الاثنين، 16 مارس 2020

مشروعية منع الناس من الجماعة خوفا من الأوبئة العامة التي يغلب على الظن انتشارها


[مشروعية منع الناس من الجماعة خوفا من الأوبئة العامة
التي يغلب على الظن انتشارها]

الحمد لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده
أما بعد, فإن النصوص الشرعية تشتمل على ألفاظ ومعاني, وكلاهما معتبر في استخراج الأحكام الشرعية, ولا يصح الاقتصار على اللفظ وحده مع إمكانية استعمال المعنى وإعماله, والمعنى المعبر هو الظاهر الواضح المنضبط, ومتى ما كان المعنى خفيا غير ظاهر ولا واضح ولا منضبط فلا يصح اعتباره ويجب الاقتصار على اللفظ وحده.
وإن مسألتنا وهي: منع الناس من حضور الجماعة وما يترتب عليها من إغلاق المسجد في حقهم لا مطلقا؛ مبنية على اعتبار معاني النصوص مع رفع الضرر العام المتوقع وقوعه.
فقد أخرج البخاري في صحيحه عن عبد الرحمن بن عوف أنه سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول:  ( إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارا منه)
فمنطوقه: عدم الإقدام على أرض سمع أن الطاعون نزل بها, وعدم الخروج من أرضع وقع بها.
والمعنى: الخوف من الضرر وتلبس الطاعون بالإنسان.
ومع كون العدوى من الطاعون مظنونة التحقق في الأفراد, والوباء موجود في الجملة في البلد لا في كل بقعة فيه, فوجوده في كل بقعة بعينها مظنون؛ بدليل أنه ليس كل أهل البلد يصابون له إلا أن الله منعنا منع إلزام من الدخول والخروج إلى الأرض الموبوءة.
فليس من شرط الإلزام بالمنع: اليقين والتحقق, والمتوقع الغالب ينزل منزلة الواقع.
ولا شك أن هذا المنع لا ينافي التوكل وتفويض الأمر إلى الله, وليس هو فرارا من القدر, بل نفر من القدر إلى القدر كما قال الخليفة الراشد عمر بن الخطاب.
وفي المنع من الدخول والخروج؛ بسبب خوف المرض: منعٌ من كل ما يكون سببا لوقوع الإنسان بالمرض وانتشاره, فإذا تحقق عند الأطباء أو غلب على الظن أن صلاة الجماعة في المسجد سبب لوقوع المرض فيكون المنع منها من جنس منع الناس من الدخول والخروج للأرض الموبوءة؛ إذ لا معنى لمنع الدخول والخروج إلا الخوف من المرض والنظر إلى عظم المآلات ورجحانها, وهذا واقع في صلاة الجماعة, والشريعة لا تفرق بين المتماثلات.
والضرر هنا راجح عام, ولما كان عاما ينزل منزلة الضرورة.
ويؤكد الأمر؛: أمر وإلزام ولي الأمر؛ إذ إن تصرفه منوط بالمصلحة، وهو معتد به.
والتحقق من أسباب المرض يختلف من عصر إلى عصر, فالطب المتطور في عصرنا لم يكن موجودا فيما مضى, فما كان متوهما سابقا مشكوكا فيه أصبح اليوم يقينيا, ولما كانت الدقة في تحديد المرض وأسباب الوقاية منه, وأسباب انتشاره أعظم مما كان في الزمن الماضي, كان هذا معتبرا في بناء الحكم الشرعي, فلا يصح لأحد أن يستدل بوجود الوباء العام عند السلف ومع ذلك لم يمنعوا من الجماعة؛ لاختلاف الحال وتحقيق المناط, ويصح هنا أن نقول: بعدم وجود المقتضي؛ لأن علمهم بكون سبب الاجتماع سبب للعدوى متوهم أو مشكوك فيه, فلم ينقل عنهم المنع من الجماعة؛ لعدم ثبوت السبب عندهم.
وهنا أمر دقيق وهو: أن هناك فرقا بين عدم النقل بمنع الصلاة في المساجد وبين النقل بعدم المنع, فالأول عدمي والثاني وجودي
وفي مسألتنا لم ينقل عن الأئمة أنهم منعوا من الصلاة في المسجد فهو أمر عدمي لا يقوى لدفه دلالة حديث الطاعون المتقدم ذكرها.
ثم إن مسألتنا متعلقة بالوسائل لا بالمقاصد, ووسائل دفع المفسدة الكبرى من دفع المفسدة الكبرى وتأخذ حكمها.
ومع ذلك:
روي عن عمرو بن العاص أنه أمر الناس أن يتفرقوا في الجبال فيكون كل واحد منهم وحده متفرقا عن غيره حتى رفع الله الوباء
ففي طاعون عمواس لما استخلف عمرو بن العاص، قام في الناس خطيبا فقال: «أيها الناس إن هذا الوجع إذا وقع فإنما يشتعل اشتعال النار، فتجبلوا منه في الجبال» . قال: فقال له أبو واثلة الهذلي: «كذبت والله، لقد صحبت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنت شر من حماري هذا» . قال: «والله ما أرد عليك ما تقول» ، «وايم الله لا نقيم عليه» ، ثم خرج وخرج الناس فتفرقوا عنه ودفعه الله عنهم. قال: فبلغ ذلك عمر بن الخطاب من رأي عمرو فوالله ما كرهه» أخرجه أحمد وفي سنده مقال
وأما ما ابتلينا به في عصرنا من "فايروس كورونا" فعلى حسب المعطيات العلمية الطبية التي سمعناها: أن الإصابة بفايروس كورونا ليست مسألة تتعلق بشخص لا تتعداه؛ ليكون مخيرا بين الأخذ بالعزيمة أو الرخصة؛ لأن من سيصاب به سيُعدي غيره بإذن الله, ويتوسع الضرر ويعم البلاء, وهنا يأتي إعمال القاعدة: ( لا ضرر ولا ضرار), مع استحضار ما تقدم في الكلام عن حديث الطاعون.
وإذا أمر ولي الأمر بالمنع من حضور الجماعة والجمعة, فتجب طاعته في ترك الجماعة؛ للمصلحة العامة, وليس في أمره ما يخالف الشرع.
وعلى المؤذن أو من يقوم مقامه أن يؤذن ويصلي في المسجد؛ حتى لا يهجر الأذان والمسجد, وأما آحاد الناس فيصلون في البيوت, ولا يجوز لهم الصلاة في المسجد مع المؤذن, ويصح إغلاق المسجد عليهم.
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار

هناك تعليق واحد:

  1. عندي سؤال ماهو تفسير قول الله عز وجل (إنكم إذا مثلهم) هل هو كفر كل من جلس في مجلس فيه استهزاء بالدين حتى لو أنكر بقلبه ... فاذا كان يكفر ... كيف نجمع بين الاية وحدبث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي فيه ( فمن لم يستطع فبقلبه وذلك اضعف الايمان) .. وهل هي مسألة خلافية بالتكفير بها أم لا ..... وفي الحالاتين ماهو قول الجمهور فيها .

    ردحذف