الاثنين، 7 نوفمبر 2022

هل كل ساب يكفر؟ وهل يشترط قصد المعنى الكفري؟


هل يكفر (عينا) من تلفظ بكلمة الكفر (سب الذات العلية) غير قاصد المعنى الكفري الذي تضمنه اللفظ؟
وهل يتوقف الحكم بالتكفير على قصد العيب والإزدراء أصالة؟

أولا: السب إهانة واستخفاف ينافي التعظيم والانقياد، ولذا كان منافيا لأصل الإيمان وهو كفر في نفسه وليس علامة ودليلا على كفر الباطن ولا يشترط فيه الاستحلال
والحكم المطلق للساب أنه كافر مرتد.
قال القاضي عياض:(لا خلاف أن ساب الله من المسلمين كافر حلال الدم) الشفا٢/٢٧٠

ثانيا: تحرير مسألة الساب:
من تلفظ بكلمة الكفر= سب الذات العلية تعالى ربنا وتقدس ...
فله أحوال:
الحال الأولى: من لم يقصد اللفظ ولا المعنى، كمن فرح فرحا شديدا أو غضب غضبا شديدا فأغلق عليه فلم يدر ما يقول..
فهذا لا يكفر؛ لأمور منها:
١-عدم التكليف؛ لغياب العقل، فانتفى العلم والقصد.
٢- حديث الذي قال فيه الرجل (اللهم انت عبدي وانا ربك) أخطأ من شدة الفرح.

وقد اخطأ من أطلق الكفر كطائفة من فقهاء الحنفية والمالكية.

الحال الثانية: من قصد اللفظ دون مدلوله، فتكلم قاصدا اللفظ الذي مدلوله في وضع اللغة يتضمن التنقص والازدراء، لكن لم يكن يعلم مدلوله المتضمن لمعنى التنقص للذات العلية، فهو قد فرغ اللفظ عن مدلوله ومعناه
سواء استعمل اللفظ في مدلول آخر ليس فيه ما يتضمن تنقصا، أو كان لا يعرف مدلوله
فهذا لا يكفر؛ لأن العبرة بالحقائق والمعاني لا بالالفاظ والمباني
قال تعالى:[لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم]
فلم يرتب المؤاخدة على اللفظ المفرغ عن مدلوله، وإنما رتب المؤاخدة على ما قُصد بالقلب من مدلول للفظ.

ويدخل في هذا الباب: اللفظ المقصود الذي جرى العرف على تفريغه من مدلوله، كما في توجيه بعض العلماء لرواية "أفلح وأبيه إن صدق"
قال ابن حجر في الفتح ١١/٥٣٤: (فيُجاب بأجوبة: الأول: أن هذا اللفظ كان يجري على ألسنتهم من غير أن يقصدوا به القَسَم، والنهي إنما ورد في حق من قصد حقيقة الحَلِف، وإلى هذا جنح البيهقي، وقال النووي إنه الجواب المرضي).
ومنه أيضا عدم ترتيب حكم الكفر على من قال واللات والعزى؛ لعدم قصده المدلول.
ونظير ذلك الألفاظ التي فرغها العرب عن معانيها الموضوعة لها فكانوا يستعملونها قاصدين لألفاظها دون معانيها ك ثكلتك أمك-ترتبت يداك-قاتله الله- لا أم له إلى غير ذلك.

فإن قيل: إذا كان اللفظ صريحا في مدلوله لا يحتمل إلا تضمن معنى التنقص فلا  يحمل إلا على الظاهر.
قيل: اللفظ الصريح في مدلوله من حيث الوضع اللغوي لا يلزم منه استعماله في مدلوله من كل متكلم به، فقد يخرجه المتكلم عن وضعه في الاستعمال، فيستعمله في مدلول لا يتضمن معنى التنقص فلا يؤاخذ به.
ونظير هذا من وجه: كلام الأئمة في استعمال لفظ الطلاق على الحل من وثاق فلا يترتب عليه إيقاع الطلاق
قال الإمام الشافعي رحمه الله: “فإن قال أنت طالق أو قد طلقتكِ أو فارقتك أو سرحتك لزمه، ولم يُنَوَّ في الحكم، ويُنَوَّى فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه قد يريد طلاقا من وثاق، كما لو قال لعبده أنت حر، يريد حر النفس”. [مختصر المزني: ص 192].
قال أبو إسحاق الشيرازي:”وإن قال أنت طالق وقال أردت طلاقاً من وثاق لم يُقبل في الحكم، لأنه يدَّعي خلاف ما يقتضيه اللفظ في العرف، ويُدَيَّن فيما بينه وبين الله تعالى، لأنه يحتمِل ما يدعيه، فإن علمت المرأة صدقه فيما دُيِّن فيه الزوج جاز لها أن تقيم معه”. [المهذب: 17 / 96].
وقال ابن عبد البر: “ولو قال أنت طالق وقال أردت من وثاق لم يُقبل قوله ولزمه الطلاق، إلا أن يكون هنالك ما يدل على صدقه”. [الكافي: 1 / 474]
فاللفظ وإن كان صريحا إلا أنه قد يستعمل في غير مدلوله،  فلا يترتب عليه الحكم
وهنا قد فرق بعض العلماء بين القضاء والتدين.

ودونك تنبيه مهم وهو: لا يتوقف الحكم بالتكفير على قصد العيب والإزدراء أصالة، فقد يقصد اللفظ ومدلوله الذي يتضمن التنقص والازدراء من غير قصد التنقص وإنما يقصد شيئا آخر ، كمن يطلب منه أن يتلفظ بلفظ كفري متضمن معنى تنقص الذات العلية ويعطى على ذلك المال فيكون قاصدا المال غير قاصد معنى التنقص والإزدراء وإن كان قاصدا اللفظ ومدلوله الذي يتضمن التنقص.
فاللفظ له مدلول وله معنى يفهم من هذا المدلول متضمنا فيه.
والتكفير منوط بقصد المدلول لا بقصد المعنى المتضمن فيه، فبمجرد قصده المدلول يكفر وإن لم يقصد المعنى المتضمن فيه إلا لمانع شرعي كالإكراه، ولذا كان الهازل كافرا
قال ابن تيمية في الصارم المسلول ٣/٩٨٣ في كفر من تنقص النبي صلى الله عليه وسلم:(...ولا فرق في ذلك بين أن يقصد عيبه والإزدراء به أو لا يقصد عيبه لكن المقصود شيء آخر حصل السب تبعا له او لا يقصد شيئا من ذلك بل يهزل ويمزح او يفعل غير ذلك)
فالصور الذي يقع معها التكفير ثلاث:
١-يقصد العيب والازدراء أصالة.
٢-لا يقصد العيب والازدراء لكن قصد شيئا آخر حصل معه العيب والازدراء تبعا.
٣- لا يقصد العيب والازدراء أصالة ولا حصل التنقص تبعا مع قصده مدلول اللفظ الذي يتضمن التنقص، كما لو وقع على سبيل الهزل.
فالهازل قد يقصد التنقص وقد لا يقصده.

الحال الثالثة: من قصد مدلول اللفظ وما يفهم منه من غير قصد الكفر والخروج من الدين، فلم يفرغ اللفظ عن مدلوله وقصد ما تضمنه المدلول من تنقص، فهذا يكفر ظاهرا وباطنا، وإن لم يقصد الكفر نفسه أو الخروج من الدين
ومن صوره الهازل الذي يقصد مدلول اللفظ ومعنى التنقص إلا أنه قد لا يقصد الخروج من الدين.

الحال الرابعة: من قصد اللفظ وقصد معناه الكفري وقصد الخروج من الدين فهذا يكفر ظاهرا وباطنا.

الحال الخامسة: من قصد الازدراء والسب بغير الألفاظ أو بلفظ لم يوضع في اللغة على السب  لكن استعمله على التنقص والإزدراء.
فهذا يكفر ظاهرا وباطنا.

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق