الخميس، 28 يوليو 2022

حكم طلب المدد والغوث من الميت (مناقشة دار الإفتاء المصربة)

حكم طلب المدد والغوث من الميت


إن دعوى أن طلب الغوث من الميت وسؤاله من دون الله جائز من باب أنه سبب لا مؤثر: قائمة على أصلين فاسدين:

الأول: اعتقاد أن استحقاق الألوهية أو اعتقاد الربوبية من تمام ماهية العبادة، فلا يشرك الإنسان في العبادة إلا إذا صاحبها هذا الاعتقاد.

الثاني: أن شرك العرب في إثبات فاعل مستقل يماثل الله في الذات والصفات والأفعال.

أما الأصل الأول الفاسد فيبطله وجوه:

الوجه الأول: عدم التسليم بهذه الدعوى, إذ لا دليل عليها. 

الوجه الثاني: المعارضة, فقد أخبر تعالى عن قول المشركين: [ ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى] فالآية صريحة في بيان أن عبادتهم لأصنامهم لم يصحبها اعتقاد استحقاق الألوهية أو إثبات فاعل مستقل مع الله, فقد اشتمل قولهم على نفي وإثبات؛ مما يدل على الحصر, فهم ما عبدوهم إلى لأجل القربة والشفاعة, لا لاعتقاد الربوبية فيهم, وهذا يدل على أن الاعتفاد الفاسد خارج عن ماهية العبادة

وكذلك في قوله تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنْفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَؤُلَاءِ شُفَعَاؤُنَا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَتُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِمَا لَا يَعْلَمُ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [يونس: 18]

 فجعل سبب عبادنهم لها أنها شافعة لهم, لا أنهم يعتقدون فيها اعتقادا فاسدا.

الوجه الثالث: أن السؤال المخصوص عبادة في نفسه؛ لأن الله أمر به وسماه عبادة وجعل صرفه لغير الله شركا, قال تعالى: {وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ} [غافر: 60]

الوجه الرابع: أن اعتقاد نوع من النفع والضر في المسئول من دون الله مصاحب -واقعا- للسؤال ولا ينفك عنه, فلو لم يعتقد فيه اعتقادا فاسدا لما سأله وطلب منه الغوث وهو ميت, وهو من جنس فعل مشركي العرب فاتخذوهم آلهة ليكونوا لهم ناصرين, وإن لم يعتقدوا مماثلته لله, فهذا الاعتقاد ليس من ماهية العبادة لكنه لا ينفك عنها واقعا.

الوجه الخامس: أن الذين يطلبون المدد والغوث من الميت تراهم يخافون منه كخوفهم من الله ويعتقدون أنه يضرهم, فلو كان الاعتقاد الفاسد من ماهية العبادة لاقتضى الواقع: المنع لا التجويز.

والخلاصة: أن العبادة ليس من ماهيتها الاعتقاد, فمجرد صرف العبادة لغير الله شرك أكبر من جنس شرك المشركين.

فالنصوص جعلت الفعل نفسه عبادة وإن لم يصاحبها اعتقاد فاسد, ووجود من أشرك في نوع متعلق بالربوبية لا يجعل الاعتقاد من ماهية العبادة.


وأما الأصل الفاسد الثاني, وهو أن شرك العرب كان في إثبات فاعل مستقل مع الله يماثله في الذات والصفات والأفعال. فيبطله وجوه:

الوجه الأول: أن هذه دعوى باطلة تبطلها أن مشركي العرب كانوا يقرون بأن الله خالق كل شيء, ومن قال منهم إن الملائكة بنات الله لم يجعلوها خالقة مع الله.

الوجه الثاني: أن الله ذكر سبب كفر مشركي العرب وهو أنهم صرفوا العبادة لغير الله مع أنهم مقرون بالصانع وأنه لا خالق ولا مدبر إلا الله وحده, ولهذا كان يحتج عليهم بإثباتهم أن الله منفرد بالخلق والملك على ما أنكروه من استحقاق الله العبادة وحده, كما قال تعالى: {وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ} [العنكبوت: 61] وقال {وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلَّا وَهُمْ مُشْرِكُونَ} [يوسف: 106]

قال القرطبي في تفسير القرطبي (16/ 64): (قوله تعالى:" ولئن سألتهم" يعني المشركين." من خلق السماوات والأرض ليقولن خلقهن العزيز العليم" فأقروا له بالخلق والإيجاد، ثم عبدوا معه غيره جهلا منهم). 

ولا يعني ذلك أن جنس المشركين لم يقعوا في كفر آخر ككفر من أثبت أن لله ولدا, وأن الله لا يحيي الموتى, إلا أنهم لم يصرفوا العبادة لغير الله بسبب كونها فاعلة مماثلة لله في الذات والصفات والأفعال, فلم يكن الداعي إلى صرف العبادة لغير الله أن معبوداتهم تماثل الله في ذاته وأفعاله.

الوجه الثالث: أن من أثبت أن الملائكة بنات الله من العرب لم يجعلوا الملائكة أندادا لله في الذات والأفعال وإنما كانوا يثبتون الملائكة لله من باب التولد, ولابد أن يكون حادثا ومن أصلين, وقد أبطل الله ذلك بأن التولد لابد فيه من صاحبة, والصاحبة مستحيلة في حق الله.

فمن عبد الملائكة لم يعبدها لكونها تماثل الله في ذاته أو تشاركه في ربوبيته, ففي الصحيحين ( ان المشركين كانوا يقولون في تلبيتهم : لبيك لا شريك لك ، الا شريكا هو لك تملكه وما ملك ).

الوجه الرابع: أن من وقع من الكفار في إثبات من يستقل بفعل الشر لم يجعلوه مماثلا لله في الذات والصفات والأفعال.

قال الرازي في مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (2/ 344): (اعلم أنه ليس في العالم أحد يثبت لله شريكا يساويه في الوجود والقدرة والعلم والحكمة، وهذا مما لم يوجد إلى الآن).


والخلاصة: أن شرك العرب ليس محصورا في اعتقاد نوع نفع وضر في غير الله, ولم يكن العرب يعتقدون خالقا غير الله, ولم يثبتوا فاعلا مستقلا يماثل الله في الذات والأفعال, بل ليس في العالم من يثبت مماثلا للصانع في الذات والأفعال.


وما ذهبت إليه دار الإفتاء المصرية من تجويز طلب الغوث من الميت؛ لأنه سبب لا مؤثر: قول باطل يناقض الدين من أصله, ويوقع في الشرك الأكبر الذي هو من جنس شرك كفار قريش.


كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

أستاذ مساعد بكلية علوم الشريعة-المرقب

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق