الخميس، 29 أبريل 2021

توحيد الحاكمية ... القصة الكاملة مع التيار الجهادي التكفيري المنفلت

توحيد الحاكمية ... القصة الكاملة مع التيار الجهادي التكفيري المنفلت

إن لنشأة هذا المصطلح مع ما يحمله من معنى فاسد علاقة وطيدة بسوء فهم النصوص الشرعية, والتأثر التام بما حمله الواقع من اضطهاد وتعذيب وسجون مع طغيان الاستبداد وفشو التأثر بالعلمانية الديمقراطية الكافرة ...

فأرضية هذا المصطلح بذاك الفهم: العاطفة والجهل بحقيقة الإسلام مع وجود الظلم والطغيان..

ولذا ترى عامة المنتسبين إلى هذا التيار تحركهم العاطفة للإسلام وظهوره وقيام الخلافة الراشدة مع ما هم فيه من جهل عظيم وعدم معرفة بالحقائق الشرعية...

وأما متعلموهم فرأس أمرهم: التمسك بالمتشابهات وما أطلقته النصوص الشرعية, وما احتمله كلام الأئمة المشهود لهم بالإمامة ..

ولذا لا تجد فيهم راسخا في العلم متبعا للأثر, ويذكرني هذا بمناظرة ابن عباس رضي الله عنهم للخوارج لما قال لهم: (أتيتُكُم من عند أصحابِ النبيِّ  rالمهاجرين والأنصار, ومن عندِ ابنِ عمِّ النبيِّ  rوصهرِه, وعليهم نزل  القرآن, فهم أعلمُ بتأويله منكم, وليس فيكم منهم أحد...) ([1]).  

لما تغلغل هذ الفكر الذي يقوم على الخلل في تفسير كلمة التوحيد, والفهم الخاطئ للألوهية حصل معه ما لا يحمد عقباه, وما جر الويلات على المسلمين...

فصل: [توحيد الحاكمية وقيامه على الخلل في فهم كلمة التوحيد وما نتج عن ذلك]

قام توحيد الحاكمية على تفسير كلمة التوحيد بـ: لا حاكم إلا الله ولا مشرع إلا الله..

وأنه لا فرق معنى وجوهرا بين الألوهية والحاكمية...

وأن مطلق الحكم بغير ما أنزل الله كفر أكبر مخرج من الملة...

قال أبو الأعلى المودودي: « فخلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هو: السلطة, سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان »([2])

وقال: « ... أن كلاً من الألوهية والسلطة تستلزم الأخرى وأنه لا فرق بينهما من حيث المعنى والروح »([3])

ونتج عن ذلك: التوقف في المسلم الذي ينطق الشهادتين, وجعلوا ديار المسلمين ديار كفر, وأنه ليس هناك جماعة ولا إمام.

وحكموا على البشرية بالردة, قال سيد قطب: « لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله, فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان, ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: «لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..

البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!.. »([4])

وتلقف ذلك المصري سيد إمام فصار هو المنظر الأشهر الأبرز في الوقت الحالي...

لما خالط هذا الفكر شغاف قلوبهم وتغلغل في أعماق صدورهم, وظنوا أنه الإسلام الحقيقي: كونوا جماعات عرفت بالجماعات الجهادية , والقاعدة وأخيرا داعش, وبدءوا في أعمالهم التفجيرية والتخريبية الذي ظنوه جهادا في سبيل الله بعد أن كفروا المجتمعات الإسلامية وكل من يعمل أو رضي بالنظام من أفراد الشرطة وغيرهم, واعتبروا تلك الديار ديار كفر؛ لمناقضتها "لا إله إلا الله" التي تعني توحيد الحاكمية.

فهؤلاء وإن كانوا يعترفون أن منهجهم بني على كتب المودودي وسيد قطب, كما قال الظواهري في جريدة الشرق الأوسط: (إن سيد قطب هو الذي وضع دستور الجهاديين في كتابه الديناميت معالم في الطريق ..)

وقال أبو مصعب السوري في دعوة المقاومة الإسلامية: (إن المدرسة الفكرية لتنظيم الجهاد بدأت بمكتبة سيد قطب, والتي تضم أساسيات الفكر الجهادي المعاصر)

إلا أنهم حاولوا إلصاق منهجهم بعلماء لهم مكانتهم في العالم الإسلامي كابن تيمية وابن كثير وغيرهما, فأخذوا من مطلقات كلامهم ما حملوه على منهجهم من غير نظر إلى سياقه ولا إلى أصول قائله وما يفسر كلمة التوحيد به.

وأضرب لذلك مثالا؛ ليتضح ما وراءه:

قال ابن كثير: «وقوله: ﴿ﯾ ﯿ ﰀﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈﰉ [المائدة: ٥٠] يُنكر تعالى على من خرج عن حكم الله المحكم المشتمل على كل خير، الناهي عن كل شر وعدل، إلى ما سواه من الآراء والأهواء والاصطلاحات، التي وضعها الرجال بلا مستند من شريعة الله، كما كان أهل الجاهلية يحكمون به من الضلالات والجهالات، مما يضعونها بآرائهم وأهوائهم، وكما يحكم به التتار من السياسات الملكية المأخوذة عن ملكهم جنكزخان، الذي وضع لهم (اليساق)، وهو: عبارة عن كتاب مجموع من أحكام قد اقتبسها عن شرائع شتى، من اليهودية والنصرانية والملة الإسلامية، وفيها كثير من الأحكام أخذها من مجرد نظره وهواه، فصارت في بنيه شرعًا متبعًا، يقدمونها على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله ﷺ.

ومن فعل ذلك منهم فهو كافر يجب قتاله»([5]).

فابن كثير لم يطلق كلامه، وإنما قيده بقيدين:

الأول: أنهم جعلوها شرعًا متَّبَعًا.

الثاني: يقدمونها على الكتاب والسنة.

وهذا يدل على تجويزهم الحكم بغير ما أنزل الله، وأنه شرعٌ مُتَّبَع، وهذا راجع إلى مسألة الاستحلال، والتبديل، وكذلك التفضيل.

ومن نظر إلى حال التتار فَهِم مقصود ابن كثير, قال ابن تيمية: «اعتقاد هؤلاء التتار كان في جنكسخان عظيمًا؛ فإنهم يعتقدون أنه ابن الله، من جنس ما يعتقده النصارى في المسيح»([6]).

هذا قبل إسلامهم، وأما بعد دعوى إسلامهم فقد قال ابن تيمية: «فهذا وأمثاله من مقدَّميهم كان غايته بعد الإسلام أن يجعل محمدًا ﷺ بمنزلة هذا الملعون -يعني: جنكسخان-»([7]).

وقد بينت هذا ونظيره في رسالتي المطبوعة: "الأصول الجامعة التي ترجع إليها مسألة الحكم بغير ما أنزل الله"

ومما استندوا عليه أيضا كلام بعض أهل العلم في التكفير باستبدال الشريعة بالقوانين الوضعية ونحوه.

والملاحظ ابتداء أن كلام هؤلاء العلماء في حكم خاص وليس في مطلق الحكم بغير ما أنزل الله, فالحكم الذي جعله بعض علماء أهل السنة كفرا أكبر:  ما كان مظنة التكذيب أو الامتناع وهو استبدال الشريعة كلها ونحوه, فجعلوا هذا دليلا على التكذيب والامتناع, كما قال الشيخ صالح الفوزان: (... لأن من نحى الشريعة وجعل القانون الوضعي بديلا منها فهذا دليل على أنه يرى أن القانون أحسن وأصلح من الشريعة ...)

فليس عندهم خلل في تفسير كلمة التوحيد, ولا بنوا كلامهم على تفسير خاطئ للألوهية

بخلاف المنهج المرتسم للجماعات الجهادية الذين جعلوا مطلق الحكم بغير ما أنزل الله كفرا أكبر؛ لمناقضته جوهر التوحيد وأصل الألوهية وأعظم خصائصها, فمنطلق هؤلاء؛ تفسيرهم الخاطئ لكلمة التوحيد, والتصور الضال للألوهية.

ومنطلق أولئك العلماء أنها مظنة الوقوع في الكفر الأكبر, فمناط الكفر: التكذيب أو الامتناع, فأنزلوا المظنة مقام المئنة.

وإن كنت أخطئ هؤلاء العلماء في اعتمادهم على التكفير بالقرينة والمظنة, ولا أراه مسلكا للسلف, على كلام يطول بينته في الرسالة المشار إليها آنفا.

فاحتجاج من احتج من الجماعات التكفيرية ببعض علماء أهل السنة؛ لموافقتهم لهم في بعض الفروع من غير تطابق الأصول: لا يجعل منهج هؤلاء هو منهج أولئك, ولا يجعل بذور التكفير مأخوذة من هؤلاء العلماء, ولا من كتب ابن تيمية وابن كثير والشنقيطي ...!

وإلا للزم أن يكون منهج أهل التكفير المنفلت منهج القرآن؛ لاحتجاجهم بالمتشابهات منه.

وهنا ملحظ يجب التنبيه إليه وهو: أن من تأثر ببيئة وعلماء قبل أن يدخل عليه المنهج التكفيري المنفلت حاول أن يستدل بإطلاقات معظميه ومتشابه كلامهم, فمن نشأ في بيئة سلفية حاول أن يستدل بكلام بعض علمائها, ومن نشأ في بيئة صوفية حاول أن يستدل بكلام بعض علمائها, وهكذا.

ولما كان غالب شباب الصحوة في الثمانينات وبعدها قد تأثروا بابن تيمية وعلماء السلف حاولوا أن يشركوهم في هذا التيار الجهادي التكفيري المنفلت.

ولا أنفي وجود غلو في بعض كتب أئمة الدعوة؛ لكن ليس راجعا إلى خلل في تفسير كلمة التوحيد, ولا هو ينطلق من نفس أصول الجماعات الجهادية التكفيرية, وليس هذا الموضع موضع بيانه, وإن كنت أشرت إليه في بعض رسائلي المطبوعة.

هذه القصة أرويها كما أعرفها.

كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار

 



([1]) –  أخرجه النسائي في السنن الكبرى باب ذكر مناظرة عبد الله بن عباس الحرورية واحتجاجه فيما أنكروه على أمير المؤمنين علي بن أبي طالب t (7/479-480) والحاكم في المستدرك (2/150) وقال: (( صحيح على شرط مسلم ولم يخرجاه )). وعبد الرزاق في المصنف باب ما جاء في الحرورية (10/157) كلهم من طريق عكرمة بن عمار عن أبي زميل به.

       وعكرمة قال فيه ابن معين:(( صدوق ليس به بأس )) . وقال النسائي:(( ليس به بأس إلا في حديثه عن يحيى بن أبي كثير ))  تهذيب التهذيب (5/208-209)

       وأما أبو زمُيل: فهو سماك بن الوليد قال عنه أبو حاتم كما في الكاشف للذهبي (2/402):(( صدوق )) فيكون سنده حسنا.

([2])  المصطلحات الأربعة في القرآن (15)

([3])  المصطلحات الأربعة في القرآن (18)

([4])  في ظلال القرآن (2/ 1057)

([5]) «تفسير القرآن العظيم» (3/131).

([6]) «مجموع الفتاوى» (28/521).

([7]) «مجموع الفتاوى» (28/522).

الاثنين، 26 أبريل 2021

مفهوم توحيد الحاكمية عند من جعله أخص خصائص الألوهية

مفهوم توحيد الحاكمية

عند من جعله أخص خصائص الألوهية

د. أحمد بن محمّد النّجار

محاضر في كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب

 

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.

أما بعد, فإن توحيد الحاكمية مصطلح حادث أول من أظهره أبو الأعلى المودودي في ظل هيمنة حاكمية البشر في الهند, وعنى به: إفراد الله بالتشريع والحكم, ولا يكون التحاكم إلا لله سبحانه.

وهو إلى هذا الحد لا إشكال فيه؛ إذ إنه يجب على المسلم أن يعتقده ويؤمن به, فالسلطة العليا لله وشرعه, وهو بهذا يناقض العلمانية التي تجعل السلطة العليا للبشر, ومنها تفرعت الديمقراطية وقامت أسسها عليه.

فالواجب اعتقاد وجوب الحكم بما أنزل الله, وأن من استحل الحكم بغير ما أنزل الله أو امتنع من التحاكم لما أنزل الله فهو كافر مرتد, وهذا باتفاق أهل السنة.

وتوحيد الحاكمية بالمعنى المذكور داخل تحت نوعي التوحيد: توحيد الربوبية؛ بالنظر إلى أن الله منفرد بالحكم والتشريع, وتوحيد الألوهية بالنظر إلى تحاكم العبد الذي هو فعله, وليس هو قسما مستقلا.

والاشكال في تعدي ما تقدم إلى جعله أعظم شيء في الألوهية وأخص خصائصها, وأن نقصه ناقض من نواقض التوحيد؛ حتى فسرت كلمة التوحيد به, وكفرت المجتمعات الإسلامية التي لا تحكم بالشرع بإطلاق, وجعلوها مجتمعات جاهلية.

فنبتت نابتة القاعدة وداعش وهما يحملان هذا الفكر أسوة بمن قبلهم من الخوارج الذين حذر منهم النبي صلى الله عليه وسلم وقاتلهم علي رضي الله عنه.

قال إمامهم في العصر الحديث أبو الأعلى المودودي: « فخلاصة القول أن أصل الألوهية وجوهرها هو: السلطة, سواء أكان يعتقدها الناس من حيث أن حكمها على هذا العالم حكم مهيمن على قوانين الطبيعة، أو من حيث أن الإنسان في حياته الدنيا مطيع لأمرها وتابع لإرشادها، وأن أمرها في حد ذاته واجب الطاعة والإذعان »([1])

وقال الرجل الثاني سيد قطب([2]): « ..ومن ثم إفراده بالحاكمية, فهي أخص خصائص الألوهية »([3])

وقال: « إن أخص خصائص الألوهية- كما أسلفنا- هي الحاكمية »([4])

وقال: « لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله, فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان, ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: «لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..

البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!.. »([5])

 

وتفسيرهم كلمة التوحيد بالحاكمية وجعلها أخص خصائص الألوهية وأنهما مسمى لأمر واحد منقوض من وجوه:

الوجه الأول: أن الإله بمعنى معبود, ولا يعرف في لغة العرب تفسير الإله بالحكم.

فالهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد.

ويقال: تأله الرجل: إذا تعبد. ([6])

الوجه الثاني: أن التعبد فعل العبد, وهو يتضمن غاية الحب مع غاية الذل, فلابد للعبد حتى يكون متعبدا لله أن يفرد الله في طلبه وقصده, فقصر غاية المحبة والتذلل لله وحده هو التعبد.

وهذا الإفراد متعلق بكل ما يدخل تحت مسمى العبادة, ولا يصح حصرها في نوع دون نوع.

الوجه الثالث: كون الحاكمية تدخل تحت مفهوم لا إله إلا الله, لا يدل على أنها أخص وصف فيها, بل ولا يدل على أن مجرد التحاكم لغير الله ينقض أصل لا إله إلا الله.

فليس كل ما دخل تحت لا إله إلا الله إذا انتقض يكون ناقضا لكلمة التوحيد من أصلها.

يوضح هذا: أن إفراد الله بالحلف به داخل تحت كلمة التوحيد, ومع ذلك فإن مجرد الحلف بغير الله لا يكون شركا أكبر, وكذلك مجرد الحكم بغير ما أنزل الله وإن كان داخلا تحت كلمة التوحيد لا يدل على أنه ناقض لكلمة التوحيد من أصلها.

الوجه الرابع: أنهم فسروا العبادة بمعنى: الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده, سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية, فمن حكم بغير ما أنزل الله لم يكن خاضعا متبعا, ومنازعة الله في الحكم تخرج من حد العبادة.  ([7])

والجواب: أن العبادة لا تقوم على الخضوع وحده, وإنما تقوم على الخضوع والمحبة, فمن خضع لغير الله من غير محبة لا يكون قد خرج من العبودية, وإن كانت العبودية قد تكون عنده ناقصة.

فهذا خلط في معرفة حقيقة العبادة.

قال ابن تيمية: «وقد ذكرت أن أسم العبادة يتناول غاية الحب بغاية الذل وهكذا الدين الذي يدين به الناس في الباطن والظاهر لا بد فيه من الحب والخضوع بخلاف طاعتهم للملوك ونحوهم فإنها قد تكون خضوعا ظاهرا فقط »([8])

وقال: « والعبادة: اسم يجمع غاية الحب له وغاية الذل له, فمن ذل لغيره مع بغضه لم يكن عابدا, ومن أحبه من غير ذل له لم يكن عابدا »([9])

الوجه الخامس: حصرهم الحاكمية في استيراد القوانين والأنظمة من غير شرع الله مع التهوين من الشرك المتعلق بالأوثان, كما قال المودودي: «  فإذا دعاهم القرآن ألا يتخذوا من دون الله إلهاً، ظنوا أنهم وفّوا مطالبة القرآن حقها لما تركوا الأصنام واعتزلوا الأوثان؛ والحال أنهم لا يزالون متشبثين بكل ما يسعه ويحيط به مفهوم (الإله) ما عدا الأوثان والأصنام »([10])

وهذا ينقضه: قوله تعالى:                  ﭿ                                                                     يوسف: ٤٠ فقد جعل الله من أعظم ما أمر به, ويدخل تحت حكمه عبادة الله وحده, وهو يتضمن النهي عن اتخاذ الأوثان آلهة تصرف لها أنواع من العبادة.

فهذا هو حقيقة الشرك لا ما يدعيه هؤلاء.

قال الطبري: « وقوله:                             ، يقول: وهو الذي أمر ألا تعبدوا أنتم وجميع خلقه، إلا الله الذي له الألوهية والعبادة خالصة دون كل ما سواه من الأشياء »([11])

 

وإن من المنكر الإنكار على العلماء الذين اكتفوا بتوحيدي الربوبية والألوهية على ذكر توحيد الحاكمية بالمعنى الصحيح؛ لكونه داخلا فيهما, فيأتي من انحرف فيضللهم ويتهمهم!

ولو أنه اعتقد الاعتقاد الصحيح لما تجاسر على الإنكار والاتهام والطعن في النيات.

فصل

مناط التكفير بالإخلال بتوحيد الحاكمية

إن مناط التكفير بالإخلال بتوحيد الحاكمية عند المنتمين لمذهب السلف هو: التكذيب أو الامتناع, وهذا المعنى هو التي دلت عليه النصوص دلالة قطعية بمجموعها.

قال ابن عباس: «من جحد ما أنزل الله فقد كفر، ومن أقرَّ به ولم يحكم، فهو ظالم فاسقٌ»([1]).

وقال ابن تيمية: «والإنسان متى حلل الحرام المجمع عليه، أو حرم الحلال المجمع عليه، أو بدل الشرع المجمع عليه كان كافرًا مرتدًّا باتفاق الفقهاء.

وفي مثل هذا نزل قوله على أحد القولين: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾ أي: هو المستحل للحكم بغير ما أنزل الله»([2]).

وقال الشيخ الشنقيطي: «ومن لم يحكم بما أنزل الله، معارضة للرسل وإبطالًا لأحكام الله، فظلمه وفسقه وكفره كلها كفر مخرج عن الملة، ومن لم يحكم بما أنزل الله معتقدًا أنه مرتكب حرامًا، فاعل قبيحًا، فكفره وظلمه وفسقه غير مخرج عن الملة»([3]).

وتراهم يطلقون الأحكام من غير إنزالها على المعينين؛ إذ إن تنزيل الحكم المطلق على المعين متوقف على توفر شروط وانتفاء موانع.

 

وأما مناط التكفير بالإخلال بتوحيد الحاكمية عند الخوارج ومن تأثر به فهو مجرد الحكم بغير ما أنزل الله, فيرون أن مجرد التحليل والتحريم تشريعٌ يوجب الكفر، حتى وإن كان المحلل أو المحرم جاهلًا بحكم الله، فمن أحلَّ ما حرم الله، أو حرم ما أحل الله فهو كافر كفرًا أكبر.

قال عبد القاهر البغدادي في الفرق بين الفرق (ص: 55): (قال شيخنا أبو الحسن الذى يجمعها إكفار على وعثمان وأصحاب الجمل والحكمين ومن رضى بالتحكيم وصوب الحكمين او أحدهما ووجوب الخروج على السلطان الجائر )

وهو ما صرح به سيد قطب في قوله: «وما من شك أن الذين يُحلُّون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله...»([4]).

وقد قال الظواهري في جريدة الشرق الأوسط: (إن سيد قطب هو الذي وضع دستور الجهاديين في كتابه الديناميت معالم في الطريق ..)

وقال أبو مصعب السوري في دعوة المقاومة الإسلامية: (إن المدرسة الفكرية لتنظيم الجهاد بدأت بمكتبة سيد قطب, والتي تضم أساسيات الفكر الجهادي المعاصر)

وقال يوسف القرضاوي في كتابه "أولويات الحركة الإسلامية " (110): (( في هذه المرحلة ظهرت كتب سيد قطب التي تمثل المرحلة الأخيرة من تفكيره الذي تنضح بتكفير المجتمع.......وإعلان الجهاد الهجومي على الناس كافة )).

وتراهم ينزلون الأحكام المطلقة على المعينين بإطلاق.

قال أبو المظفر السمعاني في تفسيره: (واعلم أن الخوارج يستدلون بهذه الآية, ويقولون: من لم يحكم بما أنزل الله فهو كافر, وأهل السنة قالوا: لا يكفر بترك الحكم )

وقال ابن عبد البر: «وقد ضلت جماعة من أهل البدع من الخوارج والمعتزلة في هذا الباب، فاحتجوا بهذه الآثار ومثلها في تكفير المذنبين، واحتجوا من كتاب الله بآيات ليست على ظاهرها، مثل قوله ۵: ﴿ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون﴾»([5]).

فالمناطان مختلفان تماما, فلا يلزم من الاتفاق صورة بالإقرار بتوحيد الحاكمية الاتفاق معنى, والعبرة بالمعاني لا بالاتفاق في الصورة.

وختاما يقول ابن تيمية فيمن اتخذ الأرباب: «وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا؛ حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم الله وتحريم ما أحل الله يكونون على وجهين:

أحدهما: أن يعلموا أنهم بدَّلوا دين الله فيتبعوهم على التبديل، فيعتقدوا تحليل ما حرم الله، وتحريم ما أحل الله اتباعًا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله الله ورسوله شركًا -وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم- فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك دون ما قاله الله ورسوله؛ مشركًا مثل هؤلاء.

والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتًا، لكنهم أطاعوهم في معصية الله، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص؛ فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب»([6]).

وهذا تفصيل دقيق من شيخ الإسلام؛ فإن من حلل ما حرم الله مع علمه بالتحريم من غير شبهة معتبرة، وكذلك مَن اتبعه على ذلك مع علمه واعتقاد تحليل ما حرم الله فإنه يكون قد انتفى عنه الانقياد الذي جِماعه الخضوع لله، فيكون بذلك قد انتفى عنه أصل الإيمان، فيكون كافرًا كفرًا أكبر.

 


 



([1]) أخرجه الطبري في «تفسيره» (4/333).

([2]) «مجموع الفتاوى» (3/267-268)

([3]) «أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن» (2/125).

([4]) «في ظلال القرآن» (1/328).

([5]) «التمهيد» (17/16).

([6]) «مجموع الفتاوى» (7/70).

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

 



([1])  المصطلحات الأربعة في القرآن (15)

([2])  هو: سيد قطب بن إبراهيم, مصري.

     انضم إلى الإخوان المسلمين، فترأس قسم نشر الدعوة وتولى تحرير جريدتهم, وسجن معهم، فعكف على تأليف الكتب ومنها: ظلال القرآن, الذي اشتمل على مخالفات كثيرة, وكذلك العدالة الاجتماعية في الإسلام, والتصوير الفني في القرآن.

     ولد: 1324 هـ = 1906 م   وتوفي: 1387 هـ =1967 م       انظر: الأعلام (3/ 147-148)

([3])  في ظلال القرآن (2/ 688)

([4])  في ظلال القرآن (2/ 890)

([5])  في ظلال القرآن (2/ 1057)

([6])  انظر: مقاييس اللغة (1/ 127)

([7])  انظر: في ظلال القرآن (4/ 1991)

([8])  جامع الرسائل لابن تيمية (2/ 219-220)

([9])  مجموع الفتاوى (15/ 162)

([10])  المصطلحات الأربعة في القرآن (7)

([11])   تفسير الطبري