الاثنين، 28 مارس 2016

مسألة الهجر المشروع المتعلق بالدين والرد على د. عبد الله عبد الرحيم البخاري في هذه المسألة



مسألة الهجر المشروع المتعلق بالدين
والرد على د. عبد الله عبد الرحيم البخاري في هذه المسألة

الحمد لله وحده, والصلاة والسلام على من لا نبي بعده.
أما بعد, فالهجر أمر شرعي, المرجع في بيان حكمه إلى الشرع دون غيره.
والهجر في لغة العرب يعود إلى القطيعة والقطع.
ومما يدخل فيه: ترك الكلام والسلام, وعدم المجالسة, إلى غير ذلك.
والهجر في أمور الدين حق لله, فلابد فيه من الإخلاص والمتابعة للنبي صلى الله عليه وسلم.
والهجر بلا موجِبٍ شرعي محرم, وهو ينافي مقاصد الشارع, ومنها: الاجتماع على الحق والتآلف, والرحمة, والإحسان.
وقد عُلِّق الهجر في النصوص الشرعية بسبب, -وهو: إظهار الفسق-, مع ربط ذلك بالمصلحة الشرعية الراجحة.
فلابد من وجود السبب وتحقق المصلحة الراجحة.
وما وُجِد سببه وتحققت مصالحه الراجحة هو: الذي يفضي إلى تحقيق مقاصد الشرع في الهجر.
ومن الأدلة على كون الهجر عُلِّق بالمصالح الراجحة: هجر النبي صلى الله عليه وسلم لكعب وصاحبيه لما تخلفوا عن غزوة تبوك.
وجاء في حديث كعب قوله: ( ونهى  رسول الله صلى الله عليه وسلم عن كلامنا أيها الثلاثة ))
فقد ظهرت المعصية منهم -رضي الله عنهم-, ورأى النبي صلى الله عليه وسلم أن المصلحة راجحة في هجرهم فهجرهم.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (24/ 174): (( صح عنه أنه هجر كعب بن مالك وصاحبيه - رضي الله عنهم - لما تخلفوا عن غزوة تبوك وظهرت معصيتهم وخيف عليهم النفاق فهجرهم وأمر المسلمين بهجرهم ))
فمناط الهجر: إظهار الفسق مع تحقق المصلحة الشرعية الراجحة.
فمن أظهر الفسق سواء كان فسقه من جهة الاعتقاد –وهم أهل البدع-، أو كان فسقه من جهة العمل –وهم أهل الكبائر-، فإنه مستحق للعقوبة.
ومن العقوبات الشرعية: الهجر, وهو من باب التعزير.
فالهجر يدخل تحت العقوبات الشرعية.
ومقصد الشارع من هذه العقوبات: الزجر, والتطهير, ورجوع العامة عن مثل حاله, وعلو الدين, ونحو ذلك.
قال ابن تيمية في الصارم المسلول: (( ... لكن ينزل الله سبحانه من العقاب و يشرع من الحدود ما يزجر النفوس عما فيه فساد عام لا يخص فاعله أو ما يطهر الفاعل من خطيئته, أو لتغلظ الجرم أو لما يشاء سبحانه ))
فهي إما أن ترجع إلى المظهِر نفسه, أو للأمة.
وهذه القضية تدور عليها مسألة هجر التأديب الذي هو محل هذا المقال.
وعليه: فإن الهجر يختلف حكمه بحسب قوة الهاجر وضعفه, وتحقق مقاصد الشارع أو عدمه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): ((  وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله . فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا . وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر ))
فتبين لنا: أن مطلق الهجر ليس مشروعا, وإنما المشروع: هجر مخصوص, وهو: الذي يحقق مقاصد الشارع في العقوبات, وتترتب عليه مصالحه.
والمصالح المعتبرة هي التي تحافظ على مقصد الشارع.
والنبي صلى الله عليه وسلم تألَّف المؤلفة قلوبهم؛ لمكانتهم في أقوامهم: فكانت مصلحة تأليفهم أعظم من مصلحة هجرهم, بخلاف كعب وصاحبيه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): ((... لما كان أولئك كانوا سادة مطاعين في عشائرهم فكانت المصلحة الدينية في تأليف قلوبهم وهؤلاء كانوا مؤمنين والمؤمنون سواهم كثير فكان في هجرهم عز الدين وتطهيرهم من ذنوبهم )).
والهجر المخصوص الذي يحقق مقاصد الشارع يختلف باختلاف المصالح المنوطة به, والأحكام التي علقت على المصالح تتغير بتغير المصالح.
ويترتب على هذا: أن تحقق مقاصد الهجر في المكان الذي تكون الشوكة فيه لأهل السنة ليس كتحققها في المكان الذي تكون الشوكة فيه لأهل البدع.
وتحقق مقاصد الهجر فيما إذا كان الهاجر قويا ذا شوكة ليس كتحققها في عامة الناس.
ومتى تخلفت مقاصد الهجر ولم تترتب عليه مصالحه الراجحة فإنه لا يكون مشروعا؛ لأنه سيترتب عليه مفسدة أرجح, وما ترتب عليه مفسدة راجحة فإنه لا يكون مشروعا.
ومن الأمثلة على ذلك: ما لو تُرك حديث أهل البصرة للقدر فسيترتب عليه ذهاب جملة من الأحاديث.
قال بعض الأئمة كما في شرح علل الترمذي لابن رجب (ص: 123): (( لو تركت أهل البصرة للقدر وتركت أهل الكوفة للتشيع لخربت الكتب )) .
وإذا تعارضت المصالح, أو المصالح والمفاسد رجح بينها بمسالك الترجيح.
ومن الخطأ أن تعطى قاعدة عامة لكل هاجر مع كل مهجور.
والخلاصة: أنه لا يصح إطلاق إيقاع الهجر ولا يصح إطلاق نفيه, وإنما يعلق ذلك بوجود سببه مع تحقق المصلحة الراجحة فيه.
وإذا تعارضت المصالح فيرجح أقواها.
وإذا تعارضت المصالح والمفاسد فيقدم أرجحها.
فإن قيل: هل هجر المظهر للفسق يكون على الدوام مادام على فسقه؟
قيل: بحسب تحقق المصلحة الراجحة وعدمها, وذلك راجع لمقاصد عظيمة من مقاصد الشارع, ومنها: الرحمة بالخلق, والإحسان إليهم.


وقبل الختام: أعرج على شيء من كلام د. عبد الله البخاري في هذه المسألة؛ لأبين خطأه فيها؛ وذلك لاشتباه كلامه على جماعة من الإخوة:

قال د.عبد الله البخاري جوابا عن سؤال في محاضرة له بعنوان: ضوابط الهجر الشرعي " الهجر في ضوء الكتاب والسنة ": ((فكل الشرائع مبنية على المصالح صحيح فلما تخص هذه فتعينها بأنها مبنية على المصالح دون غيرها عرف الاختزال هذا اختزال أقول هذا اختزال ولا يجوز أن يختزل

...
المصالح هل المصلحة المرادَ هنا هي المصلحة المختصة بالمهجور أم المختصة بالهاجر أم المختصة بالناظرين أنا أسأل لأن هذه الكلمة كثيرا ما تردد الهجر للمصلحة الهجر للمصلحة !!صحيح نحن ما ردننا نقول الصلاة للمصلحة الصدقة للمصلحة الصيام للمصلحة الجهاد لمصلحة صحيح إذن لا تتعب في تقرير ما هو مقرر في الشريعة كلها لا ينازع في هذا اثنان ولا ينتطح فيها عنزان ))
والرد عليه من أوجه, منها:
الوجه الأول: تخصيص الهجر بأنه معلق بالمصالح ليس من باب الاختزال كما ذكر الدكتور, وتجرأ على تحريمه, وإنما هو لبيان أنه حكمٌ معلقٌ بالمصلحة, وفرقٌ بين الأحكام المعلقة بالمصلحة, وبين كون الشريعة بنيت على المصلحة, وليت الشيخ لم يخض في غير فنه.
الوجه الثاني: الأحكام المعلقة على المصالح, يقصد بها: الأحكام التي أنيطت بتحقق مصلحتها, فتكون تابعة لأصلها وعلتها وهي: المصلحة, فالحكم يدور مع علته وجودا وعدما, بخلاف الأحكام التي لا تتغير بتغير الأزمان والأحوال, فمثلا: كون الصلاة بنيت على المصلحة لا يجعل الصلاة تتغير بتغير الأزمان والأحوال, وكذلك الزكاة, والحج ...
قال ابن القيم في إغاثة اللهفان (1/ 330): (( ... فقالوا : الأحكام نوعان : نوع لا يتغير عن حالة واحدة هو عليها لا بحسب الأزمنة ولا الأمكنة ولا اجتهاد الأئمة كوجوب الواجبات وتحريم المحرمات والحدود المقدرة بالشرع على الجرائم ونحو ذلك فهذا لا يتطرق إليه تغيير ولا اجتهاد يخالف ما وضع عليه .
 والنوع الثاني : ما يتغير بحسب اقتضاء المصلحة له زمانا ومكانا وحالا كمقادير التعزيرات وأجناسها وصفاتها فإن الشارع ينوع فيها بحسب المصلحة فشرع التعزير بالقتل لمدمن الخمر في المرة الرابعة ..))
الوجه الثالث: في مسألة الهجر يجتهد المجتهد في تحقيق المصالح في المعين, فنُصَّ على المصالح مراعاة لتحقيق المناط.

قال د. عبد الله البخاري: (( فما هي المقاصد الشرعية من الهجر ؟لتتحقق المصلحة العامة التي هي المصلحة الدينية منها تحقيق العبودية لله لأن قلنا ماذا؟ الهجر عبادة فلابد أن تحقق العبودية لله عبادة في السراء وله عبادة في الضراء ومنها تحقيق معلمِ الولاء والبراء الولاء للإيمان والمؤمنين والبراءة من الكفر والكافرين والبدعة والمبتدعين
... المصلحة الخاصة هي على قسمين مصلحة تعلق بالمهجور ومصلحة تتعلق بالهاجر المصلحة المتعلقة إن خشي على نفسه الفتنة فله أن يهجر كل من يخشى على نفسه من مخالطه وهذا الذي يسمي ماذا بالهجر الوقائي وهذا ظاهر مسألة انتفاع المهجور المختصة بالمهجور إن انتصح وانتفع فالحمد لله وإن لم ينتصح ولم ينتفع هل نلغي المصالح الدينية العامة والكلية في مقابل مصلحة خاصة))
والرد عليه من أوجه, منها:
الوجه الأول: عدم التسليم بوجود التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة في كل صورة من صور الهجر, فقد تنتفي المصلحة العامة وتوجد الخاصة.
الوجه الثاني: عدم التسليم بتقديم المصلحة العامة مطلقا عند التعارض بين المصلحة العامة والمصلحة الخاصة, فقد تقدم الخاصة إذا لم تفوت العامة, أو كانت الخاصة أقوى رتبة من العامة, ونحو ذلك.
ومن أمثلة ذلك: تقديم طاعة الوالدين على جهاد الطلب مع كون جهاد الطلب يتعلق بالمصلحة العامة.
الوجه الثالث: أن المراد بالمصلحة العامة الكلية عند أهل العلم: التي تعم جميع المسلمين؛ فأخرجت المصلحة الجزئية.
فإذا تعارضت المصلحة العامة المتعلقة بجميع المسلمين مع المصلحة الخاصة المتعلقة بشخص أو مجموعة فهنا تقدم المصلحة العامة بقيدها, وهو اتحاد الرتبة وتفويت العامة.
والدكتور البخاري يفسر المصلحة العامة والكلية بالمصلحة الدينية!!, وهذا خطأ, وهي أعم من الدينية, فقد تتعلق بالنفس أو بالمال, ونحو ذلك.
 ومن خاض في غير فنه ...
الوجه الرابع: خلَط الشيخ بين البراءة من أهل البدع وبغضهم وبين عدم هجرهم إذا انتفت المصلحة الراجحة, فبغضهم بقدر بدعهم لا ينافي عدم هجرهم لانتفاء المصلحة.
والنبي صلى الله عليه وسلم ترك هجر ابن أُبي مع أنه رأس النفاق, وترك هجر المتخلفين من المنافقين.
والمظهر للفسق اجتمع فيه ولاء وبراء: ولاء بقدر إيمانه وطاعته, وبراء بقدم فسقه وعصيانه.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 209): (( وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور وطاعة ومعصية وسنة وبدعة : استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير واستحق من المعادات والعقاب بحسب ما فيه من الشر فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ))
 الوجه الخامس: قد يسقط الهجر إذا لم ينتفع المهجور, وكانت المصلحة راجحة في تأليفه, ولم يتعارض مع المصلحة العامة الكلية, أو يفوتها.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى (28/ 206): (( وهذا الهجر يختلف باختلاف الهاجرين في قوتهم وضعفهم وقلتهم وكثرتهم فإن المقصود به زجر المهجور وتأديبه ورجوع العامة عن مثل حاله .
فإن كانت المصلحة في ذلك راجحة بحيث يفضي هجره إلى ضعف الشر وخفيته كان مشروعا .
وإن كان لا المهجور ولا غيره يرتدع بذلك, بل يزيد الشر والهاجر ضعيف بحيث يكون مفسدة ذلك راجحة على مصلحته لم يشرع الهجر ؛ بل يكون التأليف لبعض الناس أنفع من الهجر))
وقال في مجموع الفتاوى (28/ 206): (( وجواب الأئمة كأحمد وغيره في هذا الباب مبني على هذا الأصل ولهذا كان يفرق بين الأماكن التي كثرت فيها البدع كما كثر القدر في البصرة والتنجيم بخراسان والتشيع بالكوفة وبين ما ليس كذلك ويفرق بين الأئمة المطاعين وغيرهم وإذا عرف مقصود الشريعة سلك في حصوله أوصل الطرق إليه ))
وقال ابن باز في مجموع فتاوى ابن باز (5/ 344): (( ... فأنت أيها السائل ما دمت نصحته ووجهته إلى الخير ولكنه ما زاده ذلك إلا إظهارا للمعصية, فينبغي لك هجره وعدم اتخاذه صاحبا . وينبغي لك أن تشجع غيرك من الذين قد يؤثرون عليه وقد يحترمهم أكثر على نصيحته ودعوته إلى الله لعل الله ينفع بذلك , وإن رأيت أن الهجر يزيده شرا وأن اتصالك به أنفع له في دينه وأقل لشره فلا تهجره ؛ لأن الهجر يقصد منه العلاج فهو دواء , فإذا كان لا ينفع بل يزيد الداء داءا فأنت تعمل ما هو الأصلح من الاتصال به وتكرار النصيحة, والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من غير اتخاذه صاحبا ولا خليلا لعل الله ينفع بذلك, وهذا هو أحسن ما قيل في هذا من كلام أهل العلم رحمهم الله )).

وأخيرا:
أخطاء وقع فيها من غلا في التبديع:
من غلا في التبديع وقع في أخطاء متعلقة بهذه المسألة ومنها:
1-هجر من لم يقع في بدعة أصلا, أو وقع في بدعة لكن لم يبدَّع؛ لعدم توفر الشروط.
وهذا من التجني والاعتداء.
2-عدم مراعاة المصالح والمفاسد في الهجر.
3-مجاوزة الحد المشروع في الهجر.

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.

كتبه
د. أحمد محمد الصادق النجار
19-6-1437هـ


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق