ليلة القدر غير متنقلة في العشر الأواخر
على الصحيح
د. أحمد بن محمّد النّجار
أستاذ مساعد
كليّـة علوم الشّريعة / جامعة المرقب
الحمد لله وحده والصلاة
والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد؛ فإن ليلة القدر قد رفع الله العلم بتعينها في ليلة
معينة؛ ليكون ذلك سببا للاستكثار من فعل الخير في العشر الأواخر من رمضان, وقد
اجتهد العلماء في تعيينها من باب الظن لا اليقين, وقد كان بعضهم يحلف على ذلك؛ لما
غلب على ظنه علمه بعينها, ولكن مع ذلك يبقى القطع بها بعيدا؛ لأن الله قد أخفاها
على عباده.
فحقيقة خلاف العلماء في
التعيين أنه اختلاف في أرجى الليالي, وأقوالهم في الجملة ثلاثة أقوال: أحدها أنها
في ليلة بعينها لا تنتقل عنها إلا أنها غير معروفة, والثاني: أنها في ليلة بعينها
لا تنتقل عنها معروفة. واختلف الذين ذهبوا إلى
هذا في تعيينها على أقوال, منها: أحدها أنها ليلة إحدى وعشرين. والثاني أنها ليلة
ثلاث وعشرين. والثالث أنها ليلة سبع وعشرين. والرابع أنها ليلة ثلاث وعشرين أو سبع
وعشرين.
والقول الثالث أنها ليست
في ليلة بعينها وإنما تنتقل في الأعوام. [انظر: المقدمات الممهدات لابن رشد (1/
265), والمغني لابن قدامة (3/ 183)]
والأقرب: أنها في ليلة
بعينها لا تنتقل عنها, مبهمة, فلا نجزم لليلة بعينها أنها ليلة القدر على الإِطلاق,
وهذا يدعو المسلم إلى الاجتهاد في العشر الأواخر كلها إلا أن أرجاها ليلة سبع
وعشرين.
ومما يدل على أنها متعينة
في ليلة واحدة:
أن الله ذكر أنه أنزل فيها
القرآن، وأنه يفرق فيها كل أمر حكيم, وهذا يقتضي أنها ليلة واحدة متعينة؛ لأن
إنزال القرآن كان في ليلة واحدة بعينها, ولأن تقدير ما يكون في السنة من أرزاق
العباد وآجالهم إنما يكون في ليلة واحدة بعينها يتكرر التقدير فيها كل سنة.
وقد علم النبي صلى الله
عليه وسلم عينها وأراد أن يخبر أمته بها لكنه أنسيها, فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت،
قال: خرج النبي صلى الله عليه وسلم ليخبرنا بليلة القدر، فتلاحى رجلان من المسلمين,
فقال: «خرجت لأخبركم بليلة القدر، فتلاحى فلان وفلان فرفعت, وعسى أن يكون خيرا
لكم, فالتمسوها في التاسعة والسابعة والخامسة».
والحجة من الحديث على أنها
غير متنقلة: أنها لو كانت متنقلة لما أمكن النبي صلى الله عليه وسلم أن يخبر أمته
بها إلى قيام الساعة, وهذا خلاف ما كان يريده صلى الله عليه وسلم, فلو كان مأمورا
بإبلاغها لأمته وهي متنقلة لكان مأمورا بمحال, وهذا لا يستقيم في التشريع.
أضف إلى ذلك: أن القول
بتعيينها في ليلة واحدة هو الأقرب إلى مذهب الصحابة؛ لأنهم عينوها في ليلة واحدة.
والأقرب في تعيين هذه الليلة
أنها ليلة سبع وعشرين:
ففي مصنف عبد الرزاق مصنف
عبد الرزاق الصنعاني (4/ 246) قال: أخبرنا معمر، عن قتادة، وعاصم، أنهما سمعا
عكرمة يقول: قال ابن عباس: دعا عمر بن الخطاب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم،
فسألهم عن ليلة القدر؟ فأجمعوا أنها في العشر الأواخر، قال ابن عباس: فقلت لعمر:
«إني لأعلم، أو إني لأظن أي ليلة هي؟»، قال عمر: وأي ليلة هي؟ فقلت: " سابعة
تمضي، أو سابعة تبقى من العشر الأواخر، فقال عمر: ومن أين علمت ذلك؟ فقال: «خلق
الله سبع سماوات، وسبع أرضين، وسبعة أيام، وإن الدهر يدور في سبع، وخلق الله
الإنسان من سبع، ويأكل من سبع، ويسجد على سبع، والطواف بالبيت سبع، ورمي الجمار
سبع، لأشياء ذكرها»، فقال عمر: لقد فطنت لأمر ما فطنا له، وكان قتادة يزيد على ابن
عباس في قوله: يأكل من سبع قال: " هو قول الله: {أنبتنا فيها حبا، وعنبا}
الآية
فكان المرجح ما رتبه الله
على السبع من خلق وشرع؛ مما يدل على رجحانه على غيره.
وفي مسند الحميدي (1/ 185) قال ثنا سفيان قال ثنا عبدة بن أبي
لبابة وعاصم بن بهدلة أنهما سمعا زر بن حبيش يقول : قلت لأبي إن أخاك بن مسعود
يقول من يقم الحول يصب ليلة القدر فقال يرحم الله أبا عبد الرحمن إنما أراد أن لا
يتكل الناس ولقد علم أنها في العشر الأواخر من شهر رمضان وأنها ليلة سبع وعشرين ثم
حلف أبي لا يستثني أنها لليلة سبع وعشرين فقلنا له يا أبا المنذر بأي شيء علمته
قال بالآية أو بالعلامة التي أخبرنا رسول الله صلى الله عليه و سلم أخبرنا أن
الشمس تطلع صبيحة ذلك اليوم ولا شعاع لها.
فكان المرجح لها النظر إلى
علامتها المتكررة في السنوات.
وفي مسند أحمد (35/ 125) عن
عاصم، عن زر، قال: قال لي أبي: "إنها ليلة سبع وعشرين، وإنها لهي هي ما يستثنى،
بالآية التي حدثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فحسبنا وعددنا، فإنها لهي هي ما يستثنى
"
وفي صحيح مسلم (2/ 823) عن
سالم، عن أبيه رضي الله عنه، قال: رأى رجل أن ليلة القدر ليلة سبع وعشرين، فقال النبي
صلى الله عليه وسلم: «أرى رؤياكم في العشر الأواخر، فاطلبوها في الوتر منها»
وفي سنن
أبي داود(1/ 441) عن معاوية بن أبي سفيان
: عن النبي صلى الله عليه و سلم في ليلة القدر قال " ليلة القدر ليلة
سبع وعشرين " .
وفي مسند أحمد (8/ 426) عن عبد الله بن دينار، عن ابن
عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من كان متحريها فليتحرها ليلة سبع
وعشرين "، وقال: " تحروها ليلة سبع
وعشرين " يعني ليلة القدر
قال السرخسي في المبسوط
(3/ 230): (وأكثر الصحابة على أنها ليلة السابع والعشرين)
وقال العراقي في طرح التثريب
في شرح التقريب (4/ 155): (وبه قال جمع كثيرون من الصحابة وغيرهم)
فتلخص لنا أنها ليلة
بعينها لا تتنقل, وأن أرجى الليالي ليلة سبع وعشرين.
وأما حديث عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه: أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم كان يعتكف في العشر الأوسط من رمضان، فاعتكف عاما، حتى إذا كان
ليلة إحدى وعشرين، وهي الليلة التي يخرج من صبيحتها من اعتكافه، قال: «من كان
اعتكف معي، فليعتكف العشر الأواخر، وقد أريت هذه الليلة ثم أنسيتها، وقد رأيتني
أسجد في ماء وطين من صبيحتها، فالتمسوها في العشر الأواخر، والتمسوها في كل وتر»،
فمطرت السماء تلك الليلة وكان المسجد على عريش، فوكف المسجد، فبصرت عيناي رسول
الله صلى الله عليه وسلم على جبهته أثر الماء والطين، من صبح إحدى وعشرين. أخرجه
البخاري
فقد عارضه ما أخرجه أحمد في
المسند (25/ 438)عن عبد الله بن أنيس، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
" رأيت ليلة القدر ثم أنسيتها، وأراني صبيحتها أسجد في ماء، وطين، فمطرنا ليلة
ثلاث وعشرين، فصلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم فانصرف وإن أثر الماء، والطين
على جبهته وأنفه "
فكما أن السماء أمطرت ليلة
إحدى وعشرين أمطرت أيضا ليلة ثلاث وعشرين.
ثم على القول بأن الآثار عن
الصحابة متعارضة وهم يريدون تعيينها في ليلة في كل الأعوام لم يبق إلا الترجيح, وقد
تقدم أن الأرجح أنها ليلة سبع وعشرين.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق