السبت، 21 مايو 2016

موقف سيد قطب من أصول أهل السنة والجماعة

موقف سيد قطب من أصول
أهل السنة والجماعة

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فمن مقاصد الشريعة التي دل عليها الاستقراء: حفظ الدين, وإقامة العدل, وهما مقصدان عظيمان يجب مراعاتهما في الحكم على الأشخاص وما ينتج عنهم من كتابات.
كما أن الحب والبغض, والمولاة والمعاداة, والمدح والذم, والتحذير يجب أن يكون ذلك مبنيا على هذين المقصدين.
فمراعاة حفظ الدين من جهة, وإقامة العدل من جهة أخرى: يتحقق بهما الإنصاف والرحمة والإحسان.
وكل ما يؤدي إلى رفعهما أو نقصهما فهو باطل, ويجب الرجوع عنه.
وإن من أخطر ما يؤدي إلى رفعهما أو نقصهما: تحكيم العواطف, والتقليد للأشياخ, والأخذ بالمألوف وما تربى عليه الإنسان مما هو مخالف لتحقيقهما.
 فكل هذه الأمور متى ما عارضت حفظ الدين وإقامة العدل عُلِم بطلانها وفسادها.
ومن حفظ الدين وإقامة العدل: وزن الأشخاص وكتاباتهم بالميزان الصحيح الذي هو الكتاب والسنة والإجماع, فمن وافقه مُدِح, ورفعت مكانته ومنزلته, ومن خالفها أعطي من الذم والقدح ما يناسب مخالفته, ولا مدخل للعاطفة في هذا, ولا التقليد الأعمى.
وبقدر مخالفة هذه الكتابات لهذا الميزان يُحكم عليها بطرحها مطلقا وعدم قراءتها, أو بالاستفادة منها بقدر, فما غلب فيها المخالفة, واستغني بغيرها طرحت بالكلية, ومتى ما غلب فيها الحق قرئت واستفيد منها مع التنبيه على ما فيها من مخالفات.

وبعد هذه المقدمة ننتقل إلى إعمال الميزان الشرعي فيما خطه سيد قطب من كتابات؛ لنحكم على كتاباته بناء على هذا الميزان؛ تحقيقا للمقصدين المتقدمين, بعيدا عن التقليد أو تحكيم العاطفة.
ومن أراد أن يناقش فليدع العاطفة والتقليد, وليبين أن كتابات سيد قطب لم تخرج عن أصول أهل السنة والجماعة, ولنتجرد للحق, فالحق أحق أن يتبع.
ونبدأ الآن في المقصود:
أولا: تفسير سيد قطب لكلمة التوحيد.
كلمة التوحيد يقوم عليها الإسلام, والخلل في معرفة معناها يقود إلى الخلل في معرفة الإسلام وما يناقضه.
ويؤدي إلى خلل عظيم في معرفة من دخل في الإسلام ومن خرج منه, وبسبب ذلك يضيع الدين, ويعم الظلم.
قال سيد قطب في ظلال القرآن (2/ 828): (( ولم يكن بد أن يكون «دين الله» هو الحكم بما أنزل الله دون سواه. فهذا هو مظهر سلطان الله. مظهر حاكمية الله. مظهر أن لا إله إلا الله.
وقال في ظلال القرآن (2/ 828): (( والقاعدة الأولى والأساس في حتمية هذا التلازم هي أن الحكم بما أنزل الله إقرار بألوهية الله، ونفي لهذه الألوهية وخصائصها عمن عداه. وهذا هو «الإسلام» بمعناه اللغوي: «الاستسلام» وبمعناه الاصطلاحي كما جاءت به الأديان.. الإسلام لله.. والتجرد عن ادعاء الألوهية معه وادعاء أخص خصائص الألوهية، وهي السلطان والحاكمية، وحق تطويع العباد وتعبيدهم بالشريعة والقانون.
وقال في ظلال القرآن (2/1005): (( كان العرب يعرفون من لغتهم معنى (إله)، ومعنى ( لا إله إلا الله )، كانوا يعرفون أن الألوهية تعني ( الحاكمية ) العليا ... كانوا يعلمون أنّ ( لا إله إلا الله ) ثورة على السلطان الأرضي الذي يغتصب أولى خصائص الألوهية، وثورة على الأوضاع التي تقوم على قاعدة هذا الاغتصاب، وخروج على السلطات التي تحكم بشريعة من عندها... ))في ظلال القرآن (2/ 1006)
وقال في ظلال القرآن (2/ 688): « ..ومن ثم إفراده بالحاكمية, فهي أخص خصائص الألوهية »
وقال في ظلال القرآن (2/ 890): « إن أخص خصائص الألوهية- كما أسلفنا- هي الحاكمية »
فظهر لنا من هذه النقول: أن سيد قطب يفسر الألوهية تارة بالحاكمية, وتارة يجعل أخص خصائص الألوهية: الحاكمية.
 ومراده بالحاكمية التي ترتفع حقيقة الألوهية برفعها: الحكم بما أنزل الله دون سواه.
فمن حكم بغير ما أنزل الله يكون كافرا كفرا أكبر, وإن قال لا إله إلا الله, فمجرد تحليل ما حرمه الله يعد ناقضا للألوهية, قال سيد قطب: « وما من شك أن الذين يُحلُّون ما حرم الله ينطبق عليهم وصف الكفر والإثم، ولو قالوا بألسنتهم ألف مرة: لا إله إلا الله محمد رسول الله.. » في ظلال القرآن (1/ 328)
وتفسيره كلمة التوحيد بالحاكمية منقوض من وجوه:
الوجه الأول: أن الإله بمعنى معبود, ولا يعرف في لغة العرب تفسير الإله بالحكم.
فالهمزة واللام والهاء أصل واحد، وهو التعبد.
ويقال: تأله الرجل: إذا تعبد.
الوجه الثاني: أن التعبد فعل العبد, وهو يتضمن غاية الحب مع غاية الذل, فلابد للعبد حتى يكون متعبدا لله أن يفرد الله في طلبه وقصده, فقصر غاية المحبة والتذلل لله وحده هو التعبد.
وهذا الإفراد متعلق بكل ما يدخل تحت مسمى العبادة, ولا يصح حصرها في نوع دون نوع.
الوجه الثالث: كون الحاكمية تدخل تحت مفهوم لا إله إلا الله, لا يدل على أنها أخص وصف فيها, بل ولا يدل على أن مجرد التحاكم لغير الله ينقض أصل لا إله إلا الله.
فليس كل ما دخل تحت لا إله إلا الله إذا انتقض يكون ناقضا لكلمة التوحيد من أصلها.
يوضح هذا: أن إفراد الله بالحلف به داخل تحت كلمة التوحيد, ومع ذلك فإن مجرد الحلف بغير الله لا يكون شركا أكبر, وكذلك مجرد الحكم بغير ما أنزل الله وإن كان داخلا تحت كلمة التوحيد لا يدل على أنه ناقض لكلمة التوحيد من أصلها.
الوجه الرابع: أنهم فسروا العبادة بمعنى: الدينونة لله وحده، والخضوع له وحده، واتباع أمره وحده, سواء تعلق هذا الأمر بشعيرة تعبدية، أو تعلق بتوجيه أخلاقي، أو تعلق بشريعة قانونية, فمن حكم بغير ما أنزل الله لم يكن خاضعا متبعا, ومنازعة الله في الحكم تخرج من حد العبادة.([1])
والجواب: أن العبادة لا تقوم على الخضوع وحده, وإنما تقوم على الخضوع والمحبة, فمن خضع لغير الله من غير محبة لا يكون قد خرج من العبودية, وإن كانت العبودية قد تكون عنده ناقصة.
فهذا خلط في معرفة حقيقة العبادة.
الوجه الخامس: حصرهم الحاكمية في استيراد القوانين والأنظمة من غير شرع الله مع التهوين من الشرك المتعلق بالأوثان.
وهذا ينقضه: قوله تعالى: [ما تعبدون من دونه إلا أسماء سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان إن الحكم إلا لله أمر ألا تعبدوا إلا إياه ذلك الدين القيم] يوسف: ٤٠ 
فقد جعل الله من أعظم ما أمر به, ويدخل تحت حكمه عبادة الله وحده, وهو يتضمن النهي عن اتخاذ الأوثان آلهة تصرف لها أنواع من العبادة.
فهذا هو حقيقة الشرك لا ما يدعيه هؤلاء.

وترتب على ذلك: تكفيره للمجتمعات الإسلامية, بل حتى المؤذنون من غير أن ينطبق على كثير منهم, بل جلهم حد الكفر وضابطه.
وهذا من الغلو, والباطل يرد بالحق لا بالباطل.
قال سيد قطب في ظلال القرآن (2/ 1057): « لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية بلا إله إلا الله, فقد ارتدت البشرية إلى عبادة العباد، وإلى جور الأديان, ونكصت عن لا إله إلا الله، وإن ظل فريق منها يردد على المآذن: «لا إله إلا الله» دون أن يدرك مدلولها، ودون أن يعني هذا المدلول وهو يرددها، ودون أن يرفض شرعية «الحاكمية» التي يدعيها العباد لأنفسهم- وهي مرادف الألوهية- سواء ادعوها كأفراد، أو كتشكيلات تشريعية، أو كشعوب. فالأفراد، كالتشكيلات، كالشعوب، ليست آلهة، فليس لها إذن حق الحاكمية.. إلا أن البشرية عادت إلى الجاهلية، وارتدت عن لا إله إلا الله. فأعطت لهؤلاء العباد خصائص الألوهية. ولم تعد توحد الله، وتخلص له الولاء..
البشرية بجملتها، بما فيها أولئك الذين يرددون على المآذن في مشارق الأرض ومغاربها كلمات: «لا إله إلا الله» بلا مدلول ولا واقع.. وهؤلاء أثقل إثماً وأشد عذاباً يوم القيامة، لأنهم ارتدوا إلى عبادة العباد- من بعد ما تبين لهم الهدى- ومن بعد أن كانوا في دين الله!.. »
وقد شهد له بذلك: يوسف القرضاوي لما قال في كتابه "أولويات الحركة الإسلامية " (110): (( في هذه المرحلة ظهرت كتب سيد قطب التي تمثل المرحلة الأخيرة من تفكيره الذي تنضح بتكفير المجتمع.......وإعلان الجهاد الهجومي على الناس كافة )).
وكونه يحارب من حكم بغير ما أنزل الله لا يجعله يظلم, ويخرج عن الحد الشرعي, ومراد الشارع, فمحاربة الظلم شيء, والوقوع في الظلم والتجني على الشريعة شيء آخر.
ثانيا: موقفه من خبر الآحاد
خبر الآحاد والاحتجاج به في العقيدة مما تميز به أهل السنة والجماعة عن المتكلمين, فمن خصائص المتكلمين ردهم خبر الآحاد في العقيدة.
وقد وافق سيد قطب المتكلمين في هذه الخصيصة.
قال سيد في ظلال القرآن (6/ 4008): (( ...وأحاديث الآحاد لا يؤخذ بها في أمر العقيدة. والمرجع هو القرآن. والتواتر شرط للأخذ بالأحاديث في أصول الاعتقاد )).
ثالثا: موقفه من تأويل نصوص الصفات.
تأويل نصوص الصفات من خصائص المتكلمين, وقد وافقهم في ذلك:
قال في ظلال القرآن (3/ 1762): (( والاستواء على العرش. كناية عن مقام السيطرة العلوية الثابتة الراسخة، باللغة التي يفهمها البشر ويتمثلون بها المعاني، على طريقة القرآن في التصوير (كما فصلنا هذا في فصل التخييل الحسي والتجسيم من كتاب التصوير الفني في القرآن)  .
و «ثم» هنا ليست للتراخي الزماني، إنما هي للبعد المعنوي. فالزمان في هذا المقام لا ظل له. وليست هناك حالة ولا هيئة لم تكن لله- سبحانه- ثم كانت. فهو- سبحانه- منزه عن الحدوث وما يتعلق به من الزمان والمكان. لذلك نجزم بأن «ثم» هنا للبعد المعنوي، ونحن آمنون من أننا لم نتجاوز المنطقة المأمونة التي يحق فيها للعقل البشري أن يحكم ويجزم. لأننا نستند إلى قاعدة كلية في تنزيه الله سبحانه عن تعاقب الهيئات والحالات، وعن مقتضيات الزمان والمكان )).
وقال في ظلال القرآن (5/ 2575): (( ... أما الاستواء على العرش فهو معنى الاستعلاء والسيطرة ولفظ «ثُمَّ» لا يدل على الترتيب الزمني إنما يدل على بعد الرتبة. رتبة الاستواء والاستعلاء )).

قال العلامة محمد صالح العثيمين رحمه الله رداً على سؤال عن تفسير الظلال في مجلة الدعوة (عدد1591 في 9/1/1418هـ) فكان في جوابه:
(( قرأتُ تفسيره لسورة الإخلاص وقد قال قولاً عظيماً فيها مخالفاً لما عليه أهل السُنة والجماعة حيث إنَّ تفسيره لها يدل على أنه يقول بوحدة الوجود وكذلك تفسيره للاستواء بأنه الهيمنة والسيطرة )).
وليس المقام مقام استقصاءٍ لكل ما عنده من أخطاءٍ مخالفةٍ لأصول أهل السنة والجماعة, ولذا سأكتفي بما ذكرتُ؛ تحقيقا للمقصدين السابقين.
ولما كان كانت كتب سيد قطب تغذي التكفير, وتربي الشباب على التكفير ونحوه كان لزاما تحذير المسلمين من هذه الكتب, ومنعهم من قراءتها, وأما ما فيها من حق -وهو قليل- فهو موجود في كتب أهل السنة والجماعة؛ فنستغني بها.

فإن قيل: لماذا لا تمنع من قراءة كتب المعتزلة والأشاعرة في التفسير, وشروح الأحاديث؟
قيل: لغلبة الحق فيها على الباطل, ولأنه يمكن التحرز من الباطل الذي فيها ببيانه, والتنبيه عليه, بخلاف الكتب التي يغلب فيها الباطل على الحق.
ولأنهم ينطلقون من أصول صحيحة في الفقه, والتفسير الذي لا يتعلق بآيات وأحاديث العقيدة.
فقياس كتب سيد قطب على هذه الكتب قياس مع الفارق المؤثر؛ لأن كتب سيد قطب لا تُعنى بالتحقيق العلمي, وليس كتابه تفسيرا للقرآن, وإنما هي تأملات خرجت في كثير منها عن تقرير صحيح, ولم ينطلق فيها من أصول صحيحة, مع تأثير السجن على تأملاته.
وهذه الكتب – كتب سيد قطب- قد انتشرت في وقت غاب على بعض العلماء في بداية الأمر ما فيها من ضلال, مع تغليب حسن الظن, ثم اتضح لكثير منهم ما فيها من باطل, فحذروا منها.
قال الشيخ ابن عثيمين - حفظه الله -: ((من كان ناصحاً لله ورسوله ولإخوانه المسلمين أن يحث الناس على قراءة كتب الأقدمين في التفسير وغير التفسير فهي أبرك وأنفع وأحسن من كتب المتأخرين، أما تفسير سيد قطب - رحمه الله - ففيه طوام - لكن نرجو الله أن يعفو عنه - فيه طوام: كتفسيره للاستواء ، وتفسيره سورة "قل هو الله أحد"، وكذلك وصفه لبعض الرسل بما لا ينبغي أن يصفه به) .
المرجع (من شريط أقوال العلماء في إبطال قواعد ومقالات عدنان عرعور، ثم وَقَّعَ عليها الشيخ محمد بتاريخ 24/2/1421) .

وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار




([1])  انظر: في ظلال القرآن (4/ 1991)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق