الأحد، 28 فبراير 2016

منهج "سمعنا وأطعنا" لآحاد أهل العلم مطلقا



منهج "سمعنا وأطعنا" لآحاد أهل العلم مطلقا
الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فمن البدع المحدثة قديما وحديثا: السمع والطاعة المطلقة لآحاد العلماء في أبواب معينة في الدين؛ مغلِّفين ذلك باتباع العلماء, لكونهم قد غربلوا لنا الأحاديث, فميزوا صحيحها من ضعيفها, واستنبطوا منها الأحكام, فأعطونا النقي الصافي, ومنعونا المزيف المغشوش, وأنهم خبروا الرجال وعرفوا أحوالهم, فلا نحتاج بعدهم إلى أن نبحث وننظر, أو نظن أن الدليل بخلاف قولهم, فالقول ما قال الشيخ المعظَّم, والدليل ما دلل به وعليه, وما سواه فضعيف, أو مرجوح, أو لا يدل بأي وجهٍ من الدلالة على قول مخالفه, ومن حكم عليه آحاد العلم بالتبديع فالواجب اتباعهم مطلقا والانصياع لدليلهم, ولسان حالهم: وإن كان خطأً في نفس الأمر؛ لأنهم أعلم .
وهذه المحدثة عُرف بها متعصبة المذاهب قديما, كمن كان يتعصب لأبي حنيفة, أو مالك, أو الشافعي, أو أحمد, وعُرف بها بعض المعاصرين ممن يتعصب لبعض الأشياخ دون غيرهم, كالتعصب للشيخ عبيد الجابري أو الشيخ محمد المدخلي أو الشيخ عبد الله البخاري – ولولا عظم الفتنة ما سميتهم-.
وقد قال أحد المتعصبة: ( وفعلك هذا يبين مدى اتباعك لتوجيهات ونصائح أهل العلم خاصة أكابرهم من غير تردد تطبيقا لمنهج سمعنا وأطعنا ) .
وكذا عُرف بها أهل البدع من التكفيرين وغيرهم.
فتجدهم يتعصبون لأئمتهم ومعظميهم دون غيرهم في أبواب معينة في الدين, كمتعصبة المذاهب فإنهم يتعصبون لأئمتهم في المسائل الفقهية, وكمن يتعصب للمشايخ الثلاثة في المنهج, ومن يتعصب لأرباب الفكر التكفيري فيما يتعلق بالحكام, وهكذا.
والمسائل التي يُتعصَّب عليها لأجل قول فلان وفلان قد تكون مما يسوغ فيها الخلاف, وقد تكون مما لا يسوغ فيها الخلاف, ومضادة لمذهب السلف, والثانية أشد من الأولى؛ لجمع أهلها بين مخالفة أصل من أصول الدين, والتعصب الممقوت الممنوع.
والسمع والطاعة المطلقة لآحاد أهل العلم في نفسها قد دلت النصوص الشرعية, ومقاصد الشريعة, والقواعد العامة على تحريمها, والنهي عنها.
قال تعالى: يأيها الذين ءامنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم
فلم يجعل الله الطاعة المطلقة لأولي الأمر, ولذا لم يُعِد فعل الأمر:"أطيعوا", وإنما جعل طاعة أهل العلم تبعا لطاعة الله ورسوله صلى الله عليه وسلم, فدل ذلك على أن الطاعة المطلقة لا تكون لآحاد العلماء.
قال ابن القيم في إعلام الموقعين (1/ 48): (( فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه فإنه أوتي الكتاب ومثله معه ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا بل حذف الفعل وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة كما صح عنه ص - أنه قال لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق ))
وقال تعالى: { فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا }
فأمر الله عند التنازع بالرد إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ للعصمة, ولذا إذا أجمع المجتهدون فلا يرد إلى الكتاب والسنة؛ لأن الله قد علق الرد بشرط, ينتفي المشروط بانتفائه.
ووجه كون إجماع الأمة إذا ثبت فلا نرد الأمر إلى الكتاب والسنة: أن الأمة معصومة, وهذا لا ينطبق على آحاد العلماء, فلا تكون طاعتهم مستقلة.
ومنهج "سمعنا وأطعنا": مخالف أيضا لمقاصد الشريعة؛ لأنه ينافي اجتماع كلمة المسلمين على الحق, والتآلف, فهو يدعوا للفرقة بين المسلمين, والشحناء, والتباغض.
ومخالف أيضا لقواعد الدين العامة, كالولاء والبراء على الحق, فتصبح الموالاة والمعادة على آراء أشخاص محضة, لا على الحق.
وهو يؤدي إلى اتباع الخطأ؛ لأن آحاد العلماء ليسوا معصومين.
وعليه فليس لأحد أن ينصب أحدا غير معصوم يطيعه مطلقا ولو في باب؛ لأنه لا يطاع مطلقا إلا من كان معصوما.
وإذا كان الطاعة المطلقة لواحد من الصحابة دون غيره منكرة, فكيف بالطاعة لمن دونه؟!
والواجب على المسلم أن يتقصد الحق ويطلبه, لا أن يتقصد الرجال وآراءهم المحضة, وإن زُعم أنهم أقاموا الأدلة على أقوالهم, لأنه يبقى النظر في صحة الدليل ومدلوله, وما يعترض العموم من خصوص, والإطلاق من تقييد, إلى غير ذلك.
هذا بالنسبة للطاعة المطلقة ولو في باب.
وأما إيجاب اتباع واحدٍ بعينه, أو مجموعةٍ محصورة بعينها فهذا لا يجوز؛ لكون آحاد العلماء يخطئون, والخطأ لا يتابع عليه صاحبه.
وهو أيضا مخالف لمقاصد الشريعة؛ لأنه ينافي التيسير ورفع الحرج, واجتماع كلمة المسلمين على الحق, والتآلف.
فهو يوقع في الحرج؛ وذلك بإلزام الناس بأقوالِ أشخاص محصورين يتعذر استفتاء المسلمين كلهم لهم, مع التضييق عليهم فيما يسع فيه الخلاف, وهذا فيه تحجير لواسع, وإلزام الناس بما ليس بملزِم, ومخالف لما عليه العمل عند الصحابة والتابعين والأئمة, فأئمة المذاهب الأربعة لم يكونوا يرون أن أقوالهم ملزمة.
قال عمر بن عبد العزيز: (ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم إذا اجتمعوا على قول فخالفهم رجل كان ضالا، وإذا اختلفوا فأخذ رجل بقول هذا، ورجل بقول هذا؛ كان في الأمر سعة)
 كما يدعوا للفرقة بين المسلمين, والشحناء, والتباغض.
وإذا كان التعصب لواحد من الصحابة دون غيره منكرا, فكيف بالتعصب لمن دون الصحابة؟!
قال ابن تيمية: في الفتاوى الكبرى (2/ 107): (( ومن تعصب لواحد بعينه من الأئمة دون الباقين فهو بمنزلة من تعصب لواحد بعينه من الصحابة دون الباقين, كالرافضي الذي يتعصب لعلي دون الخلفاء الثلاثة وجمهور الصحابة, وكالخارجي الذي يقدح في عثمان وعلي رضي الله عنهما.
فهذه طرق أهل البدع والأهواء الذين ثبت بالكتاب والسنة والإجماع أنهم مذمومون، خارجون عن الشريعة والمنهاج الذي بعث الله به رسوله صلى الله عليه وسلم.
فمن تعصب لواحد من الأئمة بعينه ففيه شبه من هؤلاء، سواء تعصب لمالك أو الشافعي أو أبي حنيفة أو أحمد أو غيرهم.
ثم غاية المتعصب لواحد منهم أن يكون جاهلا بقدره في العلم والدين، وبقدر الآخرين، فيكون جاهلا ظالما، والله يأمر بالعلم والعدل، وينهى عن الجهل والظلم.
قال تعالى: {وحملها الإنسان إنه كان ظلوما جهولا ليعذب الله المنافقين والمنافقات} ))
وكل ما ادُّعي في هذا من المصالح فلا يخرج عن كونه مصالح وهمية, أو مصالح مكمِّلة تنقض المصالح الأصلية وتذهبها, وكلاهما لا عبرة به.
وينبغي التفريق هنا: بين وجوب سؤال العامي للمفتي؛ لقوله تعالى: فاسألوا أهل الذكر, وبين إيجاب اتباع واحد بعينه من العلماء؛ إذ لا تلازم بينهما.
فقد كام من الصحابة من يَسأل غيره ممن هو أعلم منه من غير تخصيص واحد بعينه.
فتقليد واحد بعينه لا يجب على المسلمين.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (20/ 208): (( وإذا نزلت بالمسلم نازلة فإنه يستفتي من اعتقد أنه يفتيه بشرع الله ورسوله من أي مذهب كان, ولا يجب على أحد من المسلمين تقليد شخص بعينه من العلماء في كل ما يقول, ولا يجب على أحد من المسلمين التزام مذهب شخص معين غير الرسول صلى الله عليه وسلم في كل ما يوجبه ويخبر به, بل كل أحد من الناس يؤخذ من قوله ويترك إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم .
واتباع شخص لمذهب شخص بعينه؛ لعجزه عن معرفة الشرع من غير جهته: إنما هو مما يسوغ له, ليس هو مما يجب على كل أحد إذا أمكنه معرفة الشرع بغير ذلك الطريق, بل كل أحد عليه أن يتقي الله ما استطاع, ويطلب علم ما أمر الله به ورسوله, فيفعل المأمور ويترك المحظور ))

هذا ما أردت بيانه مختصرا.
وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق