الاثنين، 12 يوليو 2021

ما الذي خشيه السلف من الإنكار العلني حال الغيبة؟

 

ما الذي خشيه السلف من الإنكار العلني حال الغيبة؟
هناك تلازم بين الإنكار في غيبة الحاكم وذكر مساوئه وبين الخروج بالسيف, والتلازم هنا بحسب العادة وما دل عليه الواقع, وليس عقليا لا ينفك؛
ولأجل التلازم العادي كان منهج السلف: المنع من الإنكار؛  فقد جاء عن عبد الله بن عكيم عند ابن سعد في الطبقات الكبرى (3/ 58) أنه قال: ( لا أعين على دم خليفة أبدا بعد عثمان، فقيل له: يا أبا معبد أوعنت عليه؟ قال: كنت أعد ذكر مساويه عونا على دمه(
وهو ما خشي منه الصحابي الجليل أسامة بن زيد لما قيل له: ألا تدخل على عثمان فتكلمه؟ قال: ( أترون أني لا أكلمه إلا أسمعكم؟ والله لقد كلمته فيما بيني وبينه ما دون أن أفتح أمرا لا أحب أن أكون أول من فتحه) أخرجه البخاري ومسلم
قال المهلب: ( أي باب الإنكار على الأئمة علانية خشية أن تفترق الكلمة) فتح الباري لابن حجر (13/ 52)

وقال العيني تعليقا على كلام أسامة في عمدة القارئ (١٥/١٦٦):( أكلمه طلبا للمصلحة لا تهييجا للفتنة؛ لأن المجاهرة على الأمراء بالإنكار يكون فيه نوع القيام عليهم؛ لأن فيها تشنيعا عليهم يؤدي إلى افتراق الكلمة وتشتيت الجماعة).
هذا هو فهم السلف، فقد فهموا التلازم, وحذروا الناس من ذلك, بل قال ابن أبي جمرة وهو يشرح قول النبي صلى الله عليه وسلم:(( فإنه ليس أحد من الناس خرج من السلطان شبرا فمات عليه إلا مات ميتة جاهلية)) قال: ( المراد بالمفارقة السعي في حل عقد البيعة التي حصلت لذلك الأمير ولو بأدنى شيء، فكنى عنها بمقدار الشبر؛ لأن الأخذ في ذلك يؤول إلى سفك الدماء بغير حق) فتح الباري (١٣/٧(
ولم يقف الأمر عند هذا، فقد جعل عبد الله بن عمرو رضي الله عنه الطعن والسب من فعل الخوارج؛ للتلازم بين الطعن والخروج
ففي السنة (2\455) لابن أبي عاصم عن عقبة بن وساج قال: كان صاحب لي يحدثني عن شأن الخوارج وطعنهم في أمرائهم، فحججت فلقيت عبد الله بن عمرو، فقلت له: أنت من بقية أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد جعل الله عندك علما، وأناس بهذا العراق يطعنون على أمرائهم، ويشهدون عليهم بالضلالة؟
فقال لي: أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، ثم حدث بحديث ذم الخوارج.
ونكتة ذلك: أن السبب إذا أوقع المسبب عادة عُدَّ من فعل السبب فاعلا للمسبب, فمن فعل السبب -وهو الطعن- عد فاعلا للمسبب -وهو الخروج-, وليس هذا من باب الخلط بين الطعن والإنكار وبين الخروج بالسيف، وإنما هو جار على قاعدة مجرى العادات بين السبب والمسبب.
ويشهد لهذا الشرع، ومنه حديث:( إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه قيل يا رسول الله وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال يسب أبا الرجل فيسب أباه، ويسب أمه فيسب أمه)
قال ابن تيمية:( فقد جعل النبي صلى الله عليه وسلم الرجل سابا لاعنا لأبويه إذا سب سبا يجزيه الناس عليه بالسب لهما وإن لم يقصده) الفتاوى الكبرى لابن تيمية (6/ 174)

وكما هو ثابت في الأسباب الشرعية كذلك ثابت في الأسباب العادية، كما فصله الشاطبي في الموافقات (١/٣٣٥) حيث قال: (إيقاع السبب بمنزلة إيقاع المسبب، قصد ذلك المسبب أو لا؛ لأنه لما جعل مسبب عنه في مجرى العادات؛ عد كأنه فاعل له مباشرة ، ويشهد لهذا قاعدة مجاري العادات؛ إذ أجري فيها نسبة المسببات إلى أسبابها، كنسبة الشبع إلى الطعام، والإرواء إلى الماء، والإحراق إلى النار، والإسهال إلى السقمونيا، وسائر المسببات إلى أسبابها؛ فكذلك الأفعال التي تتسبب عن كسبنا منسوبة إلينا وإن لم تكن من كسبنا، وإذ كان هذا معهودا معلوما؛ جرى عرف الشرع في الأسباب الشرعية مع مسبباتها على ذلك الوزان).


ولو يلاحظ الناظر أن الخطاب في الانكار العلني حال الغيبة موجه إلى الناس والدهماء لا إلى الحكام، فإن أريد تغيير المنكر فيجب أن يكون الخطاب موجها للحكام بالذهاب إليهم لا إلى عامة الناس.
وإن أريد إصلاح عقائد الناس فيكتفى بإنكار الفعل المنكر وبيان حكمه في الشريعة؛ جمعا بين حفظ عقائد أناس والشريعة وهدم إفضاء الفعل إلى مفسدة أكبر.
فيجب عند الكلام عن هذه المسائل النظر إلى القواعد والأصول ودرء المفاسد الكبرى، ولا يكتفى بمجرد جمع الآثار.
وعندما نقرر قوة إفضاء الطعن إلى الخروج بالسيف لا يتصور متصور أنه بمجرد الطعن والإنكار يحصل الخروج, وإنما لابد معه من أسباب أخرى. كوجود جماعة وعندهم سلاح ولهم من يقودهم ويؤزهم ونحو ذلك؛ إذ الطعن وحده ليس سببا ينتج المسبب، بل لابد معه من أسباب أخرى وانتفاء موانع.

تنبيه: من كفر من حكام زماننا عينا -وفق ضوابط أهل السنة- لا حق له وليس بولي أمر شرعي، ويجب الخروج عليه إن أمنت الفتنة وإلا فنراعي أخف الضرر...

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق