الثلاثاء، 1 ديسمبر 2020

[فقه الخلاف في مسائل الاجتهاد لا يقوم على إلغاء الخلاف, ومنع المفتين من الإفتاء بغير مشهور المذهب]

[فقه الخلاف في مسائل الاجتهاد لا يقوم على إلغاء الخلاف, ومنع المفتين من الإفتاء بغير مشهور المذهب]


إن النظر في هذه المسألة يعتمد على النظر إلى ما كان عليه الرعيل الأول من الصحابة والتابعين, تحقيقا لمقولة الإمام مالك رحمه الله: (ما لم يكن يومئذ دينا فلا يكون اليوم دينا)

وقد اتفق الصحابة على إقرار بعضهم بعضا في مسائل الاجتهاد, وتسويغ الخلاف بينهم مع بقاء الألفة, كما اتفقوا على عدم إلزام الناس برأي أبي بكر دون غيره, وهو خليفة المسلمين, ولا رأوا أن في الإفتاء بخلاف ما أفتى به أبو بكر رضي الله عنه تفرقة للأمة ولا خروجا على حكم إمامها في الفقه, ولا تشويشا عليه, خصوصا مع وجود من أسلم حديثا, ومن يتربص بالمسلمين الدوائر ويحاول التشكيك في دينهم وفقههم, ومع وجود من ارتد وحارب الإسلام وأهله.

فقد جاء صحيح البخاري (2/ 142) عن مروان بن الحكم، قال: شهدت عثمان، وعليا رضي الله عنهما وعثمان «ينهى عن المتعة، وأن يجمع بينهما»، فلما «رأى علي أهل بهما، لبيك بعمرة وحجة»، قال: «ما كنت لأدع سنة النبي صلى الله عليه وسلم لقول أحد» قال ابن حجر تعليقا عليه في فتح الباري شرح صحيح البخاري (165/ 25): (وفيه أن المجتهد لا يلزم مجتهدا آخر بتقليده لعدم إنكار عثمان على علي ذلك مع كون عثمان الإمام إذ ذاك)

قال سفيان الثوري أيضا: ( ما اختلف فيه الفقهاء فلا أنهى أحداً من إخواني أن يأخذ به).

أما مسألة مراعاة المذهب السائد في البلد فالواجب على المفتي أن يفتي بما يغلب على ظنه أنه مراد الله, وهو في هذا قد يوافق رأي المذهب السائد, وقد يخالفه إلا أنه إن أفتى بما يراه مخالفا للصواب فقد غش, قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 74): (ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنًا للَّه ورسوله وللسائل وغاشًا له، واللَّه لا يهدي كيد الخائنين، وحرَّم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد [فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده)

والمفتي قد يسأله السائل عن رأي المذهب وقد يسأله عن اجتهاده, فإذا سأله عن المذهب فله أن يخبره بما في المذهب, وأما إذا سأله عن اجتهاده فليس له أن يخبره إلا بما يراه صوابا, ففي إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 167): (وقد قال القفال: لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة قلت: مذهب الشافعي كذا لكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرِّفه أنَّ الذي أفتيتُه به غير مذهبه، فسألت شَيَخنا -قدَّس اللَّه روحه- عن ذلك فقال: أكثر المُستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي يسأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه).

ويزداد الأمر تغليظا إذا كان ما عليه المذهب مما يخالف الصواب عنده يوقع الناس في الضيق والحرج, فيخرج بالإفتاء به عن دلالة الدليل الجزئي في المسألة ويخرج أيضا عن دلالة الأدلة الكلية على رفع الحرج والضيق.

نعم, إذا لم يغلب على ظن المفتي شيء فله أن يفتي الناس بمشهور المذهب بما لا يوقع في نقض أصل كلي ومقصد شرعي, والأولى له أن يتوقف.

ويجب أن نفرق بين المذهب السائد في البلد وما جرى عليه عرف البلد, فليس كل ما جرى عليه عرف البلد يكون موافقا لما في المذهب السائد.

هذا ما درج عليه الصحابة والتابعون والأئمة الأربعة وغيرهم إلا أن بعض إخواننا يستمسك بكلام المازري والشاطبي, وهو ما نقله الشاطبي في الموافقات (5/ 101) من قول المازري: (ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قل، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب؛ لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها، ولكن إذا لم يقدر على أخذ الثمن إلا أن يأخذ طعاما؛ فليأخذه منهم من يبيعه على ملك منفذه4 إلى الحاضرة، ويقبض البائع الثمن، ويفعل ذلك بإشهاد من غير تحيل على إظهار ما يجوز).

فعلق عليه الشاطبي بقوله: (فانظر كيف لم يستجز -وهو المتفق على إمامته- الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية؛ إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله؟ فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة).

فهؤلاء العلماء خرجوا عن الأصل لمقتضى المصلحة الضرورية إلا أن الشارع لم يغفل هذه المصلحة وإنما سد الطرق المفضية إلى نقضها بالترهيب من الإفتاء بغير علم, والافتراء على الله, والتحذير من تتبع الرخص, فرأى السلف وكثير من الأئمة أن هذا يغني عن قطع باب الاجتهاد وعن المنع من الإفتاء بما يغلب على الظن صوابه وإن خالف المذهب.

فالشرع لما أمر المفتي أن يتبع الكتاب والسنة والإفتاء بهما سد كل طريق يفضي إلى غير مراد الله بالترهيب والتحذير والوعيد؛ مما أغنى عن تقييد الدليل وتخصيصه.

كيف وأن التقييد بالمذهب أو المشهور منه جر إلى اعتقاد صواب ما في المذهب دون غيره, وإلى فساد قول الخارج عنه, وأن المفتى بخلاف المذهب يستحق العقوبة, وجر أيضا إلى إماتة روح الاجتهاد عند بعضهم, وإلى اعتبار أن الأدلة المخالفة لمشهور المذهب إنما تقرأ تبركا؟!!

ثم إذا جوزوا الاستدلال بالضعيف والشاذ للمصلحة والضرورة وراعوا الخلاف مع أنه خلاف الصواب في نظره فتجويز إفتاء المفتي بما غلب على ظنه صوابه أولى وأوجب.

وأخيرا: لو أننا عددنا الخلاف في الإلزام بالمذهب وعدمه من الخلاف الاجتهادي فلا يسوغ للملزمين بالمذهب أن ينزلوا هذه المسألة منزلة القطعيات فيمنعوا الناس من الإفتاء بغير المذهب ويرتبوا عليها الولاء والبراء؛ إذ ليس من فقه الخلاف إنزال المسائل الاجتهادية منزلة المسائل القطعية!!

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار

 


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق