العدوى في الإسلام
الحمد
لله وحده والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فإن
الله من حكمته وكمال ملكه وتصرفه في الكون أن ربط الأسباب بمسبباتها, فالله قدر أن
يقع الشيء مربوطا بسببه, فقدر أن يحصل الولد مربوطا بجماع الرجل أهله, وقدر أن
إنبات الأرض مربوط بإنزال المطر, قال تعالى: {ونزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا
به جنات وحب الحصيد} [ق: 9] وقال: {فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات} [الأعراف:
57] وقال: {فأنشأنا لكم به جنات من نخيل وأعناب} [المؤمنون: 19]
ومع ربط الله
الأسباب بمسبباتها فقد يشاء الله أن يسلب السبب سببيته فلا ينتج المسبب وقد يمنع
السبب ما هو مثله أو أقوى منه, كما سلب النار قوة الإحراق عن الخليل, وما يصرفه
الله عن العبد بالاستغفار والدعاء مع وقوعه في المعصية المقتضي وقوع العذاب, فهنا
السبب عارضه ما هو أقوى منه وهو الاستغفار.
والأسباب كلها
ترجع في التأثير إلى الفاعل الأول؛ إذ لو كان كل سبب مستندا إلى سبب قبله لا إلى غاية
لزم التسلسل في الأسباب، وهو ممتنع, كما في قوله صلى الله عليه وسلم: (فمن أعدى
الأول؟).
ويجب أن يعلم:
أن من الأسباب ما يعلم تأثيره في المسبب قبل وقوع مسببه وهي الأسباب الظاهرة التي
تعلم بالتجربة والخبرة أو بالشرع، ومنها ما لا يعلم تأثيره في المسبب إلا بعد وقوع
مسببه وهي الأسباب الخفية التي لم يظهرها الله.
وهذا هو مذهب
أهل السنة والجماعة, فهم وسط بين من يبطل تأثير الأسباب بالكلية وينكر ربط الأسباب
بالمسببات ويجعل الأسباب مجرد علامات وأمارات لا علاقة لها بالمسبب, وبين إثبات
تأثير الأسباب في المسببات من غير أن تتخلف ولا أن تعارض بما هو أقوى منها فلا
يحصل المسبب.
ومذهب أهل
السنة يتوافق مع الشرع والفطرة والعقل والحس.
إذا فهمنا هذه
المقدمة عرفنا العدوى في الإسلام, فالعدوي: انتقال المرض من جسد إلى جسد بسبب
المخالطة ونحوها, وهي: ثابتة في الإسلام على أنها سبب, وقد تقدم قاعدة الأسباب عند
أهل السنة والجماعة.
ومن قال
بعدم وجود العدوى في الإسلام استدل بقول النبي صلى الله عليه وسلم: ( لا عدوى ولا
طيرة...) فحمل الحديث على النفي, بمعنى: نفي الواقع, فلا تقع العدوى ولا وجود لها.
وإذا
نظرنا إلى هذا الفهم وجدناه يعارض ما ثبت من قول النبي صلى الله عليه وسلم: (لَا يُورد
ممرض على مصح) ويؤدي إلى تعارض حديثين صحيحين من غير نسخ, والأصل عدم التعارض.
وإنما
الفهم الصحيح لقوله: (لا عدوى ..) يدور على:
1-أن
تكون "لا" ناهية وليست نافية, ويكون المعنى النهي عن أن يعدي الممرض
المصح بقدومه عليه.
قال ابن عبد
البر: (أما قوله «لا عدوى» فمعناه أنه لا يُعْدِي شيء شيئا، ولا يُعْدِي سقيم صحيحا،
والله يفعل ما يشاء، لا شيء إلا ما شاء).
2-أن
تكون "لا" نافية إلا أن الحديث ورد على ما كان معروفا عند أهل الجاهلية
من أن العدوى تقع بنفسها لا بقدر الله, فيفهم الحديث على العرف الذي نزل عليه.
قال ابن الأثير:
(كانوا يظنون أن المرض بنفسه يَتَعَدّى، فأعلمهم النبي صلى الله عليه وسلم أنه ليس
الأمر كذلك، وإنما الله هو الذي يمرض ويُنَزل الداء).
وقال
النووي: (قال جمهور العلماء: يجب الجمع بين هذين الحديثين وهما صحيحان قالوا وطريق
الجمع أن حديث لا عدوى المراد به نفي ما كانت الجاهلية تزعمه وتعتقده أن المرض والعاهة
تعدى بطبعها لا بفعل الله تعالى وأما حديث "لا يورد ممرض على مصح"
فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدره.
فنفى في الحديث
الأول: العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر الله تعالى وفعله, وأرشد في
الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقدره, فهذا الذي ذكرناه
من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء ويتعين المصير
إليه)
وقال ابن
حجر في بيان المسلك الخامس في الجمع: (المراد بنفي العدوى: أن شيئا لا يعدي بطبعه؛
نفيا لما كانت الجاهلية تعتقده أن الأمراض تعدي بطبعها إضافة إلى الله, فأبطل النبي
صلى الله عليه وسلم اعتقادهم ذلك, وأكل مع المجذوم؛ ليبين لهم أن الله هو الذي يمرض
ويشفي, ونهاهم عن الدنو منه؛ ليبين لهم أن هذا من الأسباب التي أجرى الله العادة بأنها
تفضي إلى مسبباتها, ففي نهيه: إثبات الأسباب, وفي فعله: إشارة إلى أنها لا تستقل بل
الله هو الذي إن شاء سلبها قواها فلا تؤثر شيئا وإن شاء أبقاها فأثرت.
ويحتمل أيضا أن يكون أكله صلى الله عليه وسلم مع
المجذوم أنه كان به أمر يسير لا يعدي مثله في العادة؛ إذ ليس الجذمي كلهم واحد )
وهناك
تأويلات ومسالك أخرى ذكرها الحافظ في الفتح.
ومن تأول
الأحاديث على اختلاف الحكم بحسب الحال والاعتقاد؛ فإذا كان قوي الاعتقاد فله يخالط
المريض وإذا كان ضعيفا فيفر منه, فهذا مبني على انتفاء وقوع العدوى, وهو بعيد.
ومما يدل
على أن النفي في الأحاديث ليس نفيا للوجود والوقوع, بمعنى أنه ليس نفيا لوجود
العدوى في الواقع أمور:
الأول:
أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نفي العدوى مع نفي الطيرة, فعن عبدالله بن عمر، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال:
((لا عدوى ولا طِيَرة)) والطيرة موجودة في الواقع وواقعة من الناس, فيدل ذلك على
أن النفي ليس نفي وقوع, وإنما نفي التأثير المستقل.
الثاني: أن
النبي صلى الله عليه وسلم ذكر نفي العدوى مع الفرار من المجذوم، فعن أبي هريرة، يقول:
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا عدوى ولا طِيَرة، ولا هامَةَ ولا صفر، وفِرَّ
من المجذوم كما تفرُّ من الأسد))؛ مما يدل على وقوع العدوى ولهذا أمر النبي صلى
الله عليه وسلم بالفرار من المجذوم؛ خشية العدوى.
الثالث: أن
النبي صلى اله عليه وسلم ذكر نفي العدوى مع نفي تسلسل السبب, فعن أبي هريرة رضي الله
عنه قال: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لا عدوى))، فقام أعرابي فقال: أرأيتَ
الإبل، تكون في الرمال أمثال الظِّباء، فيأتيها البعير الأجرب فتجرب؟ قال النبي صلى
الله عليه وسلم: ((فمَن أعدى الأول؟)) فأقر النبي صلى الله عليه وسلم وقوع العدوى
إلا أنه نبهه إلى أنها كانت بفعل الله سبحانه, فلو لم يقدر الله العدوى ما حصلت.
ثم إن ما جاء
به الحس من انتقال المرض في البيت, وهو ما عليه أهل الطب في إثبات العدوى لا يمكن
للشريعة أن تخالفه, فما وقع حسا لا ينافي ما ثبت شرعا؛ لأن الشرع من الله, والثابت
حسا من خلق الله, فكلاهما من الله سبحانه.
وقد ثبت طبيا
ثبوتا قطعيا: وجود العدوى, وأنها من الأسباب الظاهرة لا الخفية, وهذا ما يدل عليه
الشرع إلا أن الشرع يثبت أنها جزء سبب لا أنها سبب تام؛ لإمكان التخلف, كما تقدم.
وما ابتلينا
به في هذه الأيام من فايروس كورونا انطلق جُل علماء عصرنا -وهو الصواب- في نهي
الناس عن المخالطة والاجتماعات وغلق المساجد لا تعطيلها مطلقا من:
1-
وقوع العدوى, وأنها واقعة بقدر الله, وقد تتخلف عن
المعين بمشيئة الله سبحانه.
2-
رفع الضرر العام الذي ثبت بأسباب ظاهرة وخشية وقوعه.
3-
النظر فيما ذكره أهل الطب واعتباره, وفق ما تأمر به
الشريعة.
4-
الحال حال ضرورة لا اختيار.
والأخذ بالأسباب في دفع الضرر لا ينافي التضرع إلى الله واللجوء إليه,
وغلق المساجد مع أنها أمكنة التضرع واللجوء إلى الله إنما هو بالنظر لمفسدة الاجتماع مع إمكان التضرع لله في غير المساجد, فمصلحة التضرع تحصل في غير المساجد, وأما الضرر بسبب الاجتماع فعام, واعتناء الشريعة بدرء المفاسد مقدم على اعتنائها بجلب المصالح.
وقد خرج علينا
في التلفاز من يزور الحقائق, ويرمي الكلام على عاهنه, ويزعم أنه لا فرق بين قول من
قال: بانتقال العدوى بفعل الله وبين قول أهل الجاهلية, فيا لله العجب!.
لا أدري ما
هذا الفهم!!
أهل الجاهلية
يرون العدوى بطبعها بمعنى: أنه لا يمكن تخلفها مطلقا حتى وإن قالوا: تحصل بخلق
الله.
بينما أهل
السنة يرون أنها سبب قد يتخلف, كما تقدم.
ولم يكتف بهذا!
بل نسب إلى أغلب شراح الحديث أنهم يقولون: لا عدوى!!
وهذا
النووي يقول: (فنفى في الحديث الأول: العدوى بطبعها ولم ينف حصول الضرر عند ذلك بقدر
الله تعالى وفعله, وأرشد في الثاني إلى الاحتراز مما يحصل عنده الضرر بفعل الله وإرادته
وقدره, فهذا الذي ذكرناه من تصحيح الحديثين والجمع بينهما هو الصواب الذي عليه جمهور
العلماء ويتعين المصير إليه)
فمن نصدق؟!!
ومن الغرائب
زعمه: أن عمرو بن العاص في الطاعون أمرهم بالتفرق؛ لأمور أخرى أن الجثث تبقى في
الشوارع ولا يستطيع الناس دفن الجثث...
وأن قاعدة:
المتوقع كالواقع هذه قاعدة لغير المسلمين في مسألتنا هذه...
يا لله العجب!
والله
المستعان
كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق