الثلاثاء، 22 ديسمبر 2020

نظرية قصر الاجتهاد في زماننا على الاجتهاد المقيد بمذهب ,وبيان حالها مقاصديا

نظرية قصر الاجتهاد في زماننا على الاجتهاد المقيد بمذهب

وبيان حالها مقاصديا

إن وجود مجتهد مقيد بمذهب لا يتعداه- والمراد به المتمكن من تخريج الوجوه على نصوص إمامه-, فضلا عن مجتهد الفتيا – وهو المتمكن من ترجيح قول على آخر في مذهب إمامه-: لا يتحقق به فرض الكفاية في إحياء أصول الاستدلال, وبيان أحكام المستجدات التي تنزل بالناس, وإعمال القواعد والأصول التي لا تختص بإمامه, ولذا جاء في الإبهاج في شرح المنهاج (3/ 256) للسبكي أنه قال: (قال ابن الصلاح والذي رأيته من كلام الأئمة يشعر بأنه لا يتأدى فرض الكفاية بالمجتهد المقيد, قال: والذي يظهر أنه يتأدى به فرض الكفاية في الفتوى وإن لم يتأد به فرض الكفاية في إحياء العلوم التي منها الاستمداد في الفتوى)

ولا يتحقق به تحقيق مقصد عموم الرسالة؛ إذ يتوقف على وجود مجتهدين غير مقيدين بالمذهب لاستنباط أحكام ما يحتاج الناس إليه في كل زمان, فالمسائل المستجدة تتوقف على الاجتهاد الذي يتوقف على الخروج على أصول المذهب الخاصة به, وهو من باب توقف المسبَّب على السبب, فإذا انتفى السبب انتفى المسبب, ويترتب على انتفائه خروج الناس عن مقصد تحقيق العبودية لله سبحانه, ويكونون متبعين لأهوائهم.

وحيث إن وجود مجتهد مقيد بالمذهب لا يتحقق به فرض الكفاية فإنه يؤدي إلى تأثيم الأمة؛ لتفريطها في إعداد مجتهد غير مقيد بالمذهب, وكذلك يوقع الأمة في الحرج؛ لعدم وجود من يعتمد على الأصول العامة التي لا تختص بمذهب في بيان أحكام أفعالهم وما يستجد في واقعهم, كما يُنتج مفاسد عظيمة كتقحم هذا الباب من ليس أهلا, فترى من لم يتقن علوم الآلة ولا يعرف من أصول الفقه إلا ساحله, ولا من المقاصد إلا رسمه ثم يقحم نفسه في مسائل واستنباطات وضوابط لا يصل المتمكن إلى حكمها والنظر في كلياتها التي ترجع إليها إلا بعد جهد وإنعام نظر واستغراق بحث.

وهذا يبين لنا مدة خطورة نظرية نفي وجود مجتهد غير مقيد بمذهب, وأن غاية ما يصل إليه من ترقى في العلم أن يكون مجتهدا مقيدا بمذهب, ويبين لنا أيضا خطورة ما يضعه هؤلاء من شروط عسرة في تحقق وجود مجتهد غير مستقل ولا مقيد بمذهب كأن يكون بلغ الغاية في العلوم التي يحتاج إليها في الاستدلال والاستنباط, فيشترطون أن يكون كمالك والشافعي, ولو تفطن هؤلاء لعلموا أن مالكا والشافعي وغيرهما من الأئمة لم يسلموا من تقليد في بعض مقدمات الاستدلال أو في بعض الأحكام, كما سيأتي.

بينما الأمر -مقاصديا وأصوليا- يستدعي اشتراط أصل العلوم وكمالها الواجب بما يتمكن به المجتهد من الاستنباط والاستدلال ونفي دلالة المعارض؛ ليتحقق به فرض الكفاية, ويتناسب مع ما يحتاج إليه المسلمون في مستجداتهم التي تتوقف على الاستنباط من الأدلة وإعمال القواعد والأصول.

ولا يلزم المجتهد أن يكون مجتهدا في كل علم يتعلق به الاجتهاد؛ وإلا لم يكن هناك مجتهد إلا في زمن الصحابة, قال الشاطبي في الموافقات (5/ 46): (...ونحن نمثل بالأئمة الأربعة؛ فالشافعي عندهم مقلد في الحديث لم يبلغ درجة الاجتهاد في انتقاده ومعرفته، وأبو حنيفة كذلك، وإنما عدوا من أهله مالكا وحده، وتراه في الأحكام يحيل على غيره كأهل التجارب والطب والحيض وغير ذلك ويبني الحكم على ذلك والحكم4 لا يستقل دون ذلك الاجتهاد).

فقد يقلد الفقيه مجتهدي علم الحديث ومع ذلك يوصف بالاجتهاد, فالأئمة بعد الصحابة كأبي حنيفة ومالك والشافعي وغيرهم لم يكونوا مجتهدين في جميع أحكامهم ولا كان ذلك شرطا في وصفهم بالاجتهاد وإنما كانوا يقلدون في بعض الأحكام والمقدمات الاستدلالية, قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 125): (...العالم بكتاب اللَّه وسنة رسوله وأقوال الصحابة، فهو المجتهد في أحكام النوازل، يقصد فيها موافقة الأدلة الشرعية حيث كانت، ولا ينافي اجتهاده تقليدُهُ لغيره أحيانًا، فلا تجد أحدًا من الأئمة إلا وهو مقلد من هو أعلم منه في بعض الأحكام، وقد قال الشافعي [رحمه اللَّه ورضي عنه في موضع  من الحج: "قلته تقليدًا لعطاء")

فلابد من الالتفات إل العلل والمقاصد الكبرى في هذا الباب وإعمال باب الاستصلاح والاستحسان؛ للمحافظة على المصالح الضرورية والحاجية والتحسينية.

ولا ريب أن الأحكام والشروط يراعى فيها الزمان والحال, فليس ما كان مراعى في زمن الاجتهاد المستقل كان هو المراعى في زمن الاجتهاد غير المستقل, فكانت الشروط مناسبة للزمان؛ حفاظا على وجود رتبة الاجتهاد, وهذا الذي يجب أن نسير عليه في عصرنا خصوصا مع ظهور العلمانية والقوانين الوضعية التي أبهرت بزيفها ودعاويها ومن يزخرف لها بعض الناس في استيعابها لما يحتاجه الناس في الحياة, وصورت أصحاب المذاهب أنهم يعيشون حقبة زمنية قديمة تناسب ذلك الزمن.

وإذا نظرنا للشروط التي وضعها العلماء للاجتهاد نجد أنهم وضعوها بعد خروج الناس عن سليقتهم لضبط الاجتهاد, فمنهم من تشدد ومنهم من  توسع, وهذا يدل على أن الاجتهاد في وضع شروط الاجتهاد يراعى فيه الزمان وما يتحقق به مقصود الشارع.

ثم ما نراه اليوم من إقبال أهل العلم على الاجتهاد الجماعي في النوازل والمستجدات وإيجاد حلول ومخارج شرعية عجز المجتهد المقيد بالمذهب أن يأتي بها: يقوي ما ندعو إليه من الاجتهاد الفردي القائم على أصول علمية صحيحة من غير تقيدٍ بمذهب معين.

ومما ينبغي أن يعلم: أن الاجتهاد في مسائل العلم يختلف بحسب ما تتعلق بالمسألة من علوم, فلو كانت المسألة تتعلق باللغة فقط كان لابد في المجتهد في هذه المسألة أن يكون له علم باللغة دون غيرها كالاجتهاد في معنى القرء, وإذا تعلقت بالحديث كان لابد له من علم بالحديث دون غيره من العلوم, وهو ما يعرف بتجزؤ الاجتهاد.

وقد يكون مجتهدا في باب ومقلدا في باب آخر فيجمع بين الوصفين.

 

وختاما لمسألة قصر الاجتهاد في زماننا على الاجتهاد المقيد في المذهب أقول: هو في نظري خطأ يهدم كليات شرعية, ومتى انبنى الخطأ على مخالفة أمر كلي وقواعد الشريعة فإنه يعد زلة؛ إذ هو أخذ بجزئي في هدم كليات الشريعة.

 

كتبه: أحمد محمد الصادق النجار


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق