الخميس، 15 ديسمبر 2022

الحاكمية وموافقة الخوارج في الغلو فيها وإعمال لوازمه

 

الحاكمية وموافقة الخوارج في الغلو فيها وإعمال لوازمه

الحلقة السادسة

تقدم في مقالات سابقة أن الخوارج يكفرون بغير مكفر شرعي, بمعنى: أن مناط التكفير عندهم مناط باطل.

وذكرنا أن مناط التكفير بالحاكمية عندهم يرجع إلى النظر إلى مجرد الفعل من غير اعتبار استلزام الفعل: الاستحلال أو الامتناع أو لا.

ويتضح هذا جليا في صورة ما لو أن حاكما ترك حكم الله في مسألة وحكم بقانون من غير أن يستحل ولا أن يمتنع عن حكم الله, بل يعتقد حرمة فعله...

فهنا الخوارج يقولون: يكفر عينا, ولا يراعون في الفعل هل يستلزم الاستحلال والامتناع أو لا؟, بل يرون أن مراعاة ذلك هو مذهب المرجئة!!

وهذا ما قصدناه بقولنا: أن مناط التكفير عندهم: ترك حكم الله أو مطلق التشريع.

وهو غير المناط الذي يكفر به بعض أهل السنة وعليه إطلاقات بعض الأئمة ومنهم بعض أئمة الدعوة النجدية, عندما يكفرون بالتشريع المخصوص, وهو: التشريع الذي يستلزم الاستحلال أو الامتناع, كما لو كان من سن قانونا يحيطه بالرعاية والحصانة ويقيم عليه المحاكم ويرتب عليه العقوبة ويلزم الناس به إلى غير ذلك, فهذا يستلزم الاستحلال أو الامتناع عندهم.

وهذا المناط وإن كان قولا لبعض علماء أهل السنة إلا أنه مناط -عند التحقيق- ليس بصحيح, وإنما المناط الصحيح هو الاستحلال أو الامتناع ولا يكتفى بمجرد التشريع المخصوص؛ لأنه ليس من جنس ما هو مكفر بنفسه.

لكن لا يمكن بحال أن يوصف من قال إن مناط التكفير: التشريع الذي يستلزم الاستحلال أو الامتناع بأنه من الخوارج أو وافق الخوارج, فهذا الوصف وصف جائر وليس هو من قول الخوارج في شيء.

كيف ومن قال بهذا القول من العلماء المعتبرين لم يعرف عنهم جعل هذه المسألة من أولويات دعوتهم, ولا جعلوها جوهر الألوهية وأخص خصائصها, ولا نادوا بها في كل محفل, ولا أشغلوا الناس بها؟

ومن هنا يعرف خطأ من زعم أن دعوة محمد بن عبد الوهاب هي أصل خوارج العصر؛ لأن تكفير الشيخ لمن كفره كان بمناط كفري صحيح, بغض النظر عن صحة التنزيل.

 

ثم نشأت طائفة خالفت الخوارج في مناط تكفيرهم بالحاكمية إلا أنهم شاركوهم في الغلو فيها ولوازمه, وأطلقوا الأحكام؛ مما استدعى التحذير من فعلهم حتى لا ينتهي الأمر إلى التكفير بما ليس بمناط شرعي للتكفير, ومن صور هذا الغلو:

1-التكفير العيني بالمختلف في كونه مكفرا, فقد تقدم أن التشريع المخصوص اختلف في كونه مكفرا؛ لاستلزامه الاستحلال أو الامتناع أو ليس بمكفر؛ لعدم ظهور الاستحلال أو الامتناع,

والتكفير بهذا النوع من التكفير بالظن المنهي عنه, قال ابن عبد البر في التمهيد لما في الموطأ من المعاني والأسانيد (17/ 22): (فالواجب في النظر أن لا يكفر إلا من اتفق الجميع على تكفيره, أو قام على تكفيره دليل لا مدفع له من كتاب أو سنة).

2-الحكم على المجتمعات بوقوعها في عين شرك قوم نوح والعرب إلا قليلا, كما قال سفر الحوالي شفاه الله في ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي (ص: 20): (والآن وقد دار الزمان دورة ثالثة حتى أوشك أن يعود كهيئته يوم أن بعث الله محمداً صلى الله عليه وسلم حيث تردى الإنسان المعاصر إلا قليلاً في عين ما وقع فيه قوم نوح والعرب من شرك في التقرب والنسك، وفي الطاعة والتشريع)

وهذا الكلام قريب من قول سيد قطب رحمه الله في ظلال القرآن  في تفسير سورة الأنعام [قل أي شيء أكبر شهادة] الآية لما قال: ( لقد استدار الزمان كهيئته يوم جاء هذا الدين إلى البشرية ؛ وعادت البشرية إلى مثل الموقف الذي كانت فيه يوم تنزل هذا القرآن على رسول الله)

وهو أيضا ما كان يقرره محمد قطب رحمه الله الذي أشرف على رسالتي الماجستير والدكتوراه لسفر الحوالي, فقد قال في جاهلية القرن العشرين (ص: 206): (ومن مقتضيات العبودية أن تكون الحاكمية لله وحده وأن يأخذ الناس تشريعهم عن الله..

ولقد جادلت في هذا الأمر كل جاهلية في تاريخ الناس! حتى الجاهليات التي كانت تقول: إنها " تعرف " الله.. حتى الجاهليات التي كانت تقول: إنها " تعبد " الله.. حتى الجاهليات التي كانت تظن أنها تؤدي العبادة الحقة لله.. كل الجاهليات كانت تجادل في هذا الأمر، وتظن أن العبودية لله أمر يختلف عن الإقرار بالحاكمية لله وحده وأخذ التشريع عن الله دون سواه).

فهذا الغلو في تعظيم الحكم جرهم إلى إخراج المجتمعات عن فهم حقيقة التوحيد ومقتضى العبودية وإدخالهم في دائرة الشرك, فخالفوا النصوص الشرعية وانحرفوا عن فهم حقيقة لا إله إلا الله.

3-غلوهم في الحاكمية وإطلاق أحكام التكفير والردة واستعمال ألفاظ يتبادر إلى الذهن منها تكفير المعين من غير نظر إلى تحقق الشروط وانتفاء الموانع.

وهذا الغلو هو ما أوقع بعض مشايخ الصحوة في تكفير الحكام بأعيانهم وإثبات ردتهم بإطلاق؛ لكونهم شرعوا من دون الله, ووالوا الكفار, وتحاكموا إلى طواغيت هيئة الأمم ومحكمة العدل الدولي ومجلس الأمن والنظام العالمي الجديد.

وهو عين ما كان يفعله منظرو التيار الجهاد وقادته, قال سيد إمام في كتابه الجامع (539): (إن البلاد المحكومة بقوانين وضعية كما هو الحال في شتى بلدان المسلمين اليوم لها أحكام خطيرة يجب أن يعلمها كل مسلم؛ ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيي عن بينة, ومن هذه الأحكام:

-أن حكام هذه البلاد كفار كفر أكبر, خارجون من ملة الإسلام.

-أن قضاة هذه البلاد كفار كفرا أكبر, وهذه بعني تحريم العمل بهذه المهنة...

-أن أعضاء الهيئات التشريعية بهذه البلاد كالبرلمان ومجلس الأمة كفار كفرا أكبر...

-أن الجنود المدافعين عن هذه الأوضاع الكافرة هم كفار كفرا أكبر...

ويدخل في هذا الحكم: كل من يدافع عن هذه الأنظمة الكفرية بالقتال دونها كالجنود أو يدافه عنها بالقول)

4-الغلو في التكفير بالحاكمية وإعظام شأنه في القلوب؛ حتى أداهم إلى التفريط فيما يترتب على ذلك من مفاسد كسفك الدماء وانتهاك الأعراض وحصول الفوضى في المجتمعات الإسلامية.

5-الغلو في التكفير بالحاكمية؛ حتى رأوا أن من لم يكفر قد ضيع الدين ووالى أعداء الله وصار جسرا لهم, ورأوا أنهم هم الطائفة المنصورة وجماعة المسلمين.

6-الغلو في الحاكمية حتى كفروا باللوازم, فجعلوا الدخول في المعاهدات من التولي الكفري, ونحو ذلك.

7-الغلو في التكفير بالتشربع؛ حتى اعتبروا أن عدم التكفير بفعل التشريع هو من نفي وقوع الكفر بالفعل الظاهر, وقاسوه على نفي وقوع الكفر بالسب نفسه والسجود للصنم, واتهموا من قال بذلك بأنه على مذهب غلاة المرجئة, وهو ما كان يدندن حوله محمد قطب في كتبه, وذكره سفر الحوالي في كتابه ظاهرة الإرجاء في الفكر الإسلامي(475) حيث قال: (فكما أن المرجئة القدامى تصوروا وجود الإيمان في قلب من عاش دهره كله لم يسجد لله سجدة ، ولا صام له يوما ، ولا أدى من زكاة ماله درهما ، ولا عقد النية على حج بيته ، بل ربما كان معلنا بسب الله ورسوله مهينا للمصحف عمدا ، حتى لو قتلناه على شئ من ذلك قالوا ، إن كان مقرا في نفسه فإنه يموت مسلما عاصيا وإذا امتنع عن التوبة يقتل حدا لا كفرا !!

كما تصوروا ذلك جاء المرجئة المعاصرون فقالوا : إن من كان لا يحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم ولا يقيم من شريعة الله إلا جزءا قد يقل أو يكثر، لا يقيمه لأنه من أمر الله وامتثالا له وإيمانا بدينه ، بل لأنه موافق للهوى والمصلحة الذاتية ، ومقر ممن يملك حق الإقرار والتشريع سواء كان شخص الزعيم أو الحزب أو المجلس التشريعي ، فإنه لا يكفر إلا إذا علمنا أنه في قلبه يفضل شرائع البشر على شريعة أحكم الحاكمين ، وما لم نطلع على ذلك فكل أعماله هي على سبيل المعصية ، حتى وهو يصدر القوانين تلو القوانين ويترصد للمطالبين بتطبيق الشريعة ويلاحقهم بصنوف الأذى ، ويظهر الموالاة الصريحة للكفار ، ويلغي ما شرعه الله من الفروق الجلية بين المؤمنين والكفار من الرعية ، ويرخص بإقامة أحزاب لا دينية - كل ذلك معاص لا تخرجه من الإسلام ما لم نطلع على ما في قلبه فنعلم أنه يفضل شرعا وحكما غير شرع الله وحكمه على شرع الله وحكمه ، أو يصرح بلسانه أنه يقصد الكفر ويعتقده ، وأنه مستحل للحكم بغير ما أنزل الله !!)

وهو عين صنيع التيار الجهادي, قال أبو يصير الطرطوسي في أعمال تخرج صاحبها من الملة ص 17: (فإن مشايخ الإرجاء قبحهم الله من مشايخ  ينشطون في كل مكان وفي كل اتجاه وواد بما أوتوا من علم وحفظ للنصوص يصورون للناس أن هؤلاء الطواغيت مسلمون تجب طاعتهم).

8-الغلو في الحاكمية؛ حتى جعلوها واجب العصر بإطلاق, وأولوية يجب تقديم الكلام فيها عن غيرها, وازدروا الكلام في غيرها.

9-الوقوع في الحزبية بسبب الغلو في الحاكمية, فمن تكلم في الحكام وكفرهم فهو المجاهد الذي لا يخاف, ومن سكت ولم يكفر فهو المداهن المنافق.

كتبه

د. أحمد محمد الصادق النجار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق