السبت، 2 أغسطس 2025

هل يُشترط في جهاد الدفع أن يكون هناك هجوم بري مباشر وفوري من العدو؟

 ✍️ جواب السؤال الثاني

✍️ بقلم: د. أحمد محمد الصادق النجار

الحمد لله، وبعد:
فقد كتبتُ عددًا من المقالات في شأن نازلة السابع من أكتوبر، سعيت فيها إلى تأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًا، وبيّنتُ التكييف الفقهي لما وقع. وفيما يلي الجواب على السؤال الثاني:

❖ السؤال:
هل يُشترط في جهاد الدفع أن يكون هناك هجوم بري مباشر وفوري من العدو؟ أو أن استمرار القتل، والحصار، وتدمير البيوت – ولو جزئيًا – يُعد صيالًا شرعيًا كافيًا لبدء القتال والدفاع دون شروط؟

❖ الجواب:

لا يُشترط في جهاد الدفع أن يكون العدوان هجومًا عاما فوريا مباشرًا أو مستمرًا، بل يكفي لاعتباره "صيالًا شرعيًا" يجب دفعه من حيث الأصل:
وجود عدوان محقق، كالقتل المتكرر، أو تدمير البيوت، سواء كان ذلك مستمرًا أو متقطعًا.

فالقتل اليومي، والاعتقال العشوائي، والتهجير القسري والجزئي، كلها صور من العدوان المتجدد الذي يتحقق به سبب جهاد الدفع، حتى ولو لم يكن الهجوم فوريا ومباشرا.

ومع أن جهاد الدفع من حيث الأصل لا يحتاج إلى شروط، إلا أنه عند التطبيق العملي وتنزيله على واقع خاص فإنه يتطلب في بعض صوره: الاستطاعة الشرعية، وتقدير النتائج والمآلات، وهذا من لوازم إيقاع الفعل الاختياري شرعا وعقلا، ...
فالقتال في جهاد الدفع يكون إما واجبًا مباشرًا أو مقيدًا بالتقدير العقلي والشرعي للمصلحة والمفسدة.
وبهٰذا نَجمع بين:
• أصل شرعي ثابت: وجوب دفع الصائل.
• وقاعدة مقاصدية فقهية: اعتبار المصالح والمفاسد.
• وشرط تطبيقي معتبر: توفر القدرة الشرعية والاستطاعة الواقعية.

وهذا هو التوازن الذي جاءت به الشريعة: الحسم في الأصل، والحكمة في التنزيل.

فـدفع الصائل واجب من حيث الأصل، ولا فرق فيه بين دفع اضطراري لا يُحتمل فيه غير القتال، وبين دفع اختياري تتعدد فيه الوسائل.،

لكن من حيث التطبيق العملي والنزول إلى الواقع يفرق فيه بين قتال دفع اضطراري لا يسع فيه إلا القتال وبين قتال دفع اختياري يسع فيه غير القتال

ففي الثاني: ينظر فيه هل سيؤدي إلى مفسدة أعظم (مثل قتل آلاف من الأبرياء، أو تمكين العدو من اجتياح أعظم)؟
أو هل الوسائل المتاحة غير مجدية وتؤدي لضرر أكبر على الضعفاء؟
فإن غلب على الظن وقوع المفسدة، أو كانت الوسائل المتاحة غير كافية لرد العدوان دون ضرر أكبر، فهنا لا يُلغى الحكم، بل يُؤجَّل تنفيذه حتى تتهيأ أسبابه أو تتغير الظروف.

ومن المعلوم أن الضرر لا يزال بالضرر الأعظم، بل يُرتكب أخف الضررين لدفع أعظمهما، وهذا أصل مقاصدي قطعي..
• فالنبي ﷺ تحمّل حصار الشعب ثلاث سنوات دون قتال، مع أنه كان مظلومًا محاصرًا.
• ولم يُقاتل قريشًا في مكة رغم شدة الأذى، لأن الواقع آنذاك لم يكن يسمح بمواجهة تحقق مصلحة راجحة.
وقد ذكر الأئمة المحققون أن هذه الأحكام لم تنسخ وإنما يعمل بها زمن الاستضعاف...

• ❖ تنبيه مهم:

القول بأن تقسيم جهاد الدفع إلى "اضطراري" و"اختياري" تقسيمٌ محدث لا أصل له، قول غير دقيق، ويُرد عليه من وجهين:

أولًا: هذا ليس تقسيمًا بديلًا أو مُحدثًا، بل تفصيل واقعي داخل إطار جهاد الدفع نفسه، يُقصد به بيان اختلاف الحال من جهة الوسائل المتاحة.
• فثمة حالات لا بد فيها من القتال (اضطراري).
• وأخرى يُمكن فيها اختيار وسيلة أنجع وأقل مفسدة (اختياري).

ثانيا: أن المقصود بقولنا "اضطراري" و"اختياري"، هو: هل هناك سعة في الوسائل أو أن القتال هو الوسيلة الوحيدة المتاحة؟
• فإن كان القتال لا مفرّ منه، تعيّن ووجب (وهو ما يُسمّى دفعًا اضطراريًا).
• وإن كان يمكن الدفع بوسائل أخرى، أو تأجيل المواجهة لتقدير مصلحةٍ أعظم، فهذا يُعد دفعًا اختياريًا، ويخضع لفقه المآلات والترجيح

الجمعة، 1 أغسطس 2025

التفريق بين قتال الدفع الاضطراري وقتال الدفع الاختياري [حرب 7 أكتوبر نموذجا]

 ✍️ د. أحمد محمد الصادق النجار

فقد كتبتُ عددًا من المقالات في شأن نازلة السابع من أكتوبر، سعيت فيها لتأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًا، وبيّنتُ التكييف الفقهي لما وقع، ثم أعقبت ذلك ببيان الحكم الشرعي، وركزتُ في تلك المقالات على حكم شروع حماس ومن معها من الفصائل في القتال، مع التفريق بين هذا الحكم، وبين ما يخصّ أهل غزة الذين نزل بهم البلاء، وما ينبغي من فقه خاص في التعامل مع مصابهم.

وقد أثارت هذه المقالات عند بعض الفضلاء من المشايخ وطلبة العلم أسئلة دقيقة، ونقاشات علمية رفيعة، عكست رغبةً جادّة في تحرير المسألة وتأصيلها، بعيدًا عن غوغائية الجدل، ومواطن الطعن والتصنيف، وسعيًا جادًا لفتح أبواب الفهم الدقيق للفروق بين باب النصرة وباب التخذيل.

فما كان مني إلا أن وجدتُ نفسي منقادًا للمشاركة في هذا التحقيق، سوقَ المُكرَه لا المُختار، رجاءً أن يجعل الله لما أكتب قبولًا في السماء والأرض، وسائلاً منه سبحانه الإخلاص في القول، والتوفيق في التعبير، والإصابة في الفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

✍️ جواب السؤال الأول:

السؤال: ما المرجع الفقهي الذي اعتمدتَ عليه في التفريق بين "جهاد الدفع الاضطراري" و"الاختياري"؟

الجواب:

إن النوازل التي تنزل بالأمة في هذا العصر، وإن كانت لها أصول في كتب الفقهاء، فإن تنزيل أحكامها لا يكون على وجه المطابقة التامة لما في تلك الكتب؛ لاختلاف الوقائع وتغيّر صورها، إذ إن الفقهاء حينما قسّموا الجهاد إلى جهاد طلب وجهاد دفع، إنما قسّموه لتقريب فهم الأحكام، لا لحصر الواقع فيه.

وفي كثير من الأحوال المعاصرة، لا يتحقّق جهاد الدفع على صورته الخالصة، ولا جهاد الطلب على وجهه الصرف، وإنما تتداخل الأحوال، وتتشابك الوقائع، فيستدعي ذلك من الفقيه أن يُحدِث تفريقًا يناسب الواقع، حتى يُنزّل الحكم الشرعي بدقة وعدل، محافظًا على مقاصد الشريعة وكلياتها.

ومن هذا المنطلق جاء التفريق الذي اعتمدته بين:

• جهاد الدفع الاضطراري: وهو الذي يتنزل عليه كلام الفقهاء القدامى، ومن أخص خصائصه أنه جهاد ضرورة واضطرار، لا خيار فيه، كحال من باغته العدو في داره، فصار القتال هو السبيل الوحيد للبقاء، ودفع العدوان والحفاظ على الارواح.

• جهاد الدفع الاختياري: وهو الذي تنتفي فيه صفة الاضطرار؛ لوجود نوع من الهدوء النسبي أو الاستقرار الجزئي، حيث يكون العدو محتلًا للأرض، لكنه يُبقي لأهلها مساحةً من الحياة، وقد يسمح لهم باختيار من يدير شؤونهم، وإن كانت يده لا تزال قائمة، أو سلطته حاضرة جزئيًا.

وعليه، فإن هذا النوع -أعني الاختياري-لا يُنزّل عليه جميع أحكام الدفع الاضطراري، وإن اشتركا في اسم "جهاد الدفع"، لاختلاف الدوافع والمآلات، مما يوجب تفصيلًا في الحكم الشرعي. فالاضطرار يقتضي أحكامًا تناسبه، فيباح فيه ما لا يباح في غيره (كإسقاط الشروط المتعلقة بالإذن، وو ).
أما الدفع الاختياري، فلا تجري عليه هذه الأحكام بذات الوجه؛ لأنه لا ينبني على ضرورة ملجئة، بل على تقدير للمصلحة والمفسدة، وقراءة للمآلات، وتحقيق للمقاصد.

وفي هذا السياق، فإن الحديث عن غير القتال في حال الدفع الاضطراري تمكينٌ للمحتل وتخذيلٌ للمظلومين، بينما الحديث عن غير القتال أو العمل السياسي أو الدعوي في الدفع الاختياري معتبر شرعًا اي تجري عليه الأحكام في الشريعة، ولا يدخل في باب التخذيل، بل هو وجه من وجوه النصرة، إذا قُدّر أن فيه مصلحة راجحة، أو دفعًا لمفسدة متحققة أو راجحة.

فهذا التفريق، وإن لم يُذكر بصيغته هذه في كتب الأوّلين، إلا أن معناه مستفاد من كلامهم، ومستنِد إلى قواعد الشريعة وكلياتها، ومنها:
• قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات": تُطبّق في الدفع الاضطراري دون الاختياري.
• قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح": توجب التريث في الدفع الاختياري عند وجود مفاسد راجحة.
• قاعدة: "النظر في المآلات": وهي أصل عظيم في فقه النوازل.
• مقصد حفظ النفس: قد يقدّم في بعض السياقات على القتال نفسه.

وفي ختام جواب السؤال الأول أقول: التفريق بين "الاضطراري" و"الاختياري" ليس اصطلاحًا حادثًا من خارج التراث، بل هو امتدادٌ لفهمٍ مقاصدي، وتطبيق لأصول فقهية متينة، ومراعاة لتغير الزمان والمكان والحال، وهو اجتهادٌ مقصده بيان الحق..