حكم الخروج عن المذاهب الأربعة
يحتج بعضهم على منع المسح على الجورب الرقيق بأنه خلاف المذاهب الأربعة
وبعضهم يضيف مصطلح الإجماع فيقول مخالف لإجماع المذاهب الأربعة
موهما أن إجماع المذاهب الأربعة في قوة إجماع الأمة في عصر ما
بحيث إنه لا تجوز مخالفته؛ لكونه حجة!!!
ومن المعلوم عند الأصوليين أن إجماع المذاهب الأربعة لا يعد إجماعا؛ لأنهم بعض الأمة وليسوا جميع الأمة...
ونعني بالأمة هنا مجتهديها..
ولا يكون أيضا حجة...
قال ابن تيمية: «قد اتفق العلماء على أنه ليس إجماع الفقهاء الأربعة أو الخمسة أو الستة أو السبعة أو الثمانية أو التسعة أو العشرة -كمالك والثوري وأبي حنيفة وابن أبي ليلى والأوزاعي والشافعي وأحمد وإسحاق وداود بن علي ومحمد بن جرير- هو الإجماع المعصوم الذي يجب على جميع المسلمين اتباعه»
تبقى مسألة هل يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة في حكم مسألة؟
ليس من محل البحث: الخروج عن المذاهب الأربعة إلى قول شاذ..
ولا الخروج عنها في عامة مسائل الشريعة؛ فالخروج عنها في عامة مسائل الشريعة لا يجوز؛ لأنه يمتنع عادة أن تخطئ المذاهب الأربعة بمجموعها الحق في عامة الشريعة مع كثرة من انتسب إليها من العلماء المحققين والأئمة المجتهدين ....
ولا يجوز الخروج عن المنهجية الاستدلالية التي سلكها الفقهاء في تأسيس مذاهبهم الأربعة واستقرارها
ولا الزيادة عليها
فإحداث منهجية استدلالية في الفقه لم يكن عليها الأوائل مردود على محدثها كائنا من كان؛ لإجماع الأمة عليها...
وإنما محل البحث هو الخروج عن المذاهب الأربعة في بعض مسائل الشريعة
فمن العلماء من منع الخروج؛ سدا لذريعة الوقوع في قول شاذ أو لانضباط المذاهب وحفظ الله الفقه بالمذاهب كما حفظ الله القرآن بالقراءات، أو تعصبا...
ومن المانعين من غلا حتى ضلل المخالف؛ بناء على أصل فاسد في التعامل مع ظواهر النصوص، قال الصاوي المالكي في حاشيته على تفسير الجلالين: «ولا يجوز تقليد ما عدا المذاهب الأربعة، ولو وافق قول الصحابة والحديث الصحيح والآية، فالخارج عن المذاهب الأربعة ضال مضل، وربما أداه ذلك للكفر، لأن الأخذ بظواهر الكتاب والسنة من أصول الكفر»
وقد أحسن الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في الرد عليه بقوله: «أما قوله بأنه لا يجوز الخروج عن المذاهب الأربعة، ولو كانت أقوالهم مخالفة للكتاب والسنة وأقوال الصحابة، فهو قول باطل بالكتاب والسنة وإجماع الصحابة رضي الله عنهم وإجماع الأئمة الأربعة أنفسهم، فالذي ينصره هو الضال المضل»
ومنهم من جوز الخروج عن المذاهب الأربعة في حكم مسألة...
والأقرب هو جواز الخروج عن المذاهب الأربعة لأمور:
الأول: أن الله لم يربط الحق والصواب بقول الكثير من أهل العلم ولا بقول الأكثرية، وإنما ربطه بقيام الدليل الراجح عليه
ولما ربط الله الصواب بقيام الدليل عليه لم يلزم المجتهد بإصابة الحق الذي يريده سبحانه، وإنما كلفه بالاجتهاد فإن أصاب الحق فله أجران وإن لم يصبه فله أجر الاجتهاد...
الثاني: أن أقوال الصحابة والتابعين والأئمة لا تموت بموت قائليها، وعدم أخذ المذاهب بها لا يسقط احتمالية أن تكون هي الحق الذي يريده الله سبحانه، فالحق واحد ، والأدلة تحتمل أوجها...
الثالث: أن الله أمر عند التنازع الرجوع إلى الكتاب والسنة ولم يأمرهم بالرجوع إلى المذاهب الأربعة ولا نهى عن الخروج عنها، قال ابن تيمية: «إذا قال من ليس من أتباع الأئمة كسفيان الثوري والأوزاعي والليث بن سعد ومَن قبلهم ومَن بعدهم من المجتهدين قَولًا يُخالِف قول الأئمة الأربعة، رُدَّ ما تنازعوا فيه إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وكان القولُ الراجحُ هو القول الذي قام عليه الدليل»
الرابع: أن مجتهدي الأمة ليسوا منحصرين في أصحاب المذاهب الأربعة ولا في المنتسبين للمذاهب، كما أن أصل الاجتهاد لا ينقطع إلى قيام الساعة...
فإن قيل: قد ادعى بعض العلماء أن الامة اتفقت في العصور المتأخرة على أن الحق لا يخرج عن المذاهب الأربعة كما ذكر ذلك الزركشي في البحر المحيط والجويني، وقال صاحب المراقي: والمُجْمَعُ اليومَ عليهِ الأَرْبَعَة ** وقَفْوُ غَيْرها الْجَمِيع مَنَعَهُ
وقال ابن حجر الهيتمي - رحمه الله تعالى في الفتاوي: " تقليد غير الأئمة الأربعة رضي الله عنهم لا يجوز في الإفتاء ولا في القضاء. وأما في عمل الإنسان لنفسه فيجوز تقليده لغير الأربعة "
قيل: هذا فرع مسألة خلافية وهي أن الإجماع بعد خلاف يرفع الخلاف
والصواب فيها أن الأقوال لا تموت بموت قائليها وإنما يبقى القول تحتمله الأدلة ويمكن أن يكون هو الحق...
ثم إن الإجماع منعقد على أن المجتهد على اتباع ما أداه إليه ، وأن من قلده فقد سلم...
وقد اتكأ ابن رجب في منع الخروج عن المذاهب الأربعة على أنَّ مذاهب غير الأئمة الاربعة لم تشتهر ولم تنضبط، فربما نُسب إليهم ما لم يقولوه، أو فُهم عنهم ما لم يريدوه، وليس لمذاهبهم من يذبّ عنها، ويُنبّهُ عَلَى ما يقع من الخلل فيها.
إلا أن هذا الاتكاء منقوض بإمكانية تحقيق القول وضبطه لا سيما وأن كتب الآثار والخلاف العالي وغيرها اعتنت بذكر أقول الصحابة والتابعين بالأسانيد مما يسهل ضبطها وتحقيق نسبتها إلى القائل بها، كما أن الأدلة تحتمل هذا القول، قال ابن تيمية: «قد دُوِّنَتْ -ولله الحمد- ألفاظُ مذاهب السلف بأعيانها في غير مصنف كما دونت ألفاظ الأئمة، وَمَنْ نُقِلَ لَفْظُهُ على وجهه كان أبلغ من أن ينقل قوله بالتصرف الذي يقع فيه خطأ كثير، كما نقل الخراسانيون مذهب الشافعي بتصرفهم، فيخطئون كثيرًا فيما ينقلونه، بخلاف مَنْ يَنقل ألفاظه كالعراقيين، فنقل مذاهب السلف المنقولة ألفاظها على وجهها أَصَحُّ مِنْ نقل طائفة من مذاهب الأئمة المشهورين»
قال الشيخ محمد الأمين الشنقيطي: «والذي يظهر -واللَّه تعالى أعلم- أن هذه الاحتمالات التي عللوا بها تقليد غير الأربعة لا تصلح دليلًا على المنع مطلقًا؛ لجواز أن يحقق بعض الفتاوى تحقيقًا ظاهرًا لا لبس فيه»
وأختم بمسألة من طلق ثلاثا في مجلس واحد فقد اختار شيخ الإسلام ابن تيمية مخالفا المذاهب الأربعة أنها تعد طلقة واحدة
وقد أخذ بقول ابن تيمية في العصور المتأخرة كثير من الفقهاء واعتمد قوله في كثير من المحاكم؛ لعموم البلوى وتصحيح الأنكحة وحفظ للانساب...
فلو كان الخروج عن المذاهب الأربعة خطأ او ضلالا لخطأنا أو ضللنا من أفتى بقول ابن تيمية قبل ابن تيمية وبعده..!!!
كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار