الخميس، 29 ديسمبر 2022

مناط التكفير عند أئمة الدعوة النجدية

 مناط التكفير عند أئمة الدعوة النجدية

إن التكفير بالنوع أو بالعين يجب أن يكون بمناط شرعي صحيح؛ لأن التكفير حكم شرعي، والحق فيه لله سبحانه وحده, قال أبو حامد الغزالي:(الكفر حكم شرعي كالرق والحرية مثلا، إذ معناه إباحة الدم والحكم بالخلود في النار، ومدركه شرعي)فيصل التفرقة بين الإسلام والزندقة ١٢٨
وقال ابن تيمية:( الكفر حكم شرعي متلقى عن صاحب الشريعة)درء تعارض العقل والنقل (١/٢٤٢)
فمن كفر بمناط شرعي صحيح لم يكن معتديا على حق الله سبحانه، ومن كفر بغير مناط شرعي كان متعديا على حق الله.
ولما تجاوز الخوارج هذا الحق وكفروا بما ليس بمكفر شرعا جاء الوعيد الشديد فيهم، وأنهم كلاب أهل النار.

ويجب أن يعلم أن الخلاف الحقيقي مع الخوارج إنما هو في مناط التكفير, وليس في العذر بالجهل (بمناط شرعي صحيح للتكفير بالنوع) أو في عدم العذر؛ إذ الخلاف في العذر وعدمه خلاف دائر بين أهل السنة والجماعة, وإن كان هناك من شذ فأخرج الخلاف عن دائرة أهل السنة.
دعاني إلى هذا ما وجدته من التلبيس الحاصل بالتسوية بين من لا يعذر بالجهل بمناط شرعي صحيح للتكفير وبين من لا يعذر بمناط غير صحيح، فأراد أن يسوي بين المختلفين؛ بجامع عدم العذر والتكفير!!

وإن الناظر في تراث أئمة الدعوة يجد منه ما يتعلق بالتأصيل ومنه ما يتعلق بالتنزيل
والخطأ في التنزيل لا يدل على الخطأ في الأصول، فقد اختلف الصحابة في التنزيل وحصل بينهم اقتتال رضوان الله عليهم ولا يدل ذلك على خطأ أصولهم، كما أن ما يقع من أخطاء فردية بحكم واقع متعين لا يدل أيضا على نقض دعوة وطعن في أصولها
وهذا بخلاف الخطأ في الأصول؛ فإن الخطأ في الأصول ينقض الدعوة ويحكم بضلالها.
ومن الأصول المهمة عند النظر في أقوال العلماء عدم إعفال حمل مطلقها على مقيدها، وعدم إغفال الواقع المتعين وملابساته، فلا نخرج القول عن سياقه وواقعه الذي يجب أن يفهم وفقه، ومن استدل بإطلاقٍ له سياقه وواقعه وملابساته على أمر فقد أخطأ وأخذ بالمتشابه.

والمتأمل في تراث أئمة الدعوة النجدية يجد أن مناط التكفير عندهم يرجع إلى:

1-مناط الشرك الأكبر الذي هو جعل ند مع الله في العبادة.

وهذا المناط: مناط صحيح للتكفير, فالشرك بالله كفر أكبر كمن سجد لقبر أو استغاث بميت استغاثة شركية ونحو ذلك
وهذه الأفعال كفر بنفسها وإن لم يصحبها اعتقاد فاسد في الربوبية، كما هو مبسوط في موضعه.
وأما مسألة هل يعذر المعين فيها بالجهل أو لا؟، فهذه من مسائل التنزيل بمناط صحيح، وقد وقع فيها خلاف بين أئمة الدعوة أنفسهم
والخلاف فيها من الخلاف الدائر بين أهل السنة، وقد أبعد من جعلها من مسائل الأصول، أو اتهم أئمة الدعوة بالغلو بسببها.
وإن كنت أميل إلى العذر بالجهل المعتبر، وفصلت في رسالة:"الأصول التي ترجع إليها مسألة العذر بالجهل"

قال الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن: (وأخبرتهم ببراءة الشيخ من هذا المعتقد والمذهب، وأنه لا يكفر إلا بما أجمع المسلمون على تكفير فاعله من الشرك الأكبر، والكفر بآيات الله ورسله، أو بشيء منها، بعد قيام الحجة، وبلوغها المعتبر، كتكفير من عبد الصالحين، ودعاهم مع الله، وجعلهم أندادا له، فيما يستحقه على خلقه، من العبادات، والإلهية، وهذا مجمع عليه أهل العلم والإيمان) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 467)

وقال: (وأما تكفير من أجاز دعاء غير الله، والتوكل على سواه، واتخاذ الوسائط بين العباد وبين الله في قضاء حاجاتهم، وتفريج كرباتهم، وإغاثة لهفاتهم، وغير ذلك من أنواع عباداتهم، فكلامهم فيه، وفي تكفير من فعله أكثر من أن يحاط به ويختصر; وقد حكى الإجماع عليه غير واحد ممن يقتدى به، ويرجع إليه من مشايخ الإسلام وأئمته الكرام
ونحن قد جرينا على سنتهم في ذلك، وسلكنا مناهجهم فيما هنالك، لم نكفر أحدا إلا من كفره الله ورسوله، وتواترت نصوص أهل العلم على تكفيره، ممن أشرك بالله وعدل به سواه ; أو عطل صفات كماله، ونعوت جلاله، أو زعم أن لأرواح المشايخ والصالحين تصرفا وتدبيرا مع الله؛ تعالى الله عما يقول الظالمون علوا كبيرا.). الدرر السنية في الأجوبة النجدية (12/ 339)

وقال الشيخ عبد الله أبابطين: (فإذا عرفت مذهبهم أن أصله التكفير بالذنوب، وكفروا أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، واستحلوا قتلهم، متقربين بذلك إلى الله، فإذا تبين لك ذلك، تبين لك ضلال كثير من أهل هذه الأزمنة، في زعمهم: أن الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - وأتباعه خوارج؛ ومذهبهم مخالف لمذهب الخوارج، لأنهم يوالون جميع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويعتقدون فضلهم على من بعدهم، ويوجبون اتباعهم، ويدعون لهم، ويضللون من قدح فيهم، أو تنقص أحدا منهم، ولا يكفرون بالذنوب، ولا يخرجون أصحابها من الإسلام، وإنما يكفرون من أشرك بالله، أو حسن الشرك؛ والمشرك كافر بالكتاب، والسنة، والإجماع، فكيف: يجعل هؤلاء مثل أولئك؟!.) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (1/ 362)

2-مناط الاستحلال العقدي أو الامتناع فيما ليس كفرا بذاته, وهو أيضا تكفير بمناط شرعي صحيح.
وقد أرجعوا التكفير في مسألة الحكم بغير ما أنزل الله إلى هذا المناط.
وأرجعوا نوعا من أنواع التكفير بموالاة الكفار إليه.
قال الشيخ محمد بن عبد الوهاب: (لا ريب أن من لم يعتقد وجوب الحكم به فهو كافر، فمن استحل أن يحكم بما يراه هو عدلا من غير اتباع لما أنزل الله فهو كافر؛ فإنه ما من أمة إلا وتأمر بالحكم بالعدل، وقد يكون العدل في دينها ما رآه كإبراهيم، بل كثير من المنتسبين إلى الإسلام يحكمون بعاداتهم كسوالف البادية، وأمر المطاعين، ويرونه أنه هو الذي يبتغي الحكم به دون الكتاب والسنة، وهذا هو الكفر إذا عرفوا ما أنزل الله فلم يلتزموه، بل استحلوا الحكم بغيره فهم كفار، وإلا كانوا جهالا كما تقدم). مؤلفات الشيخ محمد بن عبد الوهاب، الجزء الثاني عشر) (ص: 147)
وقال الشيخ عبد اللطيف: (وما ذكرته عن الأعراب من الفرق بين من استحل الحكم بغير ما نزل الله، ومن لم يستحل، فهو الذي عليه العمل وإليه المرجع عند أهل العلم) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3/ 311)
وقال عبد الله أبابطين: (إن الكفر نوعان: كفر عمل، وكفر جحود وعناد، وهو أن يكفر بما علم أن الرسول جاء به من عند الله جحودا وعنادا من أسماء الرب وصفاته وأفعاله وأحكامه التي أصلها توحيده وعبادته -وحده لا شريك له-، وهذا مضاد للإيمان من كل وجه. وأما كفر العمل فمنه ما يضاد الإيمان كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه. وأما الحكم بغير ما أنزل الله وترك الصلاة، فهذا كفر عمل لا كفر اعتقاد، وكذلك قوله: " لا ترجعوا بعدي كفارا يضرب بعضكم رقاب بعض "  وقوله: " من أتى كاهنا فصدقه، أو أتى امرأة في دبرها، فقد كفر بما أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم" . فهذا من الكفر العملي وليس كالسجود للصنم، والاستهانة بالمصحف، وقتل النبي وسبه) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (الجزء الثالث) (ص: 14)
وسئل الشيخ عبد الله بن الشيخ محمد: هل يجوز التحاكم إلى غير كتاب الله؟
فأجاب: (لا يجوز ذلك، ومن اعتقد حله فقد كفر) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 252)
وسئل أيضا، الشيخ: عبد اللطيف بن عبد الرحمن، عما يحكم به أهل لسوالف من البوادي وغيرهم من عادات الآباء والأجداد، هل يطلق عليهم بذلك الكفر بعد التعريف ... إلخ؟
فأجاب: (من تحاكم إلى غير كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم بعد التعريف، فهو كافر) الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 426)
 وقال حمد بن عتيق: (وقال تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ قَالُوا حَسْبُنَا مَا وَجَدْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَلا يَهْتَدُونَ} [سورة المائدة آية: 104] ، فَبَيَّن: أن الامتناع عن التحاكم، وإلى ما بعث الله به رسوله، من طاعة الشيطان، ومن الموجبات لعذاب السعير). الدرر السنية في الأجوبة النجدية (14/ 229)

وفي فتوى للشيخ سليمان بن سحبان تكلم فيها عمن ينصب حكما وهو يرى أن هذا هو الذي ينبغي الحكم به دون الكتاب والسنة، أو لم يعتقد وجوب ما أنزل الله, أو استحل, أو يرى تقديمه على حكم الكتاب والسنة؛ فبين أن هذا كفر أكبر.
ثم انتقل إلى الكلام عمن يعرض عن حكم الله وعتقد أن تحكيم شريعة الإسلام، يفضي إلى القتال والمخالفة، وأنه لا يحصل الاجتماع والألفة، إلا على حكم غير الله, وإذا قيل لهم: اتركوا,  قالوا: إنا لا نفعل ذلك إلا خوفا من أن يقتل بعضنا بعضا، فإني إذا لم أوافق صاحبي، على التحاكم إليها قتلني أو قتلته.
فلما كان التحاكم بهذه الصورة التي هي كفر أكبر منع منه لأجل الدنيا, وذكر أنه إذا كان هذا التحاكم كفرا، والنّزاع إنما يكون لأجل الدنيا، فكيف يجوز لك أن تكفر لأجل ذلك؟
فلو ذهبت دنياك كلها، لما جاز لك المحاكمة إلى الطاغوت لأجلها، ولو اضطرك مضطر وخيرك، بين أن تحاكم إلى الطاغوت، أو تبذل دنياك، لوجب عليك البذل
والفتوى كاملة موجودة في الدرر السنية في الأجوبة النجدية (10/ 502-511)
وقال الشيخ حمد بن عتيق:(من استحل موالاة المشركين ومظاهرتهم وإعانتهم على المسلمين فكفره اعظم من هذا..) سبيل النجاة والفكاك ص ١٠٧

3-مناط التشريع الذي يستلزم الاستحلال العقدي أو الامتناع, فجعلوا فعل التشريع كفرا باعتبار كونه مظنة للمناط الحقيقي؛ للتلازم بين الظاهر والباطن، فحكموا على الفعل بالكفر الأكبر؛ لكونه يستلزم مناط الاستحلال العقدي أو الامتناع، فأنزلوا المظنة منزلة المئنة.
فهو في الحقيقة استدلال بفساد الظاهر على فساد الباطن، ولم يجعلوا ذات التشريع كفرا أكبر من جنس السب والاستهزاء الذي يدل بالضرورة على كفر الباطن، فكفر الظاهر في السب يدل قطعا على كفر الباطن، ولذا لم يلتفت في السب إلى الاستحلال.

وهذا المناط محل خلاف بين أهل السنة، وإن كنت لا أراه مناطا صحيحا، فقد يفسد الظاهر ولا يزول الباطن بالكلية وإنما يضعف، فالتلازم في القوة بين الظاهر والباطن ليس كالتلازم في الضعف، ويشهد لهذا قصة حاطب، وسعد بن عبادة لما جادل عن منافق رضي الله عنهما.
ولأن فعل التشريع لا يدل بالضرورة على الاستحلال أو الامتناع كما هو الشأن في السب والاستهزاء، وإنما يحتمل صورا ينتفي فيها قصد الاستحلال أو الامتناع، وما احتمل في القصد صورا كفرية وغير كفرية لا يجعل بذاته كفرا أكبر.
فإن قيل: ما الفرق بينهم في هذا المناط وبين مناط الجماعات الجهادية؟
قيل: يفارقونهم في هذا المناط من جهتين:
الجهة الأولى: أنهم لا يجعلون ذات التشريع كفرا أكبر وإنما يراعون فيه كونه يدل على الاستحلال أو الامتناع.
فالمناط الحقيقي عندهم هو الاستحلال أو الامتناع وليس ذات التشريع، فنظروا فيه إلى كفر الباطن، وبالتالي متى تُحقق من أن المشرع لم يستحل ولم يمتنع كأن يعترف بضلاله وخطئه ويحذر الناس من تشريعه... فلا يكون فعله كفرا أكبر؛ لتخلف المناط الحقيقي وتخلف كفر الباطن فيه.
ولو كان ذات التشريع مناطا للتكفير لما صح التفريق بين من حكم في مسألة بتشريع وبين من استبدل الشريعة، ولا بين أن يصدر من حاكم أو قاض وبين أن يصدر من رب أسرة أو مدير مدرسة؛ لأن الكفر في نفسه جنس لا يقبل التجزأة.
ويظهر الفرق في صورة من استبدل الشريعة وهو يعتقد حرمة فعله ولا يرى منازعة الله في حقه,
فمن كفر بذات التشريع كفره عينا, ومن كفر بالتشريع لكونه يستلزم الاستحلال أو الامتناع لم يكفره عينا.

الجهة الثانية: لا يكفرون عينا بهذا المناط إلا بعد تحقق الشروط وانتفاء الموانع.
وفي تقرير هذا المناط:
قال الشيخ العثيمين –رحمه الله- في شرحه على كتاب التوحيد (2\326) فقال : "أما بالنسبة لمن وضع قوانين تشريعية مع علمه بحكم الله وبمخالفة هذه القوانين لحكم الله ، فهذا قد بدل الشريعة بهذه القوانين ، فهو كافر ؛ لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله ، وعندما نقول بأنه كافر ؛ فنعني بذلك أن هذا الفعل يوصل إلى الكفر".
فأرجع الكفر باستبدال الشريعة لمناط التكفير وهو الاستحلال والامتناع
ولهذا قال: ( ؛ لأنه لم يرغب بهذا القانون عن شريعة الله إلا وهو يعتقد أنه الخير للعباد والبلاد من شريعة الله)
وقال –أيضا- رحمه الله- في شرحه على الثلاثة الأصول ضمن مجموع الفتاوى (6\161) وفي (2\144-145) –أيضا- : "فإنهم لم يضعوا تلك التشريعات المخالفة للشريعة الإسلامية إلا وهم يعتقدون أنها أصلح وأنفع للخلق".
 ولما لم يكن ذات التشريع مناط التكفير تخلف حكم التكفير إذا تُحقق تخلف الاستحلال أو الامتناع
ولهذا قال الشيخ العثيمين : "وإذا كان يعلم الشرع ولكنه حكم بهذا أو شرع هذا وجعله دستورا يمشي الناس عليه يعتقد انه ظالما في ذلك وان الحق فيما جاء به الكتاب والسنة فأننا لا نستطيع أن نكفر هذا"

وكذلك الشيخ محمد بن إبراهيم فقد قال الشيخ محمد بن إبراهيم في (10/8/1375هـ): «واعتبارُ شيءٍ من القوانين للحُكم بها ولو في أقلِّ قليل، لا شكَّ أنه عدمُ رضا بحكمِ الله ورسوله، ونسبةُ حكمِ الله ورسوله إلى النقصِ وعدمِ القيام بالكفاية في حلِّ النزاع وإيصالِ الحقوق إلى أربابها، وحكمِ القوانين إلى الكمال وكفاية الناس في حلِّ مشاكلهم، و(اعتقاد) هذا كفرٌ ناقلٌ عن الملة، ...» اهـ، (الفتاوى والرسائل) [12/251].

وفي فتوى سنة ١٣٨٥ وهي متأخرة عن رسالته تحكيم القوانين التي كانت سنة ١٣٨٠ جاء فيها كما في مجموع الفتاوى (1/80( له :" و كدلك تحقيق معنى محمد رسول الله من تحكيم شريعته ؛ والتقيد بها؛ و نبذ ما خالفها من القوانين والاوضاع و سائر الاشياء التي ما انزل الله بها من سلطان ؛ والتي من حكم بها " يعني القوانين الوضعية " او حاكم اليها ؛ معتقدا صحة دلك و جوازه ؛ فهو كافر الكفر الناقل عن الملة ؛فان فعل دلك بدون اعتقاد دلك وجوازه ؛ فهو كافر الكفر العملي الدي لا ينقل عن الملة
وأما قول الشيخ محمد بن إبراهيم في رسالة تحكيم القوانين التي كانت سنة ١٣٨٠ه:( الخامس: وهو أعظمها وأشملها وأظهرها معاندة للشرع، ومكابرة لأحكامه، ومشاقّة لله ورسوله، ومضاهاة بالمحاكم الشرعية، إعدادا وإمدادا وإرصادا وتأصيلا، وتفريعا وتشكيلا وتنويعا، وحكما وإلزاما، ومراجع ومستندات. فكما أنّ للمحاكم الشرعية مراجعَ مستمدّات، مرجعها كلُّها إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فلهذه المحاكم مراجعٌ، هي: القانون المُلفّق من شرائعَ شتى، وقوانين كثيرة، كالقانون الفرنسي، والقانون الأمريكي، والقانون البريطاني، وغيرها من القوانين، ومن مذاهب بعض البدعيين المنتسبين إلى الشريعة وغير ذلك. فهذه المحاكم في كثير من أمصار الإسلام مهيّأة مكملة، مفتوحةُ الأبواب، والناس إليها أسرابٌ إثْر أسراب، يحكُمُ حُكّامُها بينهم بما يخالف حُكم السُنّة والكتاب، من أحكام ذلك القانون، وتُلزمهم به، وتُقِرُّهم عليه، وتُحتِّمُه عليهم.. فأيُّ كُفر فوق هذا الكفر، وأيُّ مناقضة للشهادة بأنّ محمدًا رسولُ اللهِ بعد هذه المناقضة).
فإما أن نرجعها بالنظر إلى مجموع كلامه إلى كون الشيخ يجعل الفعل يدل على الاستحلال، فالاوصاف التي ذكرها كالأعداد والإمداد والإلزام ... ترقى عنده إلى كون الفعل يدل على الاستحلال...
فنقدم الجمع بين أقواله
وإما أن نقول بتراجعه للفتوى المتأخرة عنه فنلجأ إلى الترجيح واعتماد المتأخر.

4-مناط الموالاة التامة للكفار، سواء كانوا كفارا أصليين أو مرتدين .
ويجب ألا نغفل هنا المناط الأول الذي تقدم ذكره.
قال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن رحمه الله في تفسير قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ ﴾ [المائدة: 51]، وقوله سبحانه: ﴿ لا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ ﴾ [المجادلة: 22]، وقوله عز وجل: ﴿ أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُوًا وَلَعِبًا مِنْ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَالْكُفَّارَ أَوْلِيَاءَ وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 57]: (فقد فسرته السنة، وقيدته وخصته بالموالاة المطلقة العامة) [الدرر السنية 1 /474]

5-مناط محبة دين الكفار ومناصرته وإعانتهم لأجله، أو تصحيح دينهم...
قال الشيخ محمد بن سليم:(النوع الأول: أن يودهم ويود ما هم عليه من الكفر، ويطمئن إلى ذلك ويرضى به فهذا كفر بلا ريب
النوع الثاني أن يودهم لغرض دنيوي مع كراهته لما هم عليه وتضليلهم فهذا قد أتى كبيرة من كبائر الذنوب)الدرر السنية (١٥/٤٧٩)

6-مناط مظاهرة الكفار ومعاونتهم على المسلمين المستلزم لظهور الكفر واندراس الإسلام والذي يدل على عدم أصل البراء من الكفر وأهله.
فنظروا إلى أن الفعل الذي يستلزم ظهور الكفر يدل على انتفاء الولاء والبراء من أصله, فجعلوا المظاهرة والمعاونة كفرا باعتبار كونها مظنة للمناط الحقيقي؛ للتلازم بين الظاهر والباطن، فحكموا على الفعل بالكفر الأكبر؛ لكونه يستلزم زوال أصل الولاء والبراء، فأنزلوا المظنة منزلة المئنة.
ولم يجعلوا ذات المظاهرة والمعاونة كفرا أكبر من جنس السب والاستهزاء الذي يدل بالضرورة على كفر الباطن، ولذا لم تكن المظاهرة كفرا في كل صورها، فأخرجوا -مثلا-الجاسوس.
قال الشيخ محمد بن عبدالوهاب رحمه الله: (واعلموا أن الأدلة على تكفير المسلم الصالح: إذا أشرك بالله، أو صار مع المشركين على الموحدين - ولو لم يشرك - أكثر من أن تحصر، من كلام الله، وكلام رسوله، وكلام أهل العلم كلهم) [الدرر السنية 10/8)
وقال الشيخ عبداللطيف بن عبدالرحمن آل الشيخ: (والمرء قد يكره الشرك، ويحب التوحيد، لكن يأتيه الخلل من جهة عدم البراءة من أهل الشرك، وترك موالاة أهل التوحيد ونصرتهم، فيكون متبعًا لهواه، داخلا من الشرك في شُعَب تهدم دينه وما بناه، تاركًا من التوحيد أصولا وشعبًا، لا يستقيم معها إيمانُه الذي ارتضاه، فلا يحب ويبغض لله، ولا يعادي ولا يوالي لجلال من أنشأه وسوّاه، وكل هذا يؤخذ من شهادة: أن لا إله إلا الله) [الدرر السنية 8/396]
وقال عبدُ اللَّطيفِ بن عبد الرَّحمن آل الشَّيخ: (أكبَرُ ذَنبٍ وأضَلُّه وأعظَمُه منافاةً لأصلِ الإسلامِ: نُصرةُ أعداءِ اللهِ ومُعاونَتُهم، والسَّعيُ فيما يُظهِرُ به دينَهم وما هم عليه من التعطيلِ والشِّركِ والموبِقاتِ العِظامِ) مجموعة الرسائل والمسائل النجدية (3/57).
وقال رحمه الله: (من أعانهم أو جرهم على بلاد أهل الإسلام، أو أثنى عليهم أو فضلهم بالعدل على أهل الإسلام، واختار ديارهم ومساكنتهم وولايتهم، وأحب ظهورهم؟! فإن هذا ردة صريحة بالاتفاق، قال الله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَهُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ ﴾ [المائدة: 5] [الدرر السنية 8 /326].

فهذه هي مناطات التكفير عند أئمة الدعوة النجدية وهي مناطات شرعية صحيحة
ولا تتفق مع مناطات التكفير عند الجماعات الجهادية، فمناطات التكفير عند الجماعات الجهادية ومن وافقهم تعود إلى التكفير بما ليس بمناط شرعي، فتراهم يأتون إلى مناط شرعي خاص فيخرجونه عن خصوصه وما يدل عليه ويجعلونه مناطا عاما يشمل كل صورة داخلة تحت مسماه
كما هو الشأن في تكفيرهم بمطلق التشريع وبمطلق مظاهرة الكفار على المسلمين وبمطلق إعانتهم ...
ومن ذلك: قول أبي قتادة الفلسطيني في كتابه (الجهاد والاجتهاد) : "وقد أجمع الأوائل من أئمّتنا على أن مطلق التّشريع على خلاف الشّريعة هو كفر وردّة".
وقول أبي يحيي الليبي في كتابه حكم الجاسوس المسلم ص ٣٢:(وبما انه قد تقرر لدينا فيما سبق أن التجسس للكفار على المسلمين ليستعينوا بذلك في حربهم لهم يعني بالضرورة انخاذهم أولياء وأنصارا وهو من مظاهرتهم ومناصرتهم ومعاونتهم بقي أن تعرف أن حكم مظاهرتهم هو الكفر الأكبر المهرج من الملة)
وقوله ص (٥٦):(ففعل حاطب لم يكن في حقيقته لا مظاهرة ولا إعانة ولا ممالاة للكفار على المسلمين والاي هي مناط التكفير هنا)
 
ومما ينبغي التنبيه عليه: أن من ابتلي بالتكفير المنفلت يستغل ما وجده عن بعض الأئمة من تنزيل حكم التكفير على أشخاص أو بلدة في قضية معينة وواقع خاص
فيأتي فيعمم الحكم ويبنيه على مناطاته.
فلم ينظر إلى الواقع الخاص الذي ورد لأجله الحكم، ولم يراع في الإطلاقات وجود ما يقيدها.
فمثلا: لما تكلم (بعض) أئمة الدعوة النجدية في الدولة العثمانية
وصنفوا كتابي الدلائل وسبيل النجاة لم ينظر الغلاة للواقع الخاص، فقد جاء في الدرر السنية (٩/١٥٧_١٥٨) أن سبب تصنيف "الدلائل"، لما هجمت العساكر التركية على نجد في وقته، وأرادوا اجتثاث الدين من أصله، وساعدهم جماعة من أهل نجد، من البادية والحاضرة، وأحبوا ظهورهم.
وكذلك: سبب تصنيف الشيخ حمد بن عتيق "سبيل النجاة" هو لما هجمت العساكر التركية على بلاد المسلمين، وساعدهم من ساعدهم، حتى استولوا على كثير من بلاد نجد. فمعرفة سبب التصنيف مما يعين على فهم كلام العلماء، فإنه بحمد الله ظاهر المعنى؛ فإن المراد به موافقة الكفار على كفرهم، وإظهار مودتهم، ومعاونتهم على المسلمين، وتحسين أفعالهم، وإظهار الطاعة والانقياد لهم على كفرهم).

ولو كان مجرد وجود إطلاق من إمام استغله طائفة منحرفة يعد هذا الإمام مصدرا لهم وقدوتهم لما سلم إمام ولا صحابي من أن يكون رأسا لطائفة منحرفة.

ولست هنا في مقام التسويغ لأخطاء التنزيل، وإنما لدفع التهمة عن الخطأ في الأصول، ودحض شبهةالتسوية بينهم وبين الخوارج ومن وافقهم.

وأختم بقول الشيخ عبد اللطيف آل الشيخ:(وقد بلغنا : عنكم نحو من هذا وخضتم في مسائل من هذا الباب كالكلام في الموالاة، والمعادة والمصالحة والمكاتبات وبذل الأموال والهدايا ونحو ذلك من مقالة أهل الشرك بالله، والضلالات والحكم بغير ما انزل الله عند البوادى، ونحوهم من الجفاة، لا يتكلم فيها إلا العلماء من ذوي الألباب ومن رزق الفهم عن الله وأوتي الحكمة وفصل الخطاب .
والكلام في هذا : يتوقف على معرفة ما قدمناه، ومعرفة أصول عامة، كلية، لا يجوز الكلام في هذا الباب وفى
غيره لمن جهلها و أعرض عنها وعن تفاصيلها فإن الإجمال ،والإطلاق ،وعدم العلم،بمعرفة مواقع الخطاب، وتفاصيله، يحصل به من اللبس، والخطأ، وعدم الفقه عن الله، ما يفسد الأديان، ويشتت الأذهان، ويحول بينها، وبين فهم السنة والقرآن ؛ قال : ابن القيم، في كافيته، رحمه الله تعالى :
فعـليك بالتفصيـل والتبيين فالـ إطلاق والإجمال دون بيان
قد أفسدا هذا الوجود وخبطا الـ أذهان والآراء كل زمان
وأما : التكفير بهذه الأمور، التي ظننتموها، من مكفرات أهل الإسلام فهذا : مذهب، الحرورية، المارقين، الخارجين على علي بن أبي طالب)

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق