الجمعة، 1 أغسطس 2025

التفريق بين قتال الدفع الاضطراري وقتال الدفع الاختياري [حرب 7 أكتوبر نموذجا]

 ✍️ د. أحمد محمد الصادق النجار

فقد كتبتُ عددًا من المقالات في شأن نازلة السابع من أكتوبر، سعيت فيها لتأصيل المسألة تأصيلًا شرعيًا، وبيّنتُ التكييف الفقهي لما وقع، ثم أعقبت ذلك ببيان الحكم الشرعي، وركزتُ في تلك المقالات على حكم شروع حماس ومن معها من الفصائل في القتال، مع التفريق بين هذا الحكم، وبين ما يخصّ أهل غزة الذين نزل بهم البلاء، وما ينبغي من فقه خاص في التعامل مع مصابهم.

وقد أثارت هذه المقالات عند بعض الفضلاء من المشايخ وطلبة العلم أسئلة دقيقة، ونقاشات علمية رفيعة، عكست رغبةً جادّة في تحرير المسألة وتأصيلها، بعيدًا عن غوغائية الجدل، ومواطن الطعن والتصنيف، وسعيًا جادًا لفتح أبواب الفهم الدقيق للفروق بين باب النصرة وباب التخذيل.

فما كان مني إلا أن وجدتُ نفسي منقادًا للمشاركة في هذا التحقيق، سوقَ المُكرَه لا المُختار، رجاءً أن يجعل الله لما أكتب قبولًا في السماء والأرض، وسائلاً منه سبحانه الإخلاص في القول، والتوفيق في التعبير، والإصابة في الفهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

✍️ جواب السؤال الأول:

السؤال: ما المرجع الفقهي الذي اعتمدتَ عليه في التفريق بين "جهاد الدفع الاضطراري" و"الاختياري"؟

الجواب:

إن النوازل التي تنزل بالأمة في هذا العصر، وإن كانت لها أصول في كتب الفقهاء، فإن تنزيل أحكامها لا يكون على وجه المطابقة التامة لما في تلك الكتب؛ لاختلاف الوقائع وتغيّر صورها، إذ إن الفقهاء حينما قسّموا الجهاد إلى جهاد طلب وجهاد دفع، إنما قسّموه لتقريب فهم الأحكام، لا لحصر الواقع فيه.

وفي كثير من الأحوال المعاصرة، لا يتحقّق جهاد الدفع على صورته الخالصة، ولا جهاد الطلب على وجهه الصرف، وإنما تتداخل الأحوال، وتتشابك الوقائع، فيستدعي ذلك من الفقيه أن يُحدِث تفريقًا يناسب الواقع، حتى يُنزّل الحكم الشرعي بدقة وعدل، محافظًا على مقاصد الشريعة وكلياتها.

ومن هذا المنطلق جاء التفريق الذي اعتمدته بين:

• جهاد الدفع الاضطراري: وهو الذي يتنزل عليه كلام الفقهاء القدامى، ومن أخص خصائصه أنه جهاد ضرورة واضطرار، لا خيار فيه، كحال من باغته العدو في داره، فصار القتال هو السبيل الوحيد للبقاء، ودفع العدوان والحفاظ على الارواح.

• جهاد الدفع الاختياري: وهو الذي تنتفي فيه صفة الاضطرار؛ لوجود نوع من الهدوء النسبي أو الاستقرار الجزئي، حيث يكون العدو محتلًا للأرض، لكنه يُبقي لأهلها مساحةً من الحياة، وقد يسمح لهم باختيار من يدير شؤونهم، وإن كانت يده لا تزال قائمة، أو سلطته حاضرة جزئيًا.

وعليه، فإن هذا النوع -أعني الاختياري-لا يُنزّل عليه جميع أحكام الدفع الاضطراري، وإن اشتركا في اسم "جهاد الدفع"، لاختلاف الدوافع والمآلات، مما يوجب تفصيلًا في الحكم الشرعي. فالاضطرار يقتضي أحكامًا تناسبه، فيباح فيه ما لا يباح في غيره (كإسقاط الشروط المتعلقة بالإذن، وو ).
أما الدفع الاختياري، فلا تجري عليه هذه الأحكام بذات الوجه؛ لأنه لا ينبني على ضرورة ملجئة، بل على تقدير للمصلحة والمفسدة، وقراءة للمآلات، وتحقيق للمقاصد.

وفي هذا السياق، فإن الحديث عن غير القتال في حال الدفع الاضطراري تمكينٌ للمحتل وتخذيلٌ للمظلومين، بينما الحديث عن غير القتال أو العمل السياسي أو الدعوي في الدفع الاختياري معتبر شرعًا اي تجري عليه الأحكام في الشريعة، ولا يدخل في باب التخذيل، بل هو وجه من وجوه النصرة، إذا قُدّر أن فيه مصلحة راجحة، أو دفعًا لمفسدة متحققة أو راجحة.

فهذا التفريق، وإن لم يُذكر بصيغته هذه في كتب الأوّلين، إلا أن معناه مستفاد من كلامهم، ومستنِد إلى قواعد الشريعة وكلياتها، ومنها:
• قاعدة: "الضرورات تبيح المحظورات": تُطبّق في الدفع الاضطراري دون الاختياري.
• قاعدة: "درء المفاسد مقدم على جلب المصالح": توجب التريث في الدفع الاختياري عند وجود مفاسد راجحة.
• قاعدة: "النظر في المآلات": وهي أصل عظيم في فقه النوازل.
• مقصد حفظ النفس: قد يقدّم في بعض السياقات على القتال نفسه.

وفي ختام جواب السؤال الأول أقول: التفريق بين "الاضطراري" و"الاختياري" ليس اصطلاحًا حادثًا من خارج التراث، بل هو امتدادٌ لفهمٍ مقاصدي، وتطبيق لأصول فقهية متينة، ومراعاة لتغير الزمان والمكان والحال، وهو اجتهادٌ مقصده بيان الحق..

هناك تعليق واحد: