الأحد، 2 أغسطس 2020

طاعة الحاكم المتغلب المسلم الذي استقر له الأمر بين الإفراط والتفريط


طاعة الحاكم المتغلب المسلم الذي استقر له الأمر
بين
الإفراط والتفريط
د. أحمد بن محمّد النّجار
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد؛ فإن الكلام على الحاكم المتغلب المسلم الذي لم تتوفر فيه شروط التنصيب الشرعية ولم يحقق العدل واستقر له الأمر هو في الحقيقة كلام عن حال ضرورة, وما استقر عليه الواقع الذي لا يمكن دفعه إلا بمفسدة أكبر, ويندرج تحت إلغاء الشروط المكملة التي يؤدي اعتبارها إلى إسقاط الأصل ووقوع الفتنة, ولذا يجب أن ينطلق النظر من هذا الأصل, وتتفرع الفروع بناء عليه؛ حتى تتحقق المصلحة الشرعية.
وأما إذا لم يستقر له الأمر فوجب دفعه وقتاله ودرء فتنته.
فنريد بالحاكم المتغلب: من استقر له الأمر وانقاد له الناس, ولم تتوفر فيه شروط الإمامة إلا الإسلام أو توفرت, ولم ينصب بطريق شرعي كمن أخذها بالسيف.
هذا الحاكم يقول عنه الشافعي:( كان من غلب على الخلافة بالسيف حتى يسمى خليفة ويجمع الناس عليه - فهو خليفة. مناقب الشافعي للبيهقي (1/ 448)
ويقول عنه ابن تيمية: (فمتى صار قادرا على سياستهم بطاعتهم أو بقهره، فهو ذو سلطان مطاع، إذا أمر بطاعة الله.
ولهذا قال أحمد في رسالة عبدوس بن مالك العطار: " أصول السنة عندنا التمسك بما كان عليه أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " إلى أن قال: " ومن ولي الخلافة فأجمع عليه الناس ورضوا به، ومن غلبهم بالسيف حتى صار خليفة وسمي أمير المؤمنين، فدفع الصدقات إليه جائز برا كان أو فاجرا ".
وقال في رواية إسحاق بن منصور، وقد سئل عن حديث النبي - صلى الله عليه وسلم - " «من مات وليس له إمام مات ميتة جاهلية» " ما معناه؟ فقال: تدري ما الإمام؟ الإمام الذي يجمع عليه المسلمون، كلهم يقول: هذا إمام؛ فهذا معناه) منهاج السنة النبوية (1/ 529)
إلا أن ولايته ليست أصلا, وإنما هي حالة استثنائية تتعلق بالضرورات ومراعاة الواقع الذي لا يمكن تغييره إلا بما هو أشد وأنكى.
والأصل الذي يجب التأكيد عليه وتكراره هو: أن إقرار الشرع لولاية المتغلب لأجل دفع المفسدة الكبرى وإزالة الفتنة ورفعها.
قال الغزالي (وأن الثمرة المطلوبة من الإمام تطفئة الفتن الثائرة من تفرق الآراء المتنافرة، فكيف يستجيز العاقل تحريك الفتنة، وتشويش النظام، وتفويت أصل المصلحة في الحال؟) الاعتصام للشاطبي (2/ 625)
قال الشاطبي تعليقا على كلام الغزالي: (وما قرره هو أصل مذهب مالك.
: قيل ليحيى بن يحيى: البيعة مكروهة؟ قال: لا. قيل له: فإن كانوا أئمة جور؟ فقال: قد بايع ابن عمر لعبد الملك بن مروان، وبالسيف أخذ الملك. أخبرني بذلك مالك عنه أنه كتب إليه وأمر له بالسمع والطاعة على كتاب الله وسنة نبيه.
قال يحيى: والبيعة خير من الفرقة.
قال: ولقد أتى مالكا العمري فقال له: يا أبا عبد الله، بايعني أهل الحرمين، وأنت ترى سيرة أبي جعفر، فما ترى؟ فقال له مالك: أتدري ما الذي منع عمر بن عبد العزيز أن يولي رجلا صالحا؟ فقال العمري: لا أدري، قال مالك لكني أنا أدري، إنما كانت البيعة ليزيد بعده، فخاف عمر إن ولى رجلا صالحا أن لا يكون ليزيد بد من القيام، فتقوم هجمة فيفسد ما لا يصلح، فصدر رأي هذا العمري على رأي مالك).
ولذا كانت ولاية المتغلب شرعية بهذا النظر, وهو الملائم لتصرفات الشرع، وإن فرضنا أنه لم يعضده نص على التعيين, فالشريعة قد تمنع الفعل ابتداء لكن بعد وقوعه واستقراره تعطيه أحكاما يتناسب مع دفع الضرر الأعظم, واحتمال أدنى المفسدتين لدفع أعلاهما, كما منعت ابتداء من بناء الكعبة على غير قواعد إبراهيم وأقرته بعد وقوعه دفعا لمفسدة أكبر, فكان الحكم على ما استقر عليه الأمر, فلا يجوز لأحد من الملوك أن يعيده على ما كان عليه؛ تغليبا لجانب دفع المفاسد, وهذا محل اتفاق بين المسلمين.
فإذا تقرر هذا عُلِم خطأُ من اشترط في الحاكم المتغلب أن يكون عدلا تتوفر فيه شروط الإمامة؛ حتى يطاع ويكون وليا شرعيا, فهذا التقييد لم يُبن على ما تقدم من درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين, وإنما بني على غير حال الضرورة والنظر إلى الواقع وما يؤدي إلى مفاسد كبرى.
قال محمد الدسوقي المالكي: (اعلم أن الإمامة العظمى تثبت بأحد أمور ثلاثة إما بإيصاء الخليفة الأول لمتأهل لها وإما بالتغلب على الناس لأن من اشتدت وطأته بالتغلب وجبت طاعته ولا يراعى في هذا شروط الإمامة إذ المدار على درء المفاسد وارتكاب أخف الضررين) حاشية الدسوقي (4/ 298)
وقال النووي: (وأما الطريق الثالث، فهو القهر والاستيلاء، فإذا مات الإمام، فتصدى للإمامة من جمع شرائطها من غير استخلاف ولا بيعة، وقهر الناس بشوكته وجنوده، انعقدت خلافته لينتظم شمل المسلمين، فإن لم يكن جامعا للشرائط بأن كان فاسقا، أو جاهلا، فوجهان، أصحهما: انعقادها لما ذكرناه، وإن كان عاصيا بفعله). روضة الطالبين وعمدة المفتين (10/ 46)
ومن غلط هؤلاء أن فهموا من عدم التقييد: إقرار المتغلب على اعتدائه وخروجه وتغلبه, وأنه مستحق للولاية, أو أنه يلزم على عدم التقييد: إعطاؤة الطاعة المطلقة, أو أن فيه نصرة الاستبداد والدكتاتوية والظلم, وهذا تصور خاطئ أثر عليه الواقع وضغوط البيئة المنفلتة.
فالتغلب في أصله حرام وبغي وظلم واعتداء واستيلاء بالقوة ومفسدة ويؤدي إلى تفريق الأمة سفك الدماء والفوضى, والمتغلب فاسق عاص غادر ناكث للبيعة خائن للأمانة, والشريعة إذ أقرت ولايته انتهاء إنما هو لدفع مفسدة أكبر كما تقدم.
وقد انقسم الناس في طاعة الحاكم المتغلب المسلم الذي لم تتوفر فيه شروط الإمامة وكان جائرا إلى:
1-إعطائه الطاعة المطلقة التي تعطى للحاكم الشرعي ابتداء وانتهاء.
2-عدم إعطائه الطاعة, وعدم اعتباره وليا شرعيا.
والتحقيق هو التفصيل, فالمتغلب يعتبر وليا شرعيا -بالنظر المتقدم- مالم يكفر عينا, قال أحمد في رواية العطار: (ومن غلب عليهم بالسيف حتى صار خليفة، وسمي أمير المؤمنين: فلا يحل لأحد يؤمن بالله أن يبيت، ولا يراه إماما برا كان أو فاجرا). منار السبيل في شرح الدليل (2/ 399)
وتختلف نوع طاعته بحسب كونه عادلا أو ظالما, فالعادل يطاع مطلقا إلا إذا خالف الشرع, وأما الظالم فلا يطاع إلا إذا تحققنا أنه موافق للشرع, فالأصل في العادل أن أحكامه موافقة للشريعة, والأصل في الظالم أنها مخالفة للشريعة.
وإذا كان الحاكم الذي لم يكفر عينا يريد تغيير دين الناس؛ لوقوعه في بدعة كبرى ويوقعهم في كفر أو بدعة فهذا يطاع في المعروف بقدر ما يدفع المفسدة الكبرى التي روعيت في هذا الباب, ويسعى المصلحون في تغييره ما أمكن بما يتوافق مع الشرع ولا يترتب عليه مفسدة كبرى, وليس الخروج عليه  طريقا شرعيا.
ولاشك أن الحكام المتغلبين ليسو على درجة واحدة, فبعضهم يجحد أحكام الشريعة ويرى أنها لا تصلح لزماننا فهذا يكفر عينا, وتجب إزالته إذا توفرت القدرة وأمنت النفسدة الكبرى, وبعضهم يُحَكم الشريعة في بعض الأحوال والأبواب ولا يحكمها في غيرها ظلما وعدوانا أو شهوة لا استحلالا وامتناعا فهذا لا يكفر ولا يطاع إلا فيما وافق الشرع, وبعضهم قد يعجز عن تطبيق بعض الأحكام الشرعية إما جهلا منه بها أو خوفا من قومه وسطوتهم ويشبه حالهم حال النجاشي من وجه.
وعلى كلٍّ, فكل واحد له حكمه وأحكامه, وتعطيل الطاعة في المعروف مطلقا تجر إلى الفوضى وتعطيل الأحكام القضائية وتقود إلى أكل أموال الناس بالباطل والاعتداء على حقوقهم والنيل من المؤسسات إلى غير ذلك, وهذا أمر لا تقره الشريعة وتدفعه وترفعه, ولذا غلبت جانب درء المفاسد على جلب المصالح.
والله أعلم.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق