السبت، 30 أبريل 2016

مناقشة الشيخين عبيد الجابري ومحمد المدخلي في مسألة التفريق بين خلاف السنة والبدعة


مناقشة الشيخين عبيد الجابري ومحمد المدخلي في مسألة
التفريق بين خلاف السنة والبدعة

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فمعرفة الفروق بين المصطلحات والمسائل من أهم ما يحرص عليه طالب العلم, ويجتهد فيه.
وهو علم يحتاج إلى فقه دقيق, وملكة راسخة.
والمصطلحات قد تكون الفروق بينها لفظية فلا تتغير الحقائق العلمية, وقد تكون معنوية فتتغير الحقائق العلمية.
والذي يفتي ينبغي أن يكون مطلعا على هذه الفروق؛ ليضع الأشياء في موضعها.
وهو نوع من أنواع الفقه.
وقد اطلعتُ على خطأ ظاهر في جوابِ سؤالٍ وُجِّه إلى الشيخين عبيد الجابري ومحمد المدخلي في التفريق بين خلاف السنة والبدعة.
فقد سئل الشيخ عبيد الجابري كما في موقع ميراث الأنبياء عن الفرق بين قولهم هذا بدعة وقولهم هذا خلاف السنة؟
فأجاب: المعنى واحد عندي. نعم.
وسئل الشيخ محمد المدخلي عن ذلك, فأجاب:  خلاف السنة: أن يكون الرجل ما هو مبتدع، فأفتى واجتهد، مثل ما يحصل عند الأئمة - رحمهم الله- الفقهاء والمُفتون، بل كما حصل عند الصحابة - رضي الله تعالى عنهم- أبو بكر، عمر، عثمان، علي -رضي الله عنهم جميعًا-، ما من واحدٍ منهم إلَّا قال قولًا خالفَ فيه، مُجْتهدًا، وبعضهم تبيَّن له، وبعض المرات يَتَبَيَّن له أنَّ ما اجتهد فيه خلاف ما جاء عن  النبي - صلَّى الله عليه سلَّم- فَتَجِده يرجع، وأحيانًا لا يَتَبَيَّن له؛ فهذا معنى قولنا: هذا خلاف السنة.
أمَّا البدعة فلا، البدعة: هي الإحداث في الدِّين لشيءٍ يُتَقَرَّب به ويُتَعَبَّد به على غير مثال، ليس له أصلٌ في الدين، نعم هذا صحيح.
هذا هو الفرق بين هذا وذاك، ولعلَّ الابن السائل يرجع ما ذكرناه في كتاب شيخ الإسلام - رحمه الله تعالى- رفع الملام عن الأئمة الأعلام، يجتهد العالم يقول القول بِخِلاف السُّنة، غابت عنه السُّنة، لا يحفظ فيها شيئًا، ما بَلَغَهُ شيء عن النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم-، فاجتهد، فنقول: هذا القول خلاف السنة، أَقَوْل رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم- أَحَق أن يُتَبَّع أم قول أبي بكر وعمر؟ يقول عبد الله بن عمر، و ابن عباس حديثه -رضي الله عنهم جميعًا - مشهور عندكم، وكذا سالم مَوْلَى، أو سالم بن عبد الله بن عمر قال: "قول رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- أحق من قول عبد الله ومن قولِ عمر" أبوه وَجَدّه، فهذا هو الذي يُقال فيه أنه خلاف السنة.
أمَّا البدعة فلا، الابتداع هو الإحداث في دين الله، ويبقى المرء عليه ويُنَافِح عنه.
هذا هو الفرق بين هذا وذاك.اهـ

وقد أبعد الشيخان النُّجعة, وخالفا صنيع الأئمة.
وهاتان الإجابتان: متناقضتان, فالشيخ عبيد ينفي الفرق بينهما, والشيخ محمد يثبت فرقا غريبا؛ فجعل خلاف السنة في المجتهد الذي يأتي بقولٍ ولم يبلغه أن السنة بخلافه, فمن كان مجتهدا وقال بقول يخالف السنة وهو لا يعلم بها, فنسمي قوله: خلاف السنة.
ولما جاء الشيخ إلى البدعة لم ينظر فيها إلى القائل.
مع الخطأ في قوله عن البدعة: "ليس له أصل في الدين" فيكون بهذا قد نفى البدعة الإضافية.
وليته تأمل في كلامه قبل أن يُنشَر؛ حتى لا يغتر به المغترون, وما أكثرهم.
ويكفي في بطلان ما ذكر الشيخان نقضه:
فينقض جواب الشيخ عبيد بـ: ترك سنة الفجر,  وتطويل الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا, ونحو ذلك من المستحبات.
فيقال: عن ترك سنة الفجر, وتطويل الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا خلاف السنة, ولا يقال: بدعة.
وممن فرق بينهما: شيخ الإسلام فقد جاء في مجموع الفتاوى (23/ 121): (( وسئل :
عما يصنعه أئمة هذا الزمان من قراءة سورة الأنعام في رمضان في ركعة واحدة ليلة الجمعة هل هي بدعة أم لا ؟.
فأجاب : نعم, بدعة ، فإنه لم ينقل عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن أحد من الصحابة والتابعين ولا غيرهم من الأئمة أنهم تحروا ذلك وإنما عمدة من يفعله ما نقل عن مجاهد وغيره من أن سورة الأنعام نزلت جملة مشيعة بسبعين ألف ملك فاقرءوها جملة لأنها نزلت جملة وهذا استدلال ضعيف
وفي قراءتها جملة من الوجوه المكروهة أمور . منها : أن فاعل ذلك يطول الركعة الثانية من الصلاة على الأولى تطويلا فاحشا , والسنة تطويل الأولى على الثانية كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم.
 ومنها تطويل آخر قيام الليل على أوله وهو خلاف السنة فإنه كان يطول أوائل ما كان يصليه من الركعات على أواخرها والله أعلم )).

وينقض كلام الشيح محمد المدخلي بـ: أن الأئمة في حكمهم على الفعل بأنه بدعة أو خلاف السنة لم ينظروا إلى القائل هل هو مجتهد أو مبتدع؟
ومن ذلك:
-قراءة القرآن في ركعة.
عن سعيد بن جبير أنه قال: قرأت القرآن في ركعة في البيت.
قال الذهبي معقباً على أثر سعيد: هذا خلاف السنة. انظر: السير: 4/325.
- الخرص, فقد حكي عن الشعبي أن الخرص بدعة.
وقد قال بالخرص:  عمر بن الخطاب، وسهل بن أبي حثمة، ومروان، والقاسم بن محمد، والحسن، وعطاء، والزهري، وعمرو بن دينار، وعبد الكريم بن أبي المخارق، ومالك، والشافعي، وأبو عبيد وأبو ثور، وأكثر أهل العلم. انظر: المغني لابن قدامة (3/ 14)
-الاقتصار على الفاتحة.
فقد جاء في مطالب أولي النهى في شرح غاية المنتهى (1/ 436): (( ويكره اقتصار مصلٍّ على سورة الفاتحة، لأنه خلاف السنة )).

والصواب في الفرق بين خلاف السنة والبدعة مبني على معرفة معنى الخلاف, ومعنى السنة:
-الخِلافُ: المُضادّةُ.
وقد خالَفه مُخالَفة وخِلافاً.
وتَخالَفَ الأَمْران واخْتَلَفا: لم يَتَّفِقا, وكلُّ ما لم يَتَساوَ فقد تَخالف واخْتَلَفَ. انظر: لسان العرب (9/ 82)
- السنة: تطلق على: الطريقة المسلوكة الموافقة لهدي النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 120): (( والسنة: هي الطريقة المسلوكة، فيشمل ذلك التمسك بما كان عليه هو وخلفاؤه الراشدون من الاعتقادات والأعمال والأقوال، وهذه هي السنة الكاملة، ولهذا كان السلف قديما لا يطلقون اسم السنة إلا على ما يشمل ذلك كله ))
وتطلق على: الاعتقاد, كما عليه جماعة من أهل الاعتقاد.
قال ابن رجب في جامع العلوم والحكم (2/ 120): (( وكثير من العلماء المتأخرين يخص اسم السنة بما يتعلق بالاعتقادات، لأنها أصل الدين، والمخالف فيها على خطر عظيم ))
وتطلق على: المستحب, وهذا مصطلح الفقهاء.
وعليه: فهذه الإضافة وهي: خلاف السنة يراد بها:
1-ضد الطريقة المشروعة.
2- ضد الاعتقاد الصحيح.
ومنه: قول شيخ الإسلام في درء تعارض العقل والنقل (3/ 374): (( وأهل الكلام الذين ذمهم السلف لا يخلو كلام أحد منهم على مخالفة السنة ورد بعض ما أخبر به الرسول كالجهمية والمشبهة والخوارج والروافض والقدرية والمرجئة ))
3-ضد المستحب.
ومن الأمثلة: ترك الفجر, أو ترك سنة الظهر, ونحو ذلك.

فعلى المعنى الأول والثاني: تجامع البدعة.
والبدع, منها: الاعتقادي والقولي والعملي, ومنها: المفسق والمكفر.
فإذا أريد بالسنة: الطريقة المشروعة, فضدها: البدعة.
وعلى المعنى الثاني: تفارق البدعة, فضد المستحب: المكروه, وخلاف الأولى.
قال ابن حجر في فتح الباري لابن حجر (11/ 17): (( ولا يلزم من ترك المستحب الكراهة, بل يكون خلاف الأولى ))
وإذا أريد بالسنة: المستحب, فضدها: المكروه, أو خلاف الأولى.
وهذا الضد للمعنى الثاني قد ينقلب إلى البدعة إذا وجد شرطها, وتحقق ضابطها.
قال الشيخ صالح آل الشيخ: ((...وهذا القول يعطينا فرقاً مهماً بين البدعة ومخالفة السنة:
وهي أن البدعة مُلتَزَم بها ، وأما ما فُعِل على غير السنة ولم يُلْتَزَمْ به فإنه يقال خلاف السنة ، فإذا التزم به صار بدعة .
وهذا الفرق نبه العلماء على أنه فرق دقيق مهم بين البدعة ومخالفة السنة .
فالضابط بين العمل المبتدع وبين العمل المخالف للسنة أن يكون العمل هل هو الملتزم به أم غير ملتزم به ؟
فإذا عمل على خلاف السنة يتعبد بذلك مرة أو مرتين ما التزم به من جهة العدد أو من جهة الهيئة أو من جهة الزمن أو من جهة المكان فإنه يُقال خلاف السنة .
أما إذا عمل عملاً يريد به التقرب إلى الله جل وعلا والتزم به عدداً مخالفاً للسنة أو التزم به هيئةً مخالفةً للسنة أو التزم به زماناً مخالفاً للسنة أو التزم به مكاناً مخالفاً للسنة صار بدعةً .
هذه أربعة أشياء في العدد والهيئة والزمان والمكان .
فمن أخطأ السنة و تعبد ولم يلتزم يقال هذا خالف السنة ، و أما إذا التزم بطريقته وواظب عليها فإنه يقال هذا صاحب بدعة وهذا العمل بدعة )). شرح العقيدة الواسطية (2/ 267)
وهنا نجد أن الشيخ يجعل الفرق بينهما من جهة الالتزام.

فلابد من التفصيل في تحرير الفرق بين خلاف السنة والبدعة, وأيضا لابد من النظر في مصطلح القائل به, فإطلاق الفقهاء قد يختلف على إطلاق أهل العقائد, وهكذا.
والفقهاء أنفسهم يختلفون في تفسير السنة, فينبغى مراعاة هذا أيضا.
ولابد من مراعاة ضابط البدعة.
هذا ما تيسر تحريره.
والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


هناك تعليق واحد:

  1. بارك الله فيك يا شيخ وأحسن الله إليك، من أهم المهمات معرفة وضبط الالفاظ والمصطلحات ، ولهذا جاء عن بعض السلف أن (الفقه هو معرفة الفروق)،أسأل الله أن يحفظكم شيخنا أحمد النجار وأسأل الله أن ييسر زيارة لكم إلى المغرب

    ردحذف