل معنيين أحدهما أرجح من الآخر, ومنها ما هو من قبيل المجمل, ومنها ما هو من قبيل المشترك.
فما كان من باب النص فدلالته قطعية؛ لأنه ينتج منه العلم بنفي الاحتمال, وما كان من قبيل الظاهر والمشترك فدلالته ظنية إلا إذا احتفت بهذا النص قرائن.
والأئمة المتقدمون وإن لم يستعملوا لفظ القطع والظن إلا أنهم مقرون بمعناه.
قال الشافعي في الرسالة: (( فأما ما كان من سنة من خبر الخاصة الذي يختلف الخبر فيه، فيكون الخبر محتملا للتأويل، وجاء الخبر فيه من طريق الانفراد: فالحجة فيه عندي أن يلزم العالمين حتى لا يكون لهم رد ما كان منصوصا منه، كما يلزمهم أن يقبلوا شهادة العدول، لا أن ذلك إحاطة كما يكون نص الكتاب وخبر العامة عن رسول الله.
ولو شك في هذا شاك لم نقل له: تب، وقلنا: ليس لك - إن كنت عالما - أن تشك، كما ليس لك إلا أن تقضي بشهادة الشهود العدول، وإن أمكن فيهم الغلط، ولكن تقضي بذلك على الظاهر من صدقهم، والله ولي ما غاب عنك منهم )).
وهنا يجب أن يعلم: أن التفريق بين القطع والظن لا أثر له في العمل, فإنه يجب العمل بالظن كما يجب العمل بالقطع, والدلالة الظنية تنزل منزلة الدلالة القطعية في العمل.

وأما الذي أحدثه المتكلمون فهو: أن قطعية النص من جهة الدلالة متوقفة على مقدمات عشرة, ذكرها الرازي في المحصول وغيره.
وهي في حقيقة الأمر ترجع إلى موافقة العقل, فلا يكتسب النص القطعية من جهة الدلالة إلا إذا كان موافقا للعقل, كما بينتُ ذلك في شرحي على منهاج الوصول للبيضاوي.
وترتب عليه عندهم: رد النصوص إذا صادمت العقل.
وهذا الضلال من المتكلمين لا يجعلنا نقول: " قطعي الدلالة ظني الدلالة من فلسفة المتأخرين من الأصوليين, أهل السنة لا يعرفون هذا أبدا", وإنما نرد جناية المتكلمين من الأصوليين, مع بيان الحق.
نعم أهل السنة لا يعرفون الباطل الذي تضمنه إطلاقهم, لا أنهم لا يعرفون هذا الإطلاق مطلقا.
واستعمال هذا المصطلح" قطعي الدلالة, وظني الدلالة" على المعنى الصحيح لا إشكال فيه, وقد استعمله بعض الأئمة, ومن ذلك:
قول شيخ الإسلام ابن تيمية عن الأحاديث في مجموع الفتاوى (20/257): (( ثم هي منقسمة إلى : ما دلالته قطعية ؛ بأن يكون قطعي السند والمتن وهو ما تيقنا أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قاله وتيقنا أنه أراد به تلك الصورة . وإلى ما دلالته ظاهرة غير قطعية ...))
وقوله في مجموع الفتاوى (20/ 259): (( ... وتارة يختلفون في كون الدلالة قطعية لاختلافهم في أن ذلك الحديث : هل هو نص أو ظاهر ؟ وإذا كان ظاهرا فهل فيه ما ينفي الاحتمال المرجوح أو لا ؟ وهذا أيضا باب واسع فقد يقطع قوم من العلماء بدلالة أحاديث لا يقطع بها غيرهم ...))

وإذا كانت النصوص كلها دلالتها قطعية كما ذكر الشيخ عبيد للزم منه لوازم فاسدة, منها:
1-عدم جواز الاجتهاد؛ لأن محل الاجتهاد: الظنيات, لا القطعيات.
2-عدم عذر المخطئ, وأنه يأثم.
فلابد من ضبط هذه المسألة وإتقانها, فليس كل مصطلح نشأ من المتكلمين يرد مطلقا.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وكتبه
د/أحمد محمد الصادق النجار
16-1-1437هـ




2-مناقشة الشيخ عبيد الجابري في جواب له عن مسألة عقدية (المكر والخداع، وباب الاخبار عن الله)

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي
أما بعد، فالفتوى أمرها عظيم، وهي توقيع عن رب العالمين.
وقد أوقفني أحد الإخوة الأفاضل على فتوى للشيخ عبيد الجابري من موقع ميراث الأنبياء وهي:
السؤال:
بارك الله فيكم شيخنا، هذا السؤال السادس، يقول: ما الفرق بين أسماء الله والإخبار عن الله؟ وما هو الضابط في باب الإخبار؟

الجواب:
أسماء الله توقيفية، وهذه لها ما يدل عليها، ومن ذلكم؛ التصريح في القرآن، مثل قوله تعالى: {هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ } إلى آخر سورة الحشر، وقوله تعالى: {وَإِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ لا إِلَهَ إِلا هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ} [البقرة 163] وغير ذلك.

ومنها النقل الصحيح أن النبي - صلى الله عليه وسلم- دعا به مثل: ((يَا حَيُّ يَا قَيُّومُ)) وهكذا.

أمَّا الإخبار غالبًا يكون في الأفعال كالكيد والمكر والبطش، هذه أفعال يُؤخذ منها صفة ولكن لا يؤخذ منها اسم، فلا يُقال: إن الله كائد، إن الله ماكِر -أعوذ بالله- لا يُقال هذا، لأنها لا تُطلق إلا في المقابل لبيان أنه – سبحانه وتعالى- قادرٌ على الانتقام من ردَّ هديَّه الذي أنزلهُ على رسله: {وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ} [ الأنفال 30]، {إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16)} [ الطارق].

اهـ.

أقول:

هذا جواب مشتمل على إجمال، وأغلاط.

والكلام في أسماء الله وصفاته عظيم، والانحراف فيه عظيم.

قول الشيخ:"أمَّا الإخبار غالبًا يكون في الأفعال كالكيد والمكر والبطش، هذه أفعال يُؤخذ منها صفة ولكن لا يؤخذ منها اسم، فلا يُقال: إن الله كائد، إن الله ماكِر -أعوذ بالله- لا يُقال هذا، لأنها لا تُطلق إلا في المقابل"

فذكر أن الإخبار غالبا يكون في الأفعال كالكيد ...، فجعل الكيد فعلا من باب الخبر.

وهذا تأصيل بعيد عن مذهب السلف، وهو غلط ظاهر.

فباب الإخبار مغاير لباب الأسماء والصفات؛ إذ إن باب الإخبار لا يشترط فيه التوقيف كما يشترط في الاسماء والصفات، وإنما يشترط فيه الا يكون معناه سيئا، والحاجة.

قال ابن القيم في البدائع:( ما يدخل في الإخبار أوسع مما يدخل في باب أسمائه وصفاته، ك الشيء، والموجود، والقائم بنفسه...

وقال: إن ما يطلق عليه في باب الأسماء والصفات توقيفي، وما يطلق عليه من الأخبار لا يجب ان يكون توقيفيا كالقديم والشيء .. )

والصفات المقيدة كالمكر والكيد هي ليست من باب الإخبار وإنما هي صفات مقيدة، فتدخل تحت باب الصفات لا باب الاخبار.

ولهذا يشترط فيها التوقيف.

فظهر خطأ الشيخ في عد هذه الصفات من باب الاخبار المغاير لباب الاسماء والصفات.

وقد يحمل كلام الشيخ من وجه بعيد على أنه اراد بالإخبار  الاسم المقيد الذي يؤخذ من الفعل، لا الفعل نفسه ، فيقال: الماكر بمن يستحق المكر، وهكذا..

فيكون الاسم هنا ليس من باب الاسماء الحسنى ، وإنما من باب الإخبار، فأُخذ منه اسم فاعل.

لكنه حملٌ لقصده إن كان قد قصده، ولا يفيده لفظه.

ثم إن الشيخ قد تناقض  فجعل المكر، وو... من باب الإخبار ، ثم ذكر أنها تؤخذ منها صفات، وباب الاخبار لا يؤخذ منه صفات عليا ولا أسماء حسنى.

والسؤال الذي يرد على الشيخ: إذا كانت تؤخذ منها صفات فكيف تكون من باب الإخبار؟!!

الا اذا قصد الشيخ ان باب الاخبار تؤخذ منه ما صيغته صيغة الصفة او الاسم فهذا حق.

لا أنه تؤخذ منه صفات عليا.

وهو أيضا دلالة لفظه عليه بعيد.

وقول الشيخ:"لبيان أنه – سبحانه وتعالى- قادرٌ على الانتقام من ردَّ هديَّه الذي أنزلهُ على رسله":

يحتمل أمرين:

الأول: تفسير لصفة المكر والخداع ... باللازم مع نفي المعنى، كما عليه المتكلمون.

والمتكلمون إما أن يرجعوا الفعل الى القدرة او الارادة، أو يجعلوا الفعل بمعنى المفعول.

وهذا أنزه الشيخ عنه؛ لمعرفتي بأصوله في باب الصفات.

الثاني: تفسير باللازم مع اثبات المعنى اللغوي لهذه الصفات، وهذا مذهب للسلف.

لكن العبارة موهمة، ولابد فيها من تفصيل.

قال ابن القيم في إعلام الموقعين: ( قيل: إن تسمية ذلك مكرا وكيدا واستهزاءا وخداعا من باب الاستعارة ومجاز المقابلة نحو (وجزاء سيئة سيئة مثلها) ... وقيل -وهو أصوب-: بل تسميته بذلك حقيقة على بابه؛ فإن المكر إيصال الشيء إلى الغير بطريق خفي، وكذلك الكيد والمخادعة )

أضف إلى ما تقدم: ان الشيخ عامل صفة البطش معاملة المكر والكيد، وهذا باطل، فالبطش صفة فعلية ، ولا تضاف إلى الله مقيدة.

ولهذا جاءت مطلقة في النصوص ، كما قال تعالى إن بطش ربك لشديد.

وأخيرا: هذا ما أردت بيانا ضبطا للمسألة، وحفاظا على مذهب السلف من أن يدخل فيه ما ليس منه.

وأسأل الله ان يوفقنا لمرضاته، ونصرة مذهب السلف.

كتبه

د. أحمد محمد الصادق النجار


3-موافقة الشيخ عبيد الجابري للأشاعرة فيأن صفتي السمع والبصر ذاتيتان


سئل الشيخ عبيد الجابري كما في موقع ميراث الأنبياء:
 حفظكم الله, وهذا سائلٌ آخر يسأل عن صفتيْ السمع والبصر؛ وهل هُما من الصفات الفعليَّة؟
فأجاب: (( جاءت في القرآن وفي السنَّة, ويُمكن أن يُقال يعني أنا لا أعلم أحدًا فَصَّلَ في السمع, فقال هو ذاتيَّة باعتبار وفعليَّة باعتبار.
وكذلك البصر؛ لا أعلم أحدًا فَصَّلَ هذا التفصيل, فأنا حتَّى هذه الساعة على أنَّهُما صفتان ذاتيتَّان لله – عزَّ وجل – ..))
والرد بإيجاز:
ما قرره الشيخ في هاتين الصفتين هو عين ما قرره الأشاعرة فيهما, وليس هذا من مذهب السلف في شيء.
فمذهب الأشاعرة أن السمع والبصر أزليان, وحكى عبد القاهر في أصول الدين ص(90). على ذلك الإجماع.
وقال البيجوري في تحفة المريد عن البصر: (( صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات الذوات وغيرها ))
وقال عن السمع : ((صفة أزلية قائمة بذاته تعالى تتعلق بالموجودات, والأصوات, وغيرها كالذوات ))
ولا يثبتون تجددا, وإنما يثبتون تعلقا.

وأما مذهب السلف في هاتين الصفتين فهو: أنهما ذاتيان من جهة النوع, فعليتان من جهة الآحاد.
وهو صريح القرآن, كما قال تعالى: قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما
فقد جاء السمع بصيغة الفعل:"سمع – يسمع" .
ثم إن تحاورهما لم يكن في الأزل؛ مما يدل على التجدد, فسمع قولها بعد تكلمها.
ومما ذكرته في كتابي: "التعليقات السنية على مقدمة ابن عاشر الاعتقادية الأشعرية":
(( والحق عند أهل السنة: أن السمع والبصر غير العلم, وهذا متقرر لغة وشرعًا.
وأنهما صفتان ذاتيتان من جهة النوع, متجددتان من جهة الآحاد.
ولا يلزم من تجددهما باعتبار الآحاد أن ينتفي عنه السمع والبصر في وقت من الأوقات, لكن لما تجدد الكلام المسموع مثلًا تجدد السمع, فلما تكلمت المجادلة سمع الله قولها حين تكلمت لا في الأزل)) اهـ
وهذه بعض أقوال من قرر التجدد في صفتي السمع والبصر من جهة الآحاد :
قال شيخ الإسلام في الرد على المنطقيين (ص: 465): ((  وقد دل الكتاب والسنة واتفاق سلف الأمة ودلائل العقل على أنه سميع بصير, والسمع والبصر لا يتعلق بالمعدوم, فإذا خلق الأشياء رآها سبحانه, وإذا دعاه عباده سمع دعاءهم وسمع نجواهم, كما قال تعالى: [قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي الى الله والله يسمع تحاوركماٍ] المجادلة
 أي: تشتكي إليه وهو يسمع التحاور, والتحاور تراجع الكلام بينها وبين الرسول,...))
وقال في جامع الرسائل لابن تيمية - رشاد سالم (2/ 15): (( وَكَذَلِكَ " السّمع " و " الْبَصَر " " وَالنَّظَر " . قَالَ الله تَعَالَى : { وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله } هَذَا فِي حق الْمُنَافِقين وَقَالَ فِي حق التائبين : { وَقل اعْمَلُوا فسيرى الله عَمَلكُمْ وَرَسُوله والمؤمنون } فَقَوله { فسيرى الله } دَلِيل على أَنه يَرَاهَا بعد نزُول هَذِه الْآيَة الكريمة.
 والمنازع إما أن ينفي الرؤية ؛ وإما أن يثبت رؤية قديمة أزلية فقط .
وكذلك قوله { ثم جعلناكم خلائف في الأرض من بعدهم لننظر كيف تعملون } ولام " كي " تقتضي أن ما بعدها متأخر عن المعلول فنظره كيف يعملون هو بعد جعلهم خلائف .
وكذلك { قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما } أخبر أنه يسمع تحاورهما حين كانت تجادل وتشتكي إلى الله .
وقال النبي صلى الله عليه وسلم " { إذا قال الإمام سمع الله لمن حمده فقولوا ربنا ولك الحمد يسمع الله لكم } " فجعل سمعه لنا جزاء وجوابا للحمد فيكون ذلك بعد الحمد والسمع يتضمن مع سمع القول قبوله وإجابته .
ومنه قول الخليل { إن ربي لسميع الدعاء } . وكذلك قوله : { لقد سمع الله قول الذين قالوا إن الله فقير ونحن أغنياء } وقوله لموسى وهارون : { إنني معكما أسمع وأرى } .
وقال الشيخ صالح آل الشيخ في شرح العقيدة الواسطية : (( الأشاعرة والماتريدية وجماعات يقولون سمعه قديم .
يثبتون السع ولكن السمع عندهم ليس بحادث ، السمع قديم .
فسمع الكلام في القدم لعلمه به هكذا يزعمون .
وهذا الكلام فيه التكذيب للقرآن ولولا التأويل لكانوا كفارا بذلك ، لأن الله جل وعلا يقول وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا وقال قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ? وإذا كان السماع في الماضي قبل مجيء الكلام وقبل حصوله وقبل حصول المجادلة بين المرأة وبين رسول الله صلى الله عليه وسلم هل يصح أن يقال قَدْ سَمِعَ بصيغة الماضي ؟
وإنما يقال قَدْ سَمِعَ إذا كان الأمر قد وقع وانتهى ولهذا  قال: نجد في النصوص لفظ الماضي ولفظ المضارع فقد يكون في إثبات السمع القديم البصر القديم دون البصر الحادث والسمع الحادث والكلام الحادث فيه نفي لدلالات النصوص وفيه تكذيب لها لأن الله جل وعلا يقول ?قَدْ سَمِعَ? وهؤلاء يقولون سمعه قديم .
كيف ؟ سمع في القدم قبل حدوث الكلام 
هذا لا يصح أن يقال قَدْ سَمِعَ .
قال جل وعلا وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا هذا فعل مضارع دلالته على الحال يعني يسمع تحاوركما الآن ))
وبهذا يتبين لنا خطأ الشيخ عبيد في هذه المسألة, وموافقته لقول الأشاعرة.

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


4-صكوك تصحيح التوبة ليست من السلفية في شيء

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده

أما بعد:

فالذي جرني للكتابة في هذا الموضوع الذي يُعَدّ من مسلمات السلفية: ما وقعت عليه عيني وعين غيري من تصحيح توبة أبي الفضل الليبي من الشيخين عبيد الجابري وعبد الله البخاري بعد أن كتب تراجعات على أخطائه.
وتعلق القلوب بهذا التصحيح، فأصبح من يريد أن يتوب وتقبل منه أن يسلك طريقا معينا مبتدعا.
فخشيت أن تنسب هذه الطريقة إلى السلفية، وأنه منهج للسلف
 فكان لزاما التنبيه على هذه القضية.
وكلامي منصب على الفعل لا على الفاعل؛ لأن الفعل قد انتشر، ووقع من شيخين سلفيين، فإلصاقه بالسلفية؛ لوقوعه منهما قد يقطع به الكثيرون.

وهذه الطريقة أضحت عند جمع من السلفيين من السلفية، فإذا أخطأ سلفي فإن جماعة من الشباب السلفي يلزمونه أن يتوب بهذه الطريقة: بأن يذهب لمشايخ معينين كالشيخ عبيد او الشيخ البخاري فيعرض توبته عليهما أو أحدهما، ثم ينتظر أولئك الشباب صك تصحيح التوبة، فإن صححها المشايخ عُفي عنه، وإن لم يصححوها فإنه يكون مغضوبا عليه.
وما قضية أبي الفضل منا ببعيد.
ولست مدافعا عنه، فظلمه وبغيه بلغ الآفاق، وإنما أردت أن أبين حقيقة الحال بأقرب مثال.
وكم طُلب مني أن أذهب لأحدهما حتى أكون مرضيا عنه، لكن عصمني الله من أن أسلك طريقا يغضب ربي علي، فرجائي وخوفي لا يكون إلا لله.
وعندما يلتفت المرء حوله يمينا وشمالا؛ لينظر إلى بعض طلبة العلم الذين زكاهم بعض المشايخ كالشيخين المذكورين تراهم يسارعون إذا مُسكت عليهم أخطاء بإصدار البيانات تلو البيانات وعرضها على مشايخ معينين؛ لينالوا صك تصحيح التوبة؛ فيفوزوا بإرضاء جمهورهم.
وبعضهم لا يكاد ينام الليل؛ حتى يحصل على الصك.
وفي أثناء العمرة والحج تجد بعضا من الشباب يذهبون إلى بعض المشايخ جماعات ووحدانا من أجل أن يحصلوا على صك كتابي أو صوتي.
وإن كان المشايخ ينظرون إليها -فيما نحسب -أنها من باب الاصلاح، وسد الخصومات، لكنها أصبحت عند الشباب أمرا لا يقبل النقاش، وتعلقت قلوب بعضهم بالمشايخ.
وما إن تحصل منازعات فيما بينهم وتراشق بالتهم إلا وتجدهم يفزعون إلى مشايخ معينين دون غيرهم، فلا يقبل إلا قولهم مع أن هناك من هو أعلم منهم.
ومن عجيب ما يذكر أنك لو اقترحت عليهم الشيخ العباد أو الشيخ علي ناصر فقيهي من باب الإلزام لرفضوا.

لذا كان بيان أن هذه الطريقة في التوبة ليست من السلفية في شيء، ولم يشم رائحتها السلف متعينا.
بل هذه الطريقة تجر إلى الشرك ومشاركة الله في خصائصه.
فالتوبة عبادة لا تكون إلا لله، فمن ابتغى بها غير وجه الله فقد أشرك، وجعل ذلك المخلوق ندا لله في عبادة التوبة.
وهذا لا يرضى به مسلم.
وبعض الشباب قد يتوب وهو يعلم أنه ليس مخطئا؛ إرضاء للمشايخ، وقد يتوب من أجلهم، ...

ولا يأتي أحد فيقول لي: لماذا تتكلم، وتكتب؟
لأن جوابي سيكون: حرصا على التوحيد، وسدا لذريعة الشرك, وأن يتعدى أحد على حق الله وخصائصه.

والتوبة معاشر الأحبة تقوم على أمور باطنة وظاهرة.
ولما كان الأمر كذلك كان الحكم بصحتها مبنيا على معرفة تحقق الشروط القلبية مع الشروط الأخرى؛ لأن الحكم لا يتم إلا بعد توفر الشروط وانتفاء الموانع
 والأمور القلبية لا يطلع عليها أحد إلا الله إن لم يصرح بها الإنسان.
وما انبنى على أمر غيبي كان القطع بتحققه أو عدمه باطلا إلا بوحي.
وهذا كعب بن مالك لم يحكم النبي صلى الله عليه وسلم بصحة توبته إلا بعد نزول الوحي, والصحابة لما كانوا يهنئونه  يقولون: لتهنك توبة الله عليك كما في صحيح البخاري.
ولما سلم كعب على النبي صلى الله عليه وسلم قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم:
 وهو يبرق وجهه من السرور: «أبشر بخير يوم مر عليك منذ ولدتك أمك»، قال: قلت: أمن عندك يا رسول الله، أم من عند الله؟  ))
فالتوبة لا يقطع لمعين بصحتها أو قبولها, وإنما يرجى لمن ظهر من حاله الاستقامة، وعدم العودة إلى الخطأ.
نعم, يقطع بالعموم، فيقال: من حقق شروط التوبة قبلت منه وصحت، لكن تنزيل ذلك على المعين لا يقطع به؛ لما تقدم.
وبعضهم يقيس التوبة على الصلاة في القطع بالصحة, وهو قياس مع الفارق؛ لأن شروط الصلاة ظاهرة وليست قلبية, بخلاف التوبة.
ولا يعني ذلك أن من أخطأ علنا لا يتوب علنا، بل يجب عليه أن يتوب علنا.
وإنما الشأن في القطع بصحتها أو عدم صحتها.
وقد يحكم بحسنها بناء على غلبة الظن وبالنظر إلى القرائن.

واستحسان توبة من تاب قد يكون بناء على أنه لم يظهر منه ما يخالفها
وقد يكون هو في نفس الامر فقد شرط صحة
فلا يلزم من استحسانها القطع بصحتها.


والاشكال أن تتعلق القلوب: قلب التائب، وقلب الشباب على حكم بعض المشايخ؛ بناء على التصحيح والاستحسان.
وتعلق القلب في جلب منفعة, أو دفع مضرة بغير الله شرك
فهذه الطريقة تجر إلى الشرك
فالحذر الحذر من هذه الطريقة .
ومن الضلال أن تنسب إلى السلفية .

هذا ما أردت بيانه مختصرا؛ ذبا عن السلفية وأهلها.

كتبه
أحمد محمد الصادق النجار


٢٤-١٠-١٤٣٦هـ


توضيح مهم:
التوبة لما كانت شروطها منها ما هو ظاهر ومنه ما هو باطن, أشبهت الإيمان في عدم القطع.
نعم قد يقال: إن أريد بالتوبة شروطها الظاهرة فقط فيصح أن يقطع بها باعتبار الظاهر وتعلق الأحكام الدنيوية, كما يقطع بالإسلام؛ لأنه متعلق بالظاهر.
فهذا قريب.
لكن لما تعلقت قلوب أقوام بتصحيح التوبة كان المتعين في مخاطبة هؤلاء المنع؛ سدا للذريعة.
وسد الذريعة دليل شرعي.
وهذا التصحيح للتوبة إنما كان صكا وذريعة للشرك؛ لتعلق القلوب به.
ولم أقل: صك غفران.
وقد جعله هؤلاء شرطا عرفيا لقبول التوبة عند الناس.
وأنى لمن يصحح هذه الطريقة أن يأتي بسلف له في ذلك.
فينبغي التنبه لذلك.
وأما أنه من باب الإعانة والتشجيع لصاحب التوبة فربما يقال: نعم لو لم يترتب عليه تعلق القلوب, وجعلها شرطا في القبول
ولكن لما ترتب عليه ما ترتب فالواجب المنع, وسد الذريعة.
فسد وسائل الشرك واجب شرعا, وحماية جناب التوحيد متعين.
25-10-1436



ثانيا: الردود على الشيخ محمد المدخلي


1-وقفة مع مقطع للشيخ محمد بن هادٍ عُنون له في الشبكة بـ"قد طالت غيبة إخواننا علينا"

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فقد سمعت مقطعا للشيخ محمد بن هادٍ يتكلم فيه عن أثر في تاريخ بغداد.
وهذا الأثر أخرجه البغدادي في تاريخ بغداد من طريق إسحاق بن داود السمرقندي يقول قدم قريب لي من الشاش فقال أتيت بن حنبل فجعلت أصف له بن المنذر وجعلت أمدحه فقال ابن حنبل: لا أعرف هذا, قد طالت غيبة إخواننا عنا, ولكن أين أنت عن عبد الله بن عبد الرحمن عليك بذاك السيد عليك بذاك السيد عليك بذاك السيد عبد الله بن عبد الرحمن ))
فاحتج الشيخ محمد حفظه الله بهذا الأثر على أن من غاب عن الشيخ من تلاميذه فإنه يتوقف فيهم, وإذا غاب عنك أخوك فمرت السنون الطوال ليس بينك وبينه وصل وتَمرُّ الحوادث وتتجدد الأحداث وتعصف الفتن ويأتي ويريد أن تزكيه ماذا تقول؟! أنت ما تعرفه الآن؟ ما حاله؟ لا تدري ماذا جدَّ عليه؟ فما أمامك إلا أن تقول بمثل مقالة أحمد، نعم أعرفه ولكن هذه المدة الطويلة التي بيني وبينه ما أعرف ما هو حاله فيها .
وقبل أن أبين بُعدَ هذا الفهم, وما يترتب عليه من المفاسد لابد من معرفة أن ردَّ خطأ أحد المشايخ لا يلزم منه الطعن فيه, ولا الحط من كرامته.
فليس في السلفية تقديس الأشخاص, وإنما يُعظَّم المشايخ بالقدر الشرعي, ومن تعظيمهم: تنبيه الناس عما وقعوا فيه من أخطاء؛ حتى لا يقلدهم الناس فيها.
وقد ظن بعض الناس أن بعض المشايخ فوق النقد بحيث لا يُبيَّن ما وقعوا فيه من أخطاء, وهذا لا يرضى به المشايخ أنفسهم فيما نحسبهم.
وإنما كان رد الخطأ هنا عاما؛ لكون التقرير كان عاما, وقد شاد به الكثير, وفُرِّغ, وتناقله جمع من الطلاب.
وليس في الرد على المشايخ تجرئة الناس عليهم, بل فيه تقديم الحق على الرجال, وتعويد الطلاب على ذلك, وأن المشايخ مهما بلغوا من العلم فإنهم يخطئون.
وبعد هذه المقدمة التي ما كان ينبغي لي ذِكرها؛ لكونها مقرَّرة: لولا بعض من يُوَجِّه الكلام على غير وجهه, ويدَّعي العصمة في بعض المشايخ معنى وإن كان يردها لفظا.
أبدأ في بيان ما تضمنه كلام الشيخ محمد بن هادٍ:
أولاهذا الأثر الذي بنا عليه الشيخ حكما -وإن صح قل: أصلا - من طريق إسحاق بن داود السمرقندي قال قدم لي قريب من الشاش ...
يُقدَح فيه سندا أن فيه مجاهيل, وأن هذا القريب الذي بنيت عليه هذه القصة: مجهول أيضا, فكيف يصح بناء حكمٍ على رواية مجاهيل؟!
أضف على ذلك: أنه من رواية أحمد بن حامد أبو سلمة السمرقندي
 انظر: المغني في الضعفاء للذهبي.  قال ابن طاهر المقدسي: (( كان يكذب ))
وفي لسان الميزان لابن حجر: قال الإدريسي: (( حدثنا عن أبيه يكذب ويحدث عمن لم يلحقه مات بعد الستين وثلاث مائة )).
أبعد هذا يعتمد على هذا الأثر؟!!

ثانيا: ما تضمنه الأثر مناقض لما في كتب الجرح والتعديل, ومعارض لإجماع الأئمة, كما سيأتي.
ثالثا: لما قال أحمد عن أبي المنذر، لا أعرف هذا! قد طالت غيبة إخواننا عنا. قال الشيخ محمد بن هادي: يعني ما أدري ماذا حاله الآن؟ لما طالت الغيبة وانقطعت الأخبار ما أدري ما حاله؟ قال: لا أعرف هذا! قد طالت غيبة إخواننا عنا
وهذا الفهم لكلام الإمام أحمد بعيد – مع القطع بعدم صحة الكلام أصلا عن الإمام أحمد -؛ لأن الإمام أحمد لا يعرف ابن المنذر أصلا, فهو مجهول عنده,  لا أنه عرفه ثم طالت غيبته عليه, ولهذا قال: لا أعرف هذا؟, ثم استأنف كلاما جديدا بأن إخوانه الذين يعرفهم قد طالت غيبتهم عنه من باب الاشتياق إليهم, وهم أيضا أخبر بابن المنذر؛ لأنهم أهل بلده, ثم أرشد السائل إلى من هو خبير بسمرقند.
والشيخ محمد بن هادٍ حفظه الله خرج بحكم وهو:" إذا سُئلت ببلدٍ عن تلميذ من تلاميذك ولو كان من قُدامى تلاميذك، لكن انقطعت أخباره عنك وليست بينك وبينه صلة، وعندك الأخبار عن آخر تُحيل على الآخر، أما هذا فتتوقف فيه
وهذا التوقف بناه على علة وهي: انقطاع خبره والصلة, مع أنه قد وثقه قبل الانقطاع.
ويجاب على هذا بـ:
1-أن الحكم مخالف لاتفاق المحدثين من أن الإمام إذا وَثَّق رجلا ثم غاب عنه أن توثيقه مستصحب, إلا إذا ورد عن الإمام نفسه ما ينفيه, فتكون العلة التي ذكرها الشيخ فاسدة غير معتبرة.
وهذا ما شهدت به كتب الجرح والتعديل.
2-أن العلة التي ادُّعيت وجدت في أحكام الأئمة مع تخلف التوقف عنها, فنجد الأئمة يزكون وتوجد العلة وهي الانقطاع, ومع ذلك لا ينقضون أحكامهم, فتخلف الحكم مع وجود العلة نقضٌ لها.
وبعد أن بطل ما تعلق به الشيخ سندا ومضمونا, أضيف أمرا جديدا وهواللوازم الباطلة التي تلزم من هذا التقعيد من الشيخ محمد:
أولا:  كل من وثقه العلماء فإن التزكية تبطل بالانقطاع أو يتوقف فيه, فيبطل توثيق وتزكية الأموات للأحياء, كتزكية الألباني والعثيمين للشيخ ربيع مثلا.
ثانيايلزم الشيخ أن يعمله في التجريح, فمن جرحه وانقطع عنه خبره يلزمه أن يتوقف فيه, وألا يتكلم فيه بتجريح, وهذا لازم لا يلتزمه الشيخ, وهو لازم باطل في نفسه.
ثالثاتعلق الشباب ببعض المشايخ, وكثرة تردادهم عليه؛ حتى لا تبطل التزكية, أو يتوقف فيها.
وربما يكون التعلق شركيا؛ لأجل ألا يتكلم فيهم قد يظهرون الموافقة لما يعتقدونه خطئا, وقد يخافون من المشايخ خوفا شركيا.
رابعا: إبطال قاعدة الاستصحاب, وإلغاؤها, فالأصل بقاء ما كان على ما كان, ولا نخرج عن هذا الأصل إلا بدليل, أو ظاهر يزيل الأصل, لا مجرد الاحتمالات.
أما كون الفتن تعصف وقد يتغير فهذا مجرد احتمال, لا يتعلق به حكم, وهو غير رافع للأصل.
خامسا: إلحاق المشقة الشديدة بالطلاب والمشايخ, فمن لم تكن عنده آلة الاتصال لمانع فكيف سيتصل؟, وكم سيستقبل المشايخ من الاتصالات ونحوها والطلاب كثر؟!
والشريعة ميسرة.
ومن تأمل وجد لوازم أخرى فاسدة, وفساد اللازم يدل على فساد الملزوم.
والحمد لله على كل حال.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

وكتبه
أحمد محمد الصادق النجار


6-11-1436 هـ

2-تهويل د. محمد المدخلي في إبطاله لعبارة:"غلاة التجريح"


الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد, فقد سمعت مقطعا صوتيا عُنون له بـ" القول الصريح في إبطال نبذ أهل السنة بغلاة التجريح" للدكتور محمد بن هادٍ المدخلي

حيث ذكر فيه الدكتور:" أن هناك شيئا ينبغي التنبيه عليه وذلك لحصول اللبس فيه ذلكم الأمر هو: طعن الطاعنين في علماء السنة وأهل السنة الناصحين للأمة والمحذرين لهم... بأنهم "غلاة التجريح".

والحمد لله أن جعل كذب هؤلاء صريحا مفضوحا...

وأن أهل السنة جميعا في جانب الطعن بالبدعة متفقون على هجر أهل البدع, ومباينتهم, والتحذير منهم, وهجرانهم...

واليوم يريدون بهذه المقالة الخبيثة الجائرة المجرمة التنفير من علماء السنة الناصحين للأمة من اهل البدع ..) إلى آخر كلامه.

أقول:

بدأ الدكتور محمد كلامه بالإطلاق والتهويل, وختم كلامه بذلك, وهذا خلاف التحقيق والتدقيق, بل هو غير مطابق للواقع.

وكان الواجب على الدكتور أن يقيد ويفصل, لا أن يطلق ويجمل.

والقاعدة :" يمنع الإطلاق في موضع التفصيل المحتاج إليه"

وللإطلاق مفاسد، منها: حصول اللبس، واندراج الحسن والقبيح، والمحمود والمذموم، والمحق والمبطل، والحق والباطل فيه.

قال ابن حزم رحمه الله:"والكلام إذا أُجمل اندرج فيه تحسين القبيح وتقبيح الحسن ألا ترى لو أن قائلاً قال: إن فلاناً يطأ أخته! لفحش ذلك ولاستقبحه كل سامع له حتى إذا فُسّر فقال: هي أخته في الإسلام ظهر فُحش هذا الإجمال وقبحه".
كما هو ذريعة للتشاحن والتخاصم، والعداوة، وهذه محرمة فيكون ما يؤدي إليها كذلك.

ولله در شيخ الإسلام القائل:( ... حتى تجد الرجلين يتخاصمان ويتعاديان على إطلاق ألفاظ ونفيها، ولو سئل كل منهما عن معنى ما قاله لم يتصوره فضلا عن أن يعرف دليله ولو عرف دليله لم يلزم أن من خالفه يكون مخطئا بل يكون قوله نوع من الصواب وقد يكون هذا مصيبا من وجه وهذا مصيبا من وجه وقد يكون الصواب في قول ثالث")

والدكتور محمد لم ينصف ويدقق؛ لإطلاقه.

والذي يستدعيه المقام هو: التفصيل, وإعطاء كل صورة حقها وحكمها.

ولذا رأيت أن أبين حكم العبارة - وهي:"غلاة التجريح" – وإطلاقها.

خصوصا بعد انتشار كلامه بين من لا يفرق بين الصواب والخطأ.

والتحقيق في هذا المقام هو: التفصيل، وهو على النحو الآتي:

أولا: عبارة "غلاة التجريح" في ذاتها

الغلو بمعنى: مجاوزة الحد، وهو لفظ جاء به الشرع.

قال تعالى: يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم

وأصلها: غلا.

وهنا قد أضيف إلى التجريح فيكون معناه: مجاوزة الحد في التجريح

وهذه العبارة في نفسها بغض النظر عمن أضيفت إليه من الأشخاص يصح إطلاقها من وجه, ويمنع إطلاقها من وجه آخر؛ فيصح إطلاقها على من جاوز الحد في التجريح, فبدأ يجرح بما ليس بمجرح, أو يهجر مطلقا من غير نظر لتحقق المصلحة الراجحة, ودرء المفسدة الراجحة.

ويمنع إطلاقها فيمن جرح بحق وعدل, وبدع من يستحق التبديع وفق الضوابط المرعية عند أهل السنة والجماعة.

ثانيا: الواصفون غيرهم بـ" غلاة التجريح"

الواصفون غيرهم بـ غلاة التجريح" لا يخرجون من أحوال:

الحال الأولى: أن يطلقها الواصف على جميع علماء السنة بلا استثناء, فهذا لا يصدر إلا عمن ليس من أهل السنة, ومن كان في قلبه ضغينة عليهم.

الحال الثانية: أن يطلقها على بعض أهل السنة ممن يجرح بحق وعدل, مع مراعاة المصالح والمفاسد, فهذا ظالم لهم, متجنٍّ عليهم, يستحق العقوبة إذا توفرت فيه الشروط.

الحال الثالثة: أن يطلقها على بعض أهل السنة ممن جرح بغير حق, وظلم واعتدى على حقوق الناس, فهذا محق ولا تثريب عليه.

ولا يصح أن تؤخذ آثار السلف التي فيها التحذير من أهل البدع وهجرانهم فيحاجَج بها بإطلاق من قال:"غلاة التجريح"، كما فعل الدكتور محمد المدخلي.

فهذا من الظلم, والتجني, وعدم تحقيق المناط.

ومن لم يحقق المناط فلا يمكنه تنزيل الأحكام الشرعية

قال ابن تيمية:( فإن الحكم معلق بوصف يحتاج في الحكم على المعين إلى أن يعلم ثبوت ذلك الوصف فيه)

والسلف يتكلمون عن المبتدع حقيقة، لا على من ظُنَّ انه مبتدع وهو ليس كذلك.

فاختلف المحل، وباختلاف المحل يختلف الحكم.

كتبه



د. أحمد محمد الصادق النجار


3-وقفة أخرى مع صكوك التوبة.

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فلا يزال موضوع صكوك التوبة حديث الساعة عند القوم, وقد كثرت ردودهم فيه علي, وتعددت طعوناتهم, وتنوع سبهم, والله المستعان.
و لما رأوا أن تلك الردود لم تُجْدِ, وتحققوا من ضعفها -فيما يبدو-, لجؤوا إلى الشيخ محمد بن هادٍ المدخلي سدده الله لعله يأتيهم بكلامٍ فصلٍ, ويثبت سلفا للشيخين والشباب في الطريقة التي انتقدتُها, وجعلتها ذريعة إلى الشرك.
وقد وجهوا هذا السؤال:" السؤال الرابع :
انتقد بعض المتكلمين تعليقاً لبعض المشايخ السلفيين كتبوه على بيان أصدره أحد طلبة العلم يبين فيه توبته وتراجعه وذكروا فيه أنه قد أحسن وصحت توبته، بعد أن كانوا حذروا منه لزلات ومخالفات صدرت منه.
فمما قاله المنتقدون: كان يكفي أن يتوب بينه وبين ربه، ولا يحتاج لصكوك غفران!
وقال آخر: بأن هذا ليس من السلفية في شيء، بل إن فعلهم يجر إلى الشرك بالله وذريعةٌ له!فما توجيهكم حفظكم الله؟" 
فقال الشيخ محمد بن هادٍ المدخلي في اللقاء الذي عنون له بالثبات على السنة مجيبا:" هؤلاء جهلة جهلا مركبا, هؤلاء لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون, وإلا مواقف أهل السنة طافحة بها الكتب في هذا الباب
وما توبة ابن عقيل عنا ببعيد, توبة ابن عقيل التي حضرها جمع غفير وشهدوا عليها وذكرها العلماء في كتبهم... وكتب فلان وفلان ممن حضروا هذه التوبة التي كانت في جامع المنصور فتوبوه وتاب ...
وبعد ذلك قال العلماء: فصحت توبته
سبحان الله كيف يغفل هؤلاء, أو يتغافل هؤلاء؟
هذا أمر معروف معلوم مشهور, وفي الكتب مزبور ..
وأنا أحيل هؤلاء المتعالمين القائلين بهذه المقالة التي تشهد عليهم بجهلهم المركب أن يرجعوا إلى توبة ابن عقيل ...
وكل من ترجم  له يذكر أنه تاب فصحت توبته, فهل هذه صكوك غفران؟ ...
السلف رحمهم الله يكتبون ذلك ويوقعون عليه ويشهدون به ومن خالف هذه الطريق وأنكرها فهو الذي يكون مخالفا لطريقة السلف ... "
أقول مجيبا على ما تضمنه الجواب:
بادئ ذي بدء لولا ما تتضمنه الردود من جلاءٍ للمسألة وإيضاحها, ودخولٍ في عللها ومقاصدها لما جاريتهم, ولاكتفيتُ بتقرير الحق من غير دخولٍ معهم في الرد, مع العلم أنه ليس كل من تكلم  يستحق أن يُردَّ عليه, وإنما يُردُّ على من كانت له مكانة ومنزلة مما قد يغتر بكلامه إذا انتشر.
- نقد ما تضمنه الجواب:
لقد ابتدأ د. محمد المدخلي سدده الله جوابه بـ" هؤلاء جهلة جهلا مركبا, هؤلاء لا يدرون ولا يدرون أنهم لا يدرون ..."
وهذا مما لا ينبغي أن يصدر من الشيخ, فالوصف بالجهل المركب يكون بناء على معرفةٍ بالكلام على وجهه, ومعرفةٍ بالقائل, لو سُلِّم أنه ردٌّ علميٌّ.
وما ذُكر في السؤال لا يُجَلِّي الصورة التي انتقدها المنتقِد.
وكان الواجب على الشيخ أن يتصور كلام المنتقد تصورا واضحا, ويقف على حيثياته؛ حتى لا يقع في الظلم والبغي.
والحكم إن لم يكن مطابقا للواقع فإنه يكون كذبا في نفسه.
والذي ينبغي في الرد بعد التصور الصحيح: أن يكون ردا علميا تتوفر فيه أركانه، لا الرمي بالجهل.
ثم إن الرمي بالجهل المركب هو من باب الطعن والسب الذي ينبغي أن يترفع عنه الشيخ.
والشيخ سدده الله لم يتصور الصورة المنتقَدة, ولذلك كان جوابه خارجا عن محل النزاع.
 وتحرير محل النزاع والوقوف على الصورة المنتقدة والكلام عليها هو الذي يُجلِّي المسألة ويوضحها, لا الكلام على صورة أخرى, ثم يُرمى القائل بالجهل المركب, فهذا ليس من العدل في شيء.
ولتحرير محل النزاع فائدة, وهي: معرفة ما إذا كان الخلاف معنويا أو لفظيا.
وعدم تحرير النزاع خطأ, قال الشاطبي في الموافقات: (( فإن نقل الخلاف في مسألة لا خلاف فيها في الحقيقة خطأ، كما أن نقل الوفاق في موضع الخلاف لا يصح ))
أضف إلى ذلك: أن كلام الشيخ محمد سدده الله اشتمل على دعاوى لم يُقِم عليها بينة, كما سيأتي.
وسأتجاوز الرمي بالجهل والتعالم إلى البحث فيما يفيد.
قول الشيخ:" مواقف أهل السنة طافحة بها الكتب في هذا الباب"
ويعني بذلك الصورة التي ذُكِرت في السؤال وهي:" على بيان أصدره أحد طلبة العلم يبين فيه توبته وتراجعه وذكروا فيه أنه قد أحسن وصحت توبته، بعد أن كانوا حذروا منه لزلات ومخالفات صدرت منه "
أقول: أنا أطالب الشيخ وغيره ممن رد ويرد علي أن يأتي بسلفٍ واحدٍ من الأئمة فَعَلَ هذه الصورة, وهي: أن يكتب المخطئ توبة ثم يكتب المشايخ عليها بأنها قد صحت, ويوقع على ذلك.
فكيف اذا كانوا مشايخ معينين؟! وكيف إذا تعلقت القلوب بالتصحيح؟!!
ولا أتكلم عن صورة أخرى, وهي:أن المخطئ قد يكتب تراجعا ويُشهِد المشايخ على أنه تراجع ويوقعوا عليه من غير قطع بأن توبته قد صحت, ومن غير إلزام له بالتوبة عند المشايخ.
وإلى الآن كل من كتب وردَّ لم يأت بسلفٍ واحدٍ من الأئمة فعل هذه  الطريقة التي أنكرتُها, وغاية ما يذكرونه إما الصورة غير المنتقدة, أو فتوى قُيِّدت بتحقق الشروط التي أكثرها قلبية.
وأما الشيخ محمد بن هادٍ مع دعواه أن هذا أمر معروف لم يذكر إلا توبة ابن عقيل, لما قال:" توبة ابن عقيل التي حضرها جمع غفير وشهدوا عليها وذكرها العلماء في كتبهم... وكتب فلان وفلان ممن حضروا هذه التوبة التي كانت في جامع المنصور فتوبوه وتاب ...
وبعد ذلك قال العلماء: فصحت توبته".
اقول: كي تتضح أن الصورة التي ذُكرت في توبة ابن عقيل مخالفة للصورة التي انتقدتُها أذكر تفاصيل توبة ابن عقيل: 
قال ابن رجب في ذيل طبقات الحنابلة: (( ففي سنة إحدى وستين اطلعوا له على كتب فيها شيء من تعظيم المعتزلة، والترحُّم على الحلاَّج وغير ذلك. ووقف على ذلك الشريف أبو جعفر وغيره، فاشتد ذلك عليهم، وطلبوا أذاه، فاختفى. ثم التجأ إلى دار السلطان، ولم يزل أمره في تخبيط إلى سنة خمس وستين، فحضر في أولها إلى الديوان، ومعه جماعة من الأصحاب، فاصطلحوا ولم يحضر الشريف أبو جعفر لأنه كان عاتبًا على ولاة الأمر بسبب إنكار منكر قد سبق ذكره في ترجمته.
فمضى ابن عقيل إلى بيت الشريف وصالحه وكتب خَطّه: يقول علي بن عقيل بن محمد: إني أبرأ إلى الله تعالى من مذاهب مبتدعة الاعتزال وغيره، ومن صحبة أربابه، وتعظيم أصحابه، والترحم على أسلافهم، والتكثر بأخلاقهم. وما كنت علّقته، ووُجد بخَطّي من مذاهبهم وضلالتهم فأنا تائب إلى الله تعالى من كتابته. ولا تَحل كتابته، ولا قراءته، ولا اعتقاده.
وإنني علقت مسألة في جملة ذلك. وإن قوماً قالوا: هو أجساد سود.
وقلت: الصحيح: ما سمعته من الشيخ أبي عليّ، وأنه قال: هو عَدمٌ ولا يسمى جسماً، ولا شيئًا أصلاً. واعتقدتُ أنا ذلك. وأنا تائب إلى الله تعالى منهم.
واعتقدتُ في الحلاج أنه من أهل الذَين والزُّهد والكرامات. ونصرتُ ذلك في جزء عملته. وأنا تَائب إلى الله تعالى منه، وأنه قتل بإجماع علماء عصره، وأصابوا في ذلك، وأخطأ هو. ومع ذلك فإني أستغفر اللّه تعالى، وأتوب إليه من مخالطة المعتزلة، والمبتدعة، وغير ذلك، والترحم عليهم، والتعظيم لهم فإن ذلك كله حرام. ولا يحل لمسلم فعله لقول النبي صلى الله عليه وسلم: " من عظَّم صاحب بدعة فقد أعان على هَدْمِ الإسلام " .
وقد كان الشريف أبو جعفر، ومن كان مَعه من الشيوخ، والأتباع، سادتي وإخواني - حرسهم الله تعالى - مصيبين في الإنكار عليَّ لما شاهدوه بخالي من الكتب التي أبرأ إلى الله تعالى منها، وأتحققُ أني كنتُ مخطئًا غير مصيب.
ومتى حفظ عليَّ ما ينافي هذا الخط وهذا الإقرار: فلإمام المسلمين مكافأتي على ذلك. وأشهدت الله وملائكته وأولي العلم، على ذلك غير مجبر، ولا مكرَه وباطني وظاهري - يعلم الله تعالى - في ذلك سواء. قال تعالى: " وَمنْ عَادَ فَيَنتقِمُ اللّهُ مِنْهُ، وَاللّهُ عَزِيز ذُو انْتِقَام " المائدة: 199.
وكتب يوم الأربعاء عاشر محرم سنة خمس وستين وأربعمائة.
وكانت كتابته قبل حضوره الديوان بيوم، فلما حضَر شَهِدَ عليه جماعة كثيرة من الشهود والعلماء. ))
أقول: الذي فعله ابن عقيل لما اشتد نكير العلماء عليه أنه ذهب إلى الشريف, وبين تراجعه من غير إجبار – كما نص هو على ذلك – وأشهد الشهود, وهذا لا إشكال فيه؛ لأنه لم يُلزَم, ولكي يُبْعِد الأذى عن نفسه.
 فلم يُضَف شرطٌ جديدٌ في التوبة.
ولو أن ابن عقيل كتب كتابا نشر فيه تراجعه, وفنَّد الباطل الذي كان يقول به من غير أن يذهب إلى الشريف لقَبِل منه العلماء, ولم يُلزموه بالذهاب إلى الشريف.
ولو تأملنا في القصة؛ لوجدنا أن ابن عقيل طُلب أذاه, واشتد نكير الشريف عليه, فدفعا لهذا: ذهب إلى الشريف لما تغيب عن مجلس السلطان.
بل أرادوا قتله, كما في " تاريخ ابن الأثير " فيما ذكره الذهبي في السير  قال: كان قد اشتغل بمذهب المعتزلة في حداثته على ابن الوليد، فأراد الحنابلة قتله، فاستجار بباب المراتب عدة سنين، ثم أظهر التوبة "
وفي شذرات الذهب قال ابن عقيل:" فأوذيت من أصحابي حتى طلب الدم"
ولا شك أن هذه أمور مؤثرة في تصور التوبة التي حصلت من ابن عقيل, فينبغي ألا يُلقَى الكلام على عواهنه من غير نظرٍ لبساط الحال.
قول الشيخ محمد:" وكل من ترجم  له يذكر أنه تاب فصحت توبته, فهل هذه صكوك غفران؟ ..."
أقول: لم أقف على من نص على تصحيح التوبة إلا ابن حجر, مع أن الشيخ يقول: إنه قول كل من ترجم له, وكل تفيد العموم.
قال ابن حجر في لسان الميزان:" وهذا الرجل من كبار الأئمة, نعم كان معتزليا, ثم اشهد على نفسه أنه تاب عن ذلك, وصحت توبته"
أقول: تصحيح ابن حجر الذي تفرد به ليست فيه الصورة التي انتقدتُهافهو لم يكتب على تراجع ابن عقيل أنه قد صحت توبته, ولم يشهد ذلك, ولم تتعلق القلوب بتصحيح ابن حجر, كما حصل في طريقة الشيخين: عبيد الجابري وعبد الله البخاري مع أبي الفضل.
وهذه الفروق مؤثرة.
ولا يصح الاستدلال بابن حجر الا اذا شهد مجلس استتابة ابن عقيل ووقع بأنه قد صحت توبته
او تابع من نص على انه صحت توبته.
وكل ذلك غير واقع, فلا تكون فيه حجة على مسألتنا.
قول الشيخ محمد المدخلي:" السلف رحمهم الله يكتبون ذلك ويوقعون عليه ويشهدون به ومن خالف هذه الطريق وأنكرها فهو الذي يكون مخالفا لطريقة السلف"
أقول: الشيخ لا يزال يتكلم عن الصورة التي لم أنتقدها, وهي الكتابة والإشهاد من غير إلزام وتصحيح, ومع ذلك فإنه ليس كل من أخطأ عامله الأئمة بهذه المعاملة, فكم من تائب نشر كلامه من غير أن يحضر عند أحد, أو يُشهِد أحدا, وهذا ينبغي التنبه له.
ثم قول الشيخ:" السلف"وهم القرون الثلاثة: قد يفهم منه انها صورة مشتهرة عندهم.
وهنا أوورد أسئلة أتمنى أن يجاب عليها:
هل فعل ذلك الصحابة؟ ولو سلمنا جدلا أنهم فعلوه فهل هو مشتهر عندهم؟!!
هل فعل ذلك التابعون؟ ولو سلمنا جدلا أنهم فعلوه فهل هو مشتهر عندهم؟!!
هل فعل ذلك تابعو التابعين؟ولو سلمنا جدلا أنهم فعلوه فهل هو مشتهر عندهم؟!!
هذا كله يحتاج الى اقامة البينة عليه.
ثم كيف يكون المنكر مخالقا لطريقة السلف لأمر لم يفعله السلف ( القرون الثلاثة)؟!
وأنا أتكلم عن الطريقة غير المنتقدة، فكيف بالطريفة المنتقدة؟!!. 
وأخيرا: هذا ما أردت بيانه مختصرا على ما نُشِر من إجابة الشيخ محمد بن هادٍ المدخلي, فأسأل الله أن ينفع بما ذكرتُ, ويجعله خالصا لوجهه الكريم.

وكتبه:
د. أحمد محمد الصادق النجار


4-وقفة مع مقطع نشر بتاريخ 2016/04/07 عنون له بـ: العلامة محمد بن هادي "شبهة الإحتجاج بقصة البخاري مع شيخه الذهلي و قياسها على المبتدع والرد عليها"


الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فقد سألني بعض الإخوة عن رأيي في هذا المقطع الذي نُشِر في موقع سحاب, ففرغت شيئا من وقتي لسماعه, فرأيت فيه عجائب, وإطلاقات لا يسع السكوت عنها؛ لوجود من سيغتر بها من أهل الجهل.
وقبل التعليق على المقطع: أنبه إلى أن إطلاق العالم والعلامة مضبوط بضوابط عند العلماء, ولا يصح إطلاقهما على كل شيخ من مشايخ أهل السنة, وإنما العبرة بانطباق الوصف الذي علقت عليه هذه الألقاب.
والواجب إنزال الناس منازلهم, ولا يقودنا التعصب إلى المبالغة في الثناء والمدح.

والشيخ سليمان الرحيلي لما وصف الشيخ محمد المدخلي قال فيه: ((من طلاب العلم الجبال... ))  في مقطع في اليوتيوب معنون له بـ:" سؤال الشيخ سليمان الرحيلي عن الشيخ إبراهم الرحيلي"


وأما المقطع فقد تضمن سؤالا وُجِّه إلى الشيخ, وإجابة من الشيخ عليه.
السؤال : بعض الناس يحتج بقصة الذهبي مع البخاري ونفور الطلاب عن البخاري بما يحصل اليوم من تحذير بعض العلماء من بعض الدعاة ونفور الطلاب من هؤلاء الدعاة... فما نصيحتكم
هذا ملخص السؤال.
ثم أجاب الشيخ بما ينافي التحقيق في العلم, والتروي.
وسأبين شيئا من أخطاء الشيخ في الجواب؛ لعل الشيخ أن يتنبه, ويتراجع عما أخطأ فيه وأطلق.
أولا: قوله:( هذا السؤال تضمن ثلاث نقاط: الاولى قصة الذهلي مع البخاري ، والذي عليه العلماء ان الذهلي محق والبخاري محق ، هذه واحدة ).
والجواب عن هذا:
قوله "الذي عليه العلماء" هذه الاطلاقات والتهويلات تعددت في كلام الشيخ وأشرطته, وهي ليست من التحقيق في شيء, وتجر إلى الظلم, والتعدي, والافتراء.
وهذا الإطلاق يفيد أن جميع علماء أهل السنة ذكروا أنه الذهلي محق وأن البخاري محق.
وإذا جئنا إلى التحقيق وجدنا أن جماعة من العلماء غلطوا الذهلي في قوله, وفي إنكاره.
أولا: تخطئته في إنكاره على البخاري.
قد ذكر بعض العلماء أن الذي حمله على ذلك الحسد.
جاء في سير أعلام النبلاء (12/ 453): قال الحاكم أبو عبد الله: سمعت محمد بن حامد البزاز قال: سمعت الحسن بن محمد بن جابر يقول: سمعت محمد بن يحيى قال لنا لما ورد محمد بن إسماعيل البخاري نيسابور: اذهبوا إلى هذا الرجل الصالح فاسمعوا منه.
فذهب الناس إليه، وأقبلوا على السماع منه، حتى ظهر الخلل في مجلس محمد بن يحيى، فحسده بعد ذلك، وتكلم فيه ))
وقال أبو أحمد بن عدي
ذكر لي جماعة من المشايخ أن محمد بن إسماعيل لما ورد نيسابور اجتمع الناس عليه، حسده بعض من كان في ذلك الوقت من مشايخ نيسابور لما رأوا إقبال الناس إليه، واجتماعهم عليه، فقال لأصحاب الحديث: إن محمد بن إسماعيل يقول: اللفظ بالقرآن مخلوق،
فامتحنوه في المجلس.
فلما حضر الناس مجلس البخاري، قام إليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله، ما تقول في اللفظ بالقرآن، مخلوق هو أم غير مخلوق ؟ فأعرض عنه البخاري ولم يجبه.
فقال الرجل: يا أبا عبد الله، فأعاد عليه القول، فأعرض عنه.
ثم قال في الثالثة، فالتفت إليه البخاري، وقال: القرآن كلام الله غير مخلوق، وأفعال العباد مخلوقة والامتحان بدعة.
فشغب الرجل، وشغب الناس، وتفرقوا عنه.
وقعد البخاري في منزله ))
ثانيا: تخطئته فيما نسبه الذهلي إلى البخاري, وتخطئة الذهلي في قوله المنسوب إليه.
الإمام البخاري برئ مما نسبه إليه الذهلي, وهو قول:"لفظي بالقرآن مخلوق".
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12/ 364): (( وكذلك أيضا افترى بعض الناس على البخاري الإمام صاحب " الصحيح " أنه كان يقول : لفظي بالقرآن مخلوق وجعلوه من " اللفظية " حتى وقع بينه وبين أصحابه : مثل محمد بن يحيى الذهلي وأبي زرعة وأبي حاتم وغيرهم بسبب ذلك وكان في القضية أهواء وظنون حتى صنف " كتاب خلق الأفعال " ))
وقال الذهبي في سير أعلام النبلاء (12/ 457): (( قلت: المسألة هي أن اللفظ مخلوق، سئل عنها البخاري، فوقف فيها، فلما وقف واحتج بأن أفعالنا مخلوقة، واستدل لذلك، فهم منه الذهلي أنه يوجه مسألة اللفظ، فتكلم فيه، وأخذه بلازم قوله هو وغيره )).

وهنا سؤال: أوجهه للشيخ محمد المدخلي: ما هو قول الذهلي في هذه المسألة؟
الذي نسب إلى الذهلي هو:"لفظي بالقرآن غير مخلوق"
قال شيخ الإسلام ابن تيمية في مجموع الفتاوى (12/ 207): (( والقول بأن " اللفظ غير مخلوق " نسب إلى محمد بن يحيى الذهلي وأبي حاتم الرازي ..))
وهذا القول قال عنه الطبري في صريح السنة للطبري (26): (( سمعت جماعة من أصحابنا لا أحفظ أسماءهم يذكرون عنه –أي: الإمام أحمد - أنه كان يقول: " من قال: لفظي بالقرآن مخلوق، فهو جهمي، ومن قال: هو غير مخلوق، فهو مبتدع ")).
فكيف تطلق القول بأن العلماء قالوا: إنه محق؟!!
لابد من التحقيق والتريث.
ومسألة اللفظ فيها تفصيل, ليس هذا محل ذكره.
وهناك كلام نفيس لابن تيمية في بيان مقصود الإمام أحمد, ومقصود الإمام البخاري.
وقد نصر ابن القيم في مختصر الصواعق قول الإمام البخاري.

ثانيا: قول الشيخ محمد المدخلي: (( وآخر يأتيك ويقول النووي ما هو اشعري وهو من اهل السنة وينكر على من يقول عنه انه اشعري ، ويرميه (بالعظايم) والنووي اهل مذهبه شهدوا عليه بهذا ، السبكي يقول عنه اشعري ، والسخاوي في ترجمته للنووي يقول عنه اشعري ، والذهبي ايضا يقول عنه انه متعصب ؛ يبدّع اهل السنة الذي يخالفونه ، وعلماء السنة كلهم يذكرون هذا ويحذرون من اشعريته ، فأصبح اليوم عندنا إرضاء لبعض الناس ايش ؟ النووي من اهل السنة ، سبحان الله ، أقوال العلماء المعاصرين فيه تدل على اشعريته ))
والجواب: هذا أيضا من إطلاقات الشيخ وتهويلاته, ولست الآن في مقام تحقيق أشعرية النووي وعدم رجوعه إلى السنة, أو تحقيق عدم أشعريته ورجوعه إلى السنة, وإنما سأنقل بعض كلام العلماء الذين يرون أنه من أهل السنة؛ لنقض إطلاقات الشيخ المدخلي.
قال الشيخ العثيمين: (( فالنووي: لا نشك أن الرجل ناصح، وأن له قدم صدق في الإسلام، ويدل لذلك قبول مؤلفاته حتى إنك لا تجد مسجداً من مساجد المسلمين إلا ويقرأ فيه كتاب (رياض الصالحين)
وهذا يدل على القبول، ولا شك أنه ناصح، ولكنه - رحمه الله - أخطأ في تأويل آيات الصفات حيث سلك فيها مسلك المؤولة، فهل نقول: إن الرجل مبتدع؟
نقول: قوله بدعة لكن هو غير مبتدع، لأنه في الحقيقة متأول، والمتأول إذا أخطأ مع اجتهاده فله أجر، فكيف نصفه بأنه مبتدع وننفر الناس منه، والقول غير القائل، فقد يقول الإنسان كلمة الكفر ولا يكفر )). شرح الأربعين النووية (ص: 288)

     وسئل الشيخ عبد المحسن العباد : هل ابن حجر والنووي وأمثالهما من الأئمة يعدون من أئمة أهل السنة والجماعة؟ 

فأجاب: لاشك أنهم من أئمة أهل السنة والجماعة, وأخطاؤهم التي حصلت مغمورة في جنب صوابهم الكثير ...)) موجود المقطع على اليوتيوب بصوته. 
وسئل الشيخ صالح الفوزان ما نصيحتكم:  لمن يبدع الإمامين ابن حجر والنووي؟ فأجاب: (هذا هو المبتدع, أما الإمام ابن حجر والامام النووي إمامان جليلان ...))

ثالثا: قول الشيخ محمد المدخلي: ((واللي يوصيك ان تأخذ العلم عمن لم يبدع الجهم هذا يكون من قبيله ؟ الجهم بن صفوان أجمعت الامة على كفره اذا لم يبدعه انسان اي خير فيه ؟ نفسه لم تطب بالتبديع للجهم الذي كفره العلماء فاذا كانت نفسه لم تطب بالتبديع هذا يؤخذ عنه العلم ؟ (ما الذي ينطوي عليه هذا) السلف يقولون من لم يكفر الجهم فهو كافر ، وهذا نفسه ما طابت بتبديعه وانت تجي تحث الناس على اخذ العلم عنه ؟ ))
والجواب: أن الشيخ محمد يشير هنا إلى الشيخ إبراهيم الرحيلي حفظه الله في مسألة أخذ العلم عمن لم يبدع الجهم, وقد بين الشيخ إبراهيم مراده في كتابه: تأصيل المسائل المستشكلة من جواب السائل", فليرجع إليه.
وأترك الفصل بين الشيخين للقضاء الشرعي في المملكة العربية السعودية.

وأشير إلى أن مسألة الإلزام بالتبديع قد فصلت فيها القول في مقال مستقل, فمن أراد التفصيل فيها فليرجع إليه في مدونتي.

هذا بعض ما أردت بيانه.
وأخيرا: أعيد ما كنت ذكرته سابقا في ردي المعنون له:" موافقة الشيخ عبيد الجابري للأشاعرة في أن صفتي السمع والبصر ذاتيتان"
(وأقول نصحا للأمة: تفاصيل ودقائق باب الاعتقاد لا تؤخذ من هؤلاء المشايخ إلا إذا تابعوا أحدا من أهل العلم؛ للأخطاء التي عندهم في تفاصيل باب الاعتقاد.
وهذا ليس طعنا فيهم, فالعلم أرزاق, ولا يلزم أن يكون الشيخ محيطا بتفاصيل كل علم.)

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم


كتبه

د. أحمد محمد الصادق النجار


ثالثا: الردود على الشيخ عبد الله البخاري



1-بيان خطأ د. عبد الله البخاري في نفيه علم الملائكة بما في قلوب العباد قبل العمل.


الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن الأخطاء في باب العقيدة أخطاء عظيمة لا يسوغ السكوت عنها؛ لعظم باب الاعتقاد, وعظم المخالفة فيه.
ولذا كان من الواجب بيان خطأ من أخطأ فيه كائنا من كان؛ انتصارا للحق, وذبا عن العقيدة, من غير أن يلزم من ذلك أن يكون كل مخطئ في العقيدة مبتدع إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع؛ وذلك فيما إذا كانت المسألة أصلا من أصول أهل السنة, على ما فصلت في ذلك في كتابي:"تبصير الخلف بضابط الأصول التي من خالفها خرج عن منهج السلف".
وقد سمعت مقطعا للدكتور عبد الله بن عبد الرحيم البخاري ينفي فيه كتابة الملائكة لما في قلوب العباد, وخلط بين هذه المسألة ومسألة عدم علم الملائكة بالغيب المطلق, فظن الشيخ أنهما مسألة واحدة, وليس الأمر كما ظن؛ للفرق المؤثر بين المسألتين.
ومما قاله الدكتور البخاري في التسجيل لما سئل هل الملائكة ستعلم أعمال القلوب من حسد وغل وإخلاص: ( لا يمكن إطلاق هذا؛ لأن هذا أمر مخصوص بالله؛ لقوله جل وعلا: [يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور]
...فيعلمون  مما علمهم الله ويسر لهم معرفته
فلا يعلمون إلا ما علمهم الله
[يعلمون ما تفعلون] والفعل لا يكون مما حدثت به النفس, كما في الحديث الصحيح ما لم تقل أو تعمل 
...أما ما حدثت به النفس فهذا من اختصاص الله, ولا يمكن أن يعلموا إلا ما علمهم الله إياه
ولا يمكن أن يكون إلا بعد أن يصدر من العبد, وإلا فهذا من علم الغيب ... )

والرد المختصر من وجوه:
الوجه الأول: لا نسلم أن الملائكة لا يعلمون ما في قلوب العباد قبل العمل, وأن ذلك من علم الغيب المخصوص بالله.
والشيخ لم يقم الدليل على أن ذلك من الغيب المخصوص, فيكون قوله عاريا عن الدليل.
الوجه الثاني: على التسليم بأنه غيب, إلا أنه غيب نسبي, لا غيب مطلق.
ولا يلزم من كونه غيبا على الإنسان أن يكون غيبا على غيره كالملائكة؛ لاختلاف الحقائق, وما أقدر الله كل جنس, فليس كل ما يكون غيبا على الإنسان يكون غيبا على غيره.
والغيب الذي لا يعلمه إلا الله هو الغيب المطلق على الخلق كلهم, لا النسبي.
وهو الذي قال الله فيه[قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله] والاستثناء هنا متصل لا منقطع.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (16/ 110): (( والغيب المقيد: ما علمه بعض المخلوقات من الملائكة أو الجن أو الإنس وشهدوه, فإنما هو غيب عمن غاب عنه ليس هو غيبا عمن شهده .
 والناس كلهم قد يغيب عن هذا ما يشهده هذا, فيكون غيبا مقيدا, أي: غيبا عمن غاب عنه من المخلوقين, لا عمن شهده ليس غيبا مطلقا غاب عن المخلوقين قاطبة ))
الوجه الثالث: النقض؛ وذلك أن قول الدكتور البخاري يحتمل ما يأتي:
1-                      ما سكن في القلب وكان عملا من أعماله, كالحب, والبغض, والحسد, والعجب.
2-                       ما سكن في القلب وكان عملا من أعمال الجوارح.  
3-                      ما خطر على القلب من غير أن يساكنه, ويعقد عليه قلبه, كالوساوس.
فأما الاحتمال الأول والثاني؛ فمنقوضان بكتابة الملك لما هم به الإنسان, فعن ابن عباس رضي الله عنهما عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إن الله كتب الحسنات والسيئات ثم بين ذلك، فمن هم بحسنة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله عز وجل عنده عشر حسنات إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف كثيرة، وإن هم بسيئة فلم يعملها كتبها الله عنده حسنة كاملة، وإن هم بها فعملها كتبها الله سيئة واحدة»  رواه البخاري ومسلم.
فالملك يطلع على ما في قلب العبد.
يدل عليه أيضا: ما جاء عن أبي هريرة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: قالت الملائكة: رب ذاك عبدك يريد أن يعمل سيئة وهو أبصر به, فقال: أرقبوه, فإن عملها فاكتبوها )) أخرجه مسلم
وهذا نصٌّ في الباب.
قال أبو جعفر الطحاوي: (( في هذه الأحاديث دليل على أن الحفظة يكتبون أعمال القلوب وعقدها, خلافا لمن قال: إنها لا تكتب إلا الأعمال الظاهرة )) شرح النووي على مسلم (2/ 152)
وأما الاحتمال الثالث؛ فمنقوض بقوله تعالى: [ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد ]
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (5/ 235): (( فإنه سبحانه هو وملائكته يعلمون ما توسوس به نفس العبد, كما ثبت في الصحيحين : { إذا هم العبد بحسنة فلم يعملها قال الله لملائكته : اكتبوها له حسنة فإن عملها قال : اكتبوها له عشر حسنات وإذا هم بسيئة }إلى آخر الحديث .
فالملائكة يعلمون ما يهم به من حسنة وسيئة و " الهم " إنما يكون في النفس قبل العمل ))
ومنقوض أيضا: ما جاء عن ابن مسعود: (( إن للملك لمة، وإن للشيطان لمة، فلمة الملك إيعاد بالخير وتصديق بالحق، فمن وجدها فليحمد الله، ولمة الشيطان إيعاد بالشر، وتكذيب بالحق، فمن وجدها فليستعذ بالله )) أخرجه أبو داوود في الزهد.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (4/ 253) جوابا على سؤال:" عن قوله صلى الله عليه وسلم { إذا هم العبد بالحسنة فلم يعملها كتبت له حسنة } الحديث . فإذا كان الهم سرا بين العبد وبين ربه فكيف تطلع الملائكة عليه ؟  " : (( قد روي عن سفيان بن عيينة في جواب هذه المسألة قال : { إنه إذا هم بحسنة شم الملك رائحة طيبة وإذا هم بسيئة شم رائحة خبيثة} .
والتحقيق : أن الله قادر أن يعلم الملائكة بما في نفس العبد كيف شاء, كما هو قادر على أن يطلع بعض البشر على ما في الإنسان .
فإذا كان بعض البشر قد يجعل الله له من الكشف ما يعلم به أحيانا ما في قلب الإنسان : فالملك الموكل بالعبد أولى بأن يعرفه الله ذلك .
وقد قيل في قوله تعالى { ونحن أقرب إليه من حبل الوريد } أن المراد به الملائكة : والله قد جعل الملائكة تلقي في نفس العبد الخواطر، كما قال عبد الله ابن مسعود: إن للملك لمة فلمة الملك تصديق بالحق ووعد بالخير، ولمة الشيطان تكذيب بالحق وإبعاد بالشر. وقد ثبت عنه في الصحيح: أنه قال: {ما منكم من أحد إلا وقد وكل به قرينه من الملائكة وقرينه من الجن قالوا: وإياك يا رسول الله ؟ قال: وأنا، إلا أن الله قد أعانني عليه فلا يأمرني إلا بخير}.
فالسيئة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الشيطان علم بها الشيطان، والحسنة التي يهم بها العبد إذا كانت من إلقاء الملك علم بها الملك أيضا بطريق الأولى، وإذا علم بها هذا الملك أمكن علم الملائكة الحفظة لأعمال بني آدم ))
فما تقدم تخلف فيه عدم علم الملائكة مع وجود الدليل وهو كونه غيبا, لكن كما تقدم ليس غيبا مطلق.
الوجه الرابع: القلب, وذلك في قوله تعالى: [كراما كاتبين يعلمون ما تفعلون ) فـ"ما" موصولة تفيد العموم, أي: كل ما تفعلون, والفعل يدخل فيه: القول والعمل, والقول يدخل فيه: قول القلب واللسان.
فالفعل أعم من العمل على الراجح.
قال البغوي في تفسيره(8/ 357): ((  {كراما} على الله {كاتبين} يكتبون أقوالكم وأعمالكم. {يعلمون ما تفعلون} من خير أو شر )).
وقال ابن أبي العز في شرح الطحاوية (2/ 561): (( ... ثم قد ثبت بالنصوص المذكورة أن الملائكة تكتب القول والفعل, وكذلك النية؛ لأنها فعل القلب، فدخلت في عموم [يعلمون ما تفعلون] )).
وقال السفاريني في لوامع الأنوار البهية (1/ 450): (( وظاهر النص: أنهما يكتبان أفعال العباد من خير، أو شر، أو غيرهما، قولا كان أو عملا أو اعتقادا، هما كانت أو عزما أو تقريرا، فلا يهملان من أفعال العباد شيئا في كل حال وعلى كل حال )).
وهذا فيه رد على قول الدكتور:" والفعل لا يكون مما حدثت به النفس ..."
ولاشك أن علمهم بما في القلب يكون بإقدار الله لهم, وبما يهيئه من أسباب.
أما استدلال الدكتور بقوله تعالى: [يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور], ومعنى ما تخفي الصدور, أي: تكنه وتبطنه؛ فليس فيه حجة على ما ذكره؛ لأن كونه جل وعلا يعلم ما تخفيه صدور العباد لا ينفي علم الملائكة بها؛ لأنه إثبات, والإثبات لا يمنع المشاركة, ولما دلت عليه النصوص الأخرى المتقدمة.
وأما حديث :" إن الله تجاوز لهذه الأمة ما حدّثت به أنفسها ما لم تتكلم أو تعمل"؛ فهذا في المؤاخذة, لا في علم الملائكة.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


2-مناقشة د. عبد الله البخاري في عده صفة العَسْل  من باب الإخبار لا الصفات.




الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فقد سألني أحد الإخوة الأفاضل عن رأيي في كلام د. عبد الله البخاري لما سئل عن العَسْل هل هو صفة من صفات الله؟
فأجاب الدكتور بأنه من باب الإخبار, وأنه لا يعرف أنه صفة من صفات الله.
بعد أن صحح الحديث وهو: ما جاء عن عائشة، قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إذا أراد الله بعبد خيرا عسله» . قلت: وكيف يا رسول الله يعسله؟ قال: «يوفقه لعمل صالح قبل موته بسنة، فيقبضه عليه )) أخرجه الطبراني, وغيره, وصححه الألباني في السلسلة الصحيحة.
والجواب عما قاله الدكتور من أوجه:
الوجه الأول: أن باب الإخبار أعم من باب الأسماء والصفات من وجه, وقسيم لهما من وجه آخر:
-أعم من جهة الإطلاق العام للخبر, وهو ما يقبل الصدق والكذب لذاته.
فيدخل فيه باب الاسم والصفة.
- وقسيم له من جهة المأخذ.
وهو الذي يريده أهل العقائد لما يغايرون بين باب الأسماء والصفات وباب الإخبار, ويجعلونه أوسع.
وكلام الدكتور متوجه للإخبار الذي هو قسيم باب الصفات؛ لأنه أثبت أن العسل من باب الإخبار, ونفى أن يكون من باب الصفات.
وما ذكره الدكتور بعيد عن ضابط باب الإخبار, وضابط باب الصفات, كما سيأتي.
الوجه الثاني: أن العَسْل أضافه النبي صلى الله عليه وسلم إلى الله بصيغة الفعل, فدل النص على أنه صفة فعل بالمطابقة.
وهو وصف لا يقوم بنفسه, وإنما يقوم بموصوف, وكمال, وله معنى.
فانطبق عليه ضابط الصفة.
والصفة: ما قام بالذات.
سواء كان من الأمور الذاتية أو الفعلية.
ومورد التقسيم: ما قام بالذات, وهذا الذي يقوم بالذات إما أن يكون صفة ذات, أو صفة فعل.
فكلاهما قائم بذات الله.
والعسل من صفات الأفعال, وهو نوع من أنواع الهداية, والهداية ثابتة لله باتفاق أهل السنة.
وثبوت الجنس ثبوت لأفراده, ومن أفراد الهداية التي دلت عليها النصوص: العسل.
وقد فسر العسل في الحديث بـ: «يوفقه لعمل صالح قبل موته بسنة، فيقبضه عليه) وفي بعض الألفاظ: "يهديه ..."
قال الطحاوي في مشكل الاثار: (   
قال فطلبنا معنى قول رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو؟ فوجدنا العرب تقول: هذا رمح فيه عسل, يريدون فيه اضطراب, فشبه سرعته التي هي اضطرابه باضطراب ما سواه من الرمح ومن غيره, فاحتمل أن يكون قوله صلى الله عليه وسلم:" إذا أراد الله بعبد خيرا عسله" أن يكون أراد بميله إياه إلى ما يحب من الأعمال الصالحة؛ حتى يكون ذلك سببا لإدخاله إياه جنته, والله عز وجل نسأله التوفيق )
الوجه الثالث: أن باب الإخبار إنما يؤخذ من النص الشرعي إما مطابقة فيما يراد به الموجود, والإخبار به عن الذات, كالشيء, وشخص.
أو يؤخذ تضمنا مما أُثبت وأضيف إلى الله, كموجود, فكون الرب حيا يتكلم, وله سمع إلى آخره.. يدل على وجوده.
أو يؤخذ التزاما؛ إذ إن لازم الحق حق.
أو يكون من باب الترجمة واستعمال المرادف لما ثبت.
أو يشتق مما ثبت اسما أو صفة مما لم يرد في النصوص بصيغة الاسم والصفة, كالصانع.
فما يخبر به عن الله لابد أن يكون معناه صحيحا أخذ من دلالات النصوص, على الوجه الذي تقدم.
مع مراعاة شروط باب الإخبار, وهي: الحاجة, وألا يكون المعنى سيئا.
وهذه الأوجه فيها بيان خطأ الشيخ البخاري فيما قرره.
أما قوله: " ولا يعرف أنه صفة من صفات الله"
 فجوابه: أن الحديث أصل بنفسه, وعدم العلم بمن قاله لا يلزم منه العلم بالعدم.

وأخيرا: ينبغي التحرز عند الكلام عن صفات الله سبحانه, ولابد من إعمال القواعد الصحيحة في محالها, وعدم فتح الباب لأهل البدع من أهل الكلام.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه:
د. أحمد محمد الصادق النجار



3-الرد على د. عبد الله عبد الرحيم البخاري في مسألة  الهجر المشروع المتعلق بالدين



قال د.عبد الله البخاري جوابا عن سؤال في محاضرة له بعنوان: ضوابط الهجر الشرعي " الهجر في ضوء الكتاب والسنة ": ((فكل الشرائع مبنية على المصالح صحيح فلما تخص هذه فتعينها بأنها مبنية على المصالح دون غيرها عرف الاختزال هذا اختزال أقول هذا اختزال ولا يجوز أن يختزل

...

المصالح هل المصلحة المرادَ هنا هي المصلحة المختصة بالمهجور أم المختصة بالهاجر أم المختصة بالناظرين أنا أسأل لأن هذه الكلمة كثيرا ما تردد الهجر للمصلحة الهجر للمصلحة !!صحيح نحن ما ردننا نقول الصلاة للمصلحة الصدقة للمصلحة الصيام للمصلحة الجهاد لمصلحة صحيح إذن لا تتعب في تقرير ما هو مقرر في الشريعة كلها لا ينازع في هذا اثنان ولا ينتطح فيها عنزان ))
والرد عليه من أوجه, منها:
الوجه الأول: تخصيص الهجر بأنه معلق بالمصالح ليس من باب الاختزال كما ذكر الدكتور, وتجرأ على تحريمه, وإنما هو لبيان أنه حكمٌ معلقٌ بالمصلحة, وفرقٌ بين الأحكام المعلقة بالمصلحة, وبين كون الشريعة بنيت على المصلحة, وليت الشيخ لم يخض في غير فنه.
الوجه الثاني: الأحكام المعلقة على المصالح, يقصد بها: الأحكام التي أنيطت بتحقق مصلحتها, فتكون تابعة لأصلها وعلتها وهي: المصلحة, فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما, بخلاف الأحكام التي لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال, فمثلا: كون الصلاة بنيت على المصلحة لا يجعل الصلاة تتغير بتغير الأزمان والأحوال, وكذلك الزكاة, والحج ...
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 330): (( ... فقالوا : الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه .
 والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة ..))
الوجه الثالث: في مسألة الهجر يجتهد المجتهد في تحقيق المصالح في المعين, فنُصَّ على المصالح مراعاة لتحقيق المناط.

قال د. عبد الله البخاري: (( فما هي المقاصد الشرعية من الهجر ؟لتتحقق المصلحة العامة التي هي المصلحة الدينية منها تحقيق العبودية لله لأن قلنا ماذا؟ الهجر عبادة فلابد أن تحقق العبودية لله عبادة في السراء وله عبادة في الضراء ومنها تحقيق معلمِ الولاء والبراء الولاء للإيمان والمؤمنين والبراءة من الكفر والكافرين والبدعة والمبتدعين
... المصلحة الخاصة هي على قسمين مصلحة تعلق بالمهجور ومصلحة تتعلق بالهاجر المصلحة المتعلقة إن خشي على نفسه الفتنة فله أن يهجر كل من يخشى على نفسه من مخالطه وهذا الذي يسمي ماذا بالهجر الوقائي وهذا ظاهر مسألة انتفاع المهجور المختصة بالمهجور إن انتصح وانتفع فالحمد لله وإن لم ينتصح ولم ينتفع هل نلغي المصالح الدينية العامة والكلية في مقابل مصلحة خاصة))
والرد عليه من أوجه, منها:
الوجه الأول: عدم التسليم بوجود التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة في كل صورة من صور الهجر, فقد تنتفي المصلحة العامة وتوجد الخاصة.
الوجه الثاني: عدم التسليم بتقديم المصلحة العامة مطلقا عند التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة, فقد تقدم الخاصة إذا لم تفوت العامة, أو كانت الخاصة أقوى رتبة من العامة, ونحو ذلك.
ومن أمثلة ذلك: تقديم طاعة الوالدين على جهاد الطلب مع كون جهاد الطلب يتعلق بالمصلحة العامة.
الوجه الثالث: أن المراد بالمصلحة العامة الكلية عند أهل العلم: التي تعم جميع المسلمين؛ فأخرجت المصلحة الجزئية.
فإذا تعارضت المصلحة العامة المتعلقة بجميع المسلمين مع المصلحة الخاصة المتعلقة بشخص أو مجموعة فهنا تقدم المصلحة العامة بقيدها, وهو اتحاد الرتبة وتفويت العامة.
والدكتور البخاري يفسر المصلحة العامة والكلية بالمصلحة الدينية!!, وهذا خطأ, وهي أعم من الدينية, فقد تتعلق بالنفس أو بالمال, ونحو ذلك.
 ومن خاض في غير فنه ...
الوجه الرابع: خلَط الشيخ بين البراءة من أهل البدع وبغضهم وبين عدم هجرهم إذا انتفت المصلحة الراجحة, فبغضهم بقدر بدعهم لا ينافي عدم هجرهم لانتفاء المصلحة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ترك هجر ابن أُبي مع أنه رأس النفاق, وترك هجر المتخلفين من المنافقين.
والمظهر للفسق اجتمع فيه ولاء وبراء: ولاء بقدر إيمانه وطاعته, وبراء بقدم فسقه وعصيانه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 209): (( وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ))
 الوجه الخامس: قد يسقط الهجر إذا لم ينتفع المهجور, وكانت المصلحة راجحة في تأليفه, ولم يتعارض مع المصلحة العامة الكلية, أو يفوتها.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): (( وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله .
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا .
وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك, بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر))
وقال في مجموع الفتاوى (28/ 206): (( وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه ))
وقال ابن باز في مجموع فتاوى ابن باز (5/ 344): (( ... فأنت أيها السائل ما دمت نصحته ووجهته إلى الخير ولكنه ما زاده ذلك إلا إظهارا للمعصية, فينبغي لك هجره وعدم اتخاذه صاحبا . وينبغي لك أن تشجع غيرك من الذين قد يؤثرون عليه وقد يحترمهم أكثر على نصيحته ودعوته إلى الله لعل الله ينفع بذلك , وإن رأيت أن الهجر يزيده شرا وأن اتصالك به أنفع له في دينه وأقل لشره فلا تهجره ؛ لأن الهجر يقصد منه العلاج فهو دواء , فإذا كان لا ينفع بل يزيد الداء داءا فأنت تعمل ما هو الأصلح من الاتصال به وتكرار النصيحة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير اتخاذه صاحبا ولا خليلا لعل الله ينفع بذلك, وهذا هو أحسن ما قيل في هذا من كلام أهل العلم رحمهم الله )).

وأخيرا:
أخطاء وقع فيها من غلا في التبديع:
من غلا في التبديع وقع في أخطاء متعلقة بهذه المسألة ومنها:
1-هجر من لم يقع في بدعة أصلا, أو وقع في بدعة لكن لم يبدَّع؛ لعدم توفر الشروط.
وهذا من التجني والاعتداء.
2-عدم مراعاة المصالح والمفاسد في الهجر.
3-مجاوزة الحد المشروع في الهجر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


مناقشة الشيخين عبيد الجابري ومحمد المدخلي في مسألةالتفريق بين خلاف السنة والبدعة


الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فمعرفة الفروق بين المصطلحات والمسائل من أهم ما يحرص عليه طالب العلم, ويجتهد فيه.
وهو علم يحتاج إلى فقه دقيق, وملكة راسخة.
والمصطلحات قد تكون الفروق بينها لفظية فلا تتغير الحقائق العلمية, وقد تكون معنوية فتتغير الحقائق العلمية.
والذي يفتي ينبغي أن يكون مطلعا على هذه الفروق؛ ليضع الأشياء في موضعها.
وهو نوع من أنواع الفقه.
وقد اطلعتُ على خطأ ظاهر في جوابِ سؤالٍ وُجِّه إلى الشيخين عبيد الجابري ومحمد المدخلي في التفريق بين خلاف السنة والبدعة.
فقد سئل الشيخ عبيد الجابري كما في موقع ميراث الأنبياء عن الفرق بين قولهم هذا بدعة وقولهم هذا خلاف السنة؟
فأجاب: المعنى واحد عندي. نعم.
وسئل الشيخ محمد المدخلي عن ذلك, فأجاب:  خلاف السنة: أن يكون الرجل ما هو مبتدع، فأفتى واجتهد، مثل ما يحصل عند الأئمة - رحمهم الله- الفقهاء والمُفتون، بل كما حصل عند الصحابة - رضي الله تعالى عنهم- أبو بكر، عمر، عثمان، علي -رضي الله عنهم جميعًا-، ما من واحدٍ منهم إلَّا قال قولًا خالفَ فيه، مُجْتهدًا، وبعضهم تبيَّن له، وبعض المرات يَتَبَيَّن له أنَّ ما اجتهد فيه خلاف ما جاء عن  النبي - صلَّى الله عليه سلَّم- فَتَجِده يرجع، وأحيانًا لا يَتَبَيَّن له؛ فهذا معنى قولنا: هذا خلاف السنة.
أمَّا البدعة فلا، البدعة: هي الإحداث في الدِّين لشيءٍ يُتَقَرَّب به ويُتَعَبَّد به على غير مثال، ليس له أصلٌ في الدين، نعم هذا صحيح.
هذا هو الفرق بين هذا وذاك، ولعلَّ الابن السائل يرجع ما ذكرناه في كتاب شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى- رفع الملام عن الأئمة الأعلام، يجتهد العالم يقول القول بِخِلاف السُّنة، غابت عنه السُّنة، لا يحفظ فيها شيئًا، ما بَلَغَهُ شيء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم-، فاجتهد، فنقول: هذا القول خلاف السنة، أَقَوْل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم- أَحَق أن يُتَبَّع أم قول أبي بكر وعمر؟ يقول عبد الله بن عمر، و ابن عباس حديثه -رضي الله عنهم جميعًا - مشهور عندكم، وكذا سالم مَوْلَى، أو سالم بن عبد الله بن عمر قال: "قول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحق من قول عبد الله ومن قولِ عمر" أبوه وَجَدّه، فهذا هو الذي يُقال فيه أنه خلاف السنة.
أمَّا البدعة فلا، الابتداع هو الإحداث في دين الله، ويبقى المرء عليه ويُنَافِح عنه.
هذا هو الفرق بين هذا وذاك.اهـ

وقد أبعد الشيخان النُّجعة, وخالفا صنيع الأئمة.
وهاتان الإجابتان: متناقضتان, فالشيخ عبيد ينفي الفرق بينهما, والشيخ محمد يثبت فرقا غريبا؛ فجعل خلاف السنة في المجتهد الذي يأتي بقولٍ ولم يبلغه أن السنة بخلافه, فمن كان مجتهدا وقال بقول يخالف السنة وهو لا يعلم بها, فنسمي قوله: خلاف السنة.
ولما جاء الشيخ إلى البدعة لم ينظر فيها إلى القائل.
مع الخطأ في قوله عن البدعة: "ليس له أصل في الدين" فيكون بهذا قد نفى البدعة الإضافية.
وليته تأمل في كلامه قبل أن يُنشَر؛ حتى لا يغتر به المغترون, وما أكثرهم.
ويكفي في بطلان ما ذكر الشيخان نقضه:
فينقض جواب الشيخ عبيد بـ: ترك سنة الفجر,  وتطويل الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا, ونحو ذلك من المستحبات.
فيقال: عن ترك سنة الفجر, وتطويل الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا خلاف السنة, ولا يقال: بدعة.
وممن فرق بينهما: شيخ الإسلام فقد جاء في مجموع الفتاوى (23/ 121): (( وسئل :
عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة هل هي بدعة أم لا ؟.
فأجاب : نعم, بدعة ، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره من أن سورة الأنعام نزلت جملة مشيعة بسبعين ألف ملك فاقرءوها جملة لأنها نزلت جملة وهذا استدلال ضعيف
وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور . منها : أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا , والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله وهو خلاف السنة فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها والله أعلم )).

وينقض كلام الشيح محمد المدخلي بـ: أن الأئمة في حكمهم على الفعل بأنه بدعة أو خلاف السنة لم ينظروا إلى القائل هل هو مجتهد أو مبتدع؟
ومن ذلك:
-قراءة القرآن في ركعة.
عن سعيد بن جبير أنه قال: قرأت القرآن في ركعة في البيت.
قال الذهبي معقباً على أثر سعيد: هذا خلاف السنة. انظر: السير: 4/325.
- الخرص, فقد حكي عن الشعبي أن الخرص بدعة.
وقد قال بالخرص:  عمر بن الخطاب، وسهل بن أبي حثمة، ومروان، والقاسم بن محمد، والحسن، وعطاء، والزهري، وعمرو بن دينار، وعبد الكريم بن أبي المخارق، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد وأبو ثور، وأكثر أهل العلم. انظر: المغني لابن قدامة (3/ 14)
-الاقتصار على الفاتحة.
فقد جاء في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 436): (( ويكره اقتصار مصلٍّ على سورة الفاتحة، لأنه خلاف السنة )).

والصواب في الفرق بين خلاف السنة والبدعة مبني على معرفة معنى الخلاف, ومعنى السنة:
-الخِلافُ: المُضادّةُ.
وقد خالَفه مُخالَفة وخِلافاً.
وتَخالَفَ الأَمْران واخْتَلَفا: لم يَتَّفِقا, وكلُّ ما لم يَتَساوَ فقد تَخالف واخْتَلَفَ. انظر: لسان العرب (9/ 82)
- السنة: تطلق على: الطريقة المسلوكة الموافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 120): (( والسنة: هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله ))
وتطلق على: الاعتقاد, كما عليه جماعة من أهل الاعتقاد.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 120): (( وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات، لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم ))
وتطلق على: المستحب, وهذا مصطلح الفقهاء.
وعليه: فهذه الإضافة وهي: خلاف السنة يراد بها:
1-ضد الطريقة المشروعة.
2- ضد الاعتقاد الصحيح.
ومنه: قول شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (3/ 374): (( وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم على مخالفة السنة ورد بعض ما أخبر به الرسول كالجهمية والمشبهة والخوارج والروافض والقدرية والمرجئة ))
3-ضد المستحب.
ومن الأمثلة: ترك الفجر, أو ترك سنة الظهر, ونحو ذلك.

فعلى المعنى الأول والثاني: تجامع البدعة.
والبدع, منها: الاعتقادي والقولي والعملي, ومنها: المفسق والمكفر.
فإذا أريد بالسنة: الطريقة المشروعة, فضدها: البدعة.
وعلى المعنى الثاني: تفارق البدعة, فضد المستحب: المكروه, وخلاف الأولى.
قال ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (11/ 17): (( ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة, بل يكون خلاف الأولى ))
وإذا أريد بالسنة: المستحب, فضدها: المكروه, أو خلاف الأولى.
وهذا الضد للمعنى الثاني قد ينقلب إلى البدعة إذا وجد شرطها, وتحقق ضابطها.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: ((...وهذا القول يعطينا فرقاً مهماً بين البدعة ومخالفة السنة:
وهي أن البدعة مُلتَزَم بها ، وأما ما فُعِل على غير السنة ولم يُلْتَزَمْ به فإنه يقال خلاف السنة ، فإذا التزم به صار بدعة .
وهذا الفرق نبه العلماء على أنه فرق دقيق مهم بين البدعة ومخالفة السنة .
فالضابط بين العمل المبتدع وبين العمل المخالف للسنة أن يكون العمل هل هو الملتزم به أم غير ملتزم به ؟
فإذا عمل على خلاف السنة يتعبد بذلك مرة أو مرتين ما التزم به من جهة العدد أو من جهة الهيئة أو من جهة الزمن أو من جهة المكان فإنه يُقال خلاف السنة .
أما إذا عمل عملاً يريد به التقرب إلى الله جل وعلا والتزم به عدداً مخالفاً للسنة أو التزم به هيئةً مخالفةً للسنة أو التزم به زماناً مخالفاً للسنة أو التزم به مكاناً مخالفاً للسنة صار بدعةً .
هذه أربعة أشياء في العدد والهيئة والزمان والمكان .
فمن أخطأ السنة و تعبد ولم يلتزم يقال هذا خالف السنة ، و أما إذا التزم بطريقته وواظب عليها فإنه يقال هذا صاحب بدعة وهذا العمل بدعة )). شرح العقيدة الواسطية (2/ 267)
وهنا نجد أن الشيخ يجعل الفرق بينهما من جهة الالتزام.

فلابد من التفصيل في تحرير الفرق بين خلاف السنة والبدعة, وأيضا لابد من النظر في مصطلح القائل به, فإطلاق الفقهاء قد يختلف على إطلاق أهل العقائد, وهكذا.
والفقهاء أنفسهم يختلفون في تفسير السنة, فينبغى مراعاة هذا أيضا.
ولابد من مراعاة ضابط البدعة.
هذا ما تيسر تحريره.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار





تنبيه:

قد بينت في عدة مقالات أخطاء المشايخ: عبيد الجابري, ومحمد المدخلي, وعبد الله البخاري, لا لقصد الطعن فيهم, فالسب والطعن بضاعة المفلس الذي لا حجة له, وإنما المقصد: توقيف جماعة من الشباب السلفي على أخطاء الذين يعظمونهم تعظيما غير شرعي, ويدَّعون فيهم العصمة معنى لا لفظا في العقيدة والمنهج, وينزلون أقوالهم منزلة الوحي الذي لا يجوز مخالفته, مغلفين ذلك أنهم يتكلمون بالدليل.
 ومعلوم أن صحة الدليل لا يلزم منه صحة الاستدلال .
ولما كان الافتتان بهم عظيما - خصوصا في ليبيا وغيرها - كانت المصلحة راجحة في بيان شيء من أخطائهم؛ ليتنبه الشباب أن آحاد أهل السنة غير معصومين, وأنهم يخطئون.
وهذا من الذب عن السنة وأهلها.
وأقول لجماعة من الشباب السلفي: لو كنت سأتعامل معهم بمثل ما تتعاملون به مع مشايخ أهل السنة الذين حُذِّر منهم, لربما حذرتُ من هؤلاء المشايخ, أو قلت: لا تحضروا لدروسهم؛ لأنهم تحت المناصحة, كما تفعلون.
لكني أتعامل بمنهج أهل السنة والجماعة: فأبين خطأ السني إذا أخطأ وانتشر, من غير أن أطعن فيه.
وأقول نصحا للأمة: تفاصيل ودقائق باب الاعتقاد لا تؤخذ من هؤلاء المشايخ إلا إذا تابعوا أحدا من أهل العلم؛ للأخطاء التي عندهم في تفاصيل باب الاعتقاد.
وهذا ليس طعنا فيهم, فالعلم أرزاق, ولا يلزم أن يكون الشيخ محيطا بتفاصيل كل علم.

وأخيرا: أسأل الله أن أكون قد بينتُ ونصحتُ, كما أسأله سبحانه الإخلاص والتوفيق.