الخميس، 9 يونيو 2022

[ مناقشة #المفتي الشيخ الصادق الغرياني في تنزيل الحكم العام المجرد على الواقعة المتعينة...]

 [ مناقشة #المفتي الشيخ الصادق الغرياني في تنزيل الحكم العام المجرد على الواقعة المتعينة...]

إن المفتي -وفقه الله- لا ينظر في (جملة) من فتاويه العامة (المتعلقة بواقع متعين) في المستطاع، فكثير ما يأمر بما لا يستطاع، وينزيل الأحكام العامة المجردة على وقائع خاصة مختلفة المناطات، ويخاطب الحكومات وكأنها حكومات قوية لها استقلالها، والإسلام فيها قوي، والشعوب قوية مستقلة!!
فالشيخ حفظه الله يغرق في النظر إلى الحكم العام مجردا من غير مراعاة لملابسات قد تخرجه عن تجرده وتغير صورته...
إلى غير ذلك ...

والصواب، كما قال الشاطبي:(اقتضاء الأدلة للأحكام بالنسبة إلى محالها على وجهين :
أحدهما : الاقتضاء الأصلي قبل طروء العوارض ، وهو الواقع على المحل مجردا عن التوابع والإضافات كالحكم بإباحة الصيد والبيع والإجارة ، وسن النكاح ، وندب الصدقات غير الزكاة ، وما أشبه ذلك .
والثاني : الاقتضاء التبعي ، وهو الواقع على المحل مع اعتبار التوابع والإضافات)
فالواقع المتعين لابد أن يكون الحكم وفق الواقع مع العلم الدقيق بملابساته، فيعمل فيه المناط الخاص.
وقد سبق أن نبهت على فقه الممكن، وكيفية إعماله ووجوب مراعاته بضوابطه...
ففي قصة من وقع على أهله في رمضان لما أخبر النبي صلى الله عليه  وسلم ابتداء بالمناط العام وهو أنه جامع أهله وهو صائم أفتاه النبي صلى الله عليه وسلم بالحكم العام وهو الإعتاق فإن لم بكن فصيام شهرين فإن لم يكن فإطعام ستين مسكينا
إلا أن هذا الأعرابي لما أعلم النبي صلى الله عليه وسلم بواقعه الخاص وأنه لا يستطيع انتقل النبي صلى الله عليه وسلم من الحكم العام المجرد إلى الحكم الخاص لتغير المناط فبدل أن يطعم غيره أطعم نفسه، فكان هذا هو حكمه الشرعي...
وإن لم يتدارك الشيخ هذا الخلل، فسينتج عنه مشقة خارجة على المعتاد وحرج على الأمة، وإنزال حكم على غير مناطه؛ مما ينفر عن الدين، ويسبب فتنة، وحتى لو فرضنا أنه حق فليس كل حق يقال وإنما ينظر للزمان والمكان والمحل، فإذا لم يراع المحل القابل انقلب الأمر إلى الضد، وشوهت الشريعة...

وحتى أفيد طلبة العلم سأشرح هذه المسألة ...
فأقول:
الشرع يحكم على فعل العبد بحكم مطلق إذا كان الفعل مطلقا
وبحكم مقيد إذا كان الفعل مقيدا
فعندما يكون الفعل مطلقا لا ملابسات له تقيده يكون الحكم مطلقا
وعندما يكون الفعل مقيدا له ملابساته يكون الحكم الشرعي مقيدا
ولا يصح إعطاؤه الحكم المطلق؛ لاختلاف المناط، وإنما يعطى حكم مقيد يكون هو الحكم الشرعي..
فالنظر يختلف بسبب تغير المناطات، فمن جعل الحكم المطلق هو حكم الشريعة فقد أخطأ.
وأعطيكم مثال يقرب:
السرقة من مال في حرز حكمها المطلق التحريم وإقامة الحد..
لكن السرقة في زمن المجاعة فعل مقيد له ملابساته ولا يصح إعطاؤه الحكم المطلق
ولذا لم يقم الحد عمر رضي الله عنه...
فمن يأتي ويعطيه الحكم المطلق يكون قد أخطأ..
فالحكم يختلف باختلاف مناطاته وما تقتضيه المصلحة الشرعية ويحقق مقاصد الشريعة..
وهذا من محال انتقاد المفتي وفقه الله، ولذا يعاب عليه اطراد فتاويه مع اختلاف الواقع المتعين...
فالواقع إذا ورد على مناط مطلق فهنا يأخذ حكما مطلقا، وأما إذا ورد على مناط مقيد فهنا يختلف حكمه عن الحكم المطلق.
والغريب أن يأتي من لا يفهم هذا التقرير فيعجم عن طريقة الفقهاء فيجعل الحكم المطلق هو الذي يجب أن يفتى به في الواقع المتعين بدعوى أن فتواه ليست ملزمة ولا يجب عليه تنفيذها!!
وهذا لعب بالشريعة، كمن يفتي زمن المجاعة بأن يقام الحد على السارق!
أو يجعل هذه الملابسات موانع!!

ويعجم آخر فيدعي أنه يجب على المفتي أن يبين الحكم المطلق ويلزم الحكومة شرعا بتنفيذه ولو كانت الحكومة غير قادرة عليه!
وهذا فيه هدم لكلي الشريعة؛ إذ الشريعة لا تكلف العبد ما لا يطيقه.
فكيف يكون الحكم غير المقدور عليه واجبا؟!
مع ما يترتب عليه من مفاسد كبرى ومآلية...
ومن كان يأمر بما لا يطاق ولا ينزل الحكم الخاص على الواقعة الخاصة كيف يسكت على اجتهاده ولا يبين خطأ مسلكه؟!!

ويجب أن يعلم أن بيان الحكم المطلق مع عجز الناس عن تطبيقه ليس هو من بيان الحق ولا الصدع به

أرأيتم لو إنسانا يصاب بالدوران والمشقة إذا صلى قائما..
أيصح أن يقال له: يجب عليك أن تصلي قائما؛ لأن هذا هو الحكم الشرعي ويجب بيانه، وأما العمل به والاستطاعة فشيء آخر!!
أرأيتم لو أن إنسانا اشتبه عليه ماء طاهر بماء نجس ولا يملك غيره..
أيصح أن يقال له: يجب عليك أن تتوضأ بالماء الطاهر!!
أرأيتم لو أن حكومة إسلامية ضعيفة ألزمها الكفار بدفع مال لها وإلا انقلبت أرضها جمرا..
أيصح أن يقال لها: يحرم عليك دفعه، ويجب عليك قتالها!!
أهذا من الصدع بالحق وبيان الحق وكلمة حق عند سلطان جائر!!!
عجب أمركم!!
الصدع بالحق ليس هذا بابه، بل هذا باب إفساد وفساد..
وما ضر الخوارج إلا أنهم أعملوا( لا حكم للرجال ولاحكم إلا لله)  في كل واقعة وإن اختلف المناط!!

إن الفقيه حقا من يعطي الحكم الخاص على الواقع الخاص ويراعي فيه مقاصد الشريعة, ولذا لم تشرع مخالفة اليهود في بداية ظهور الإسلام في المدينة للواقع الخاص..
فلما قوي أمر المسلمين أمر الله نبيه بمخالفتهم، فروعي في الواقع الخاص حكم خاص...
وانظر إلى فقه ابن تيمية رحمه الله عندما ذكر أن الحكم الشرعي لمن أقام عند الكفار وخشي على نفسه الضرر أو أراد دعوتهم أنه يلبس لباسهم ولا يتميز عنهم ولا يؤمر بمخالفتهم
فكان الحكم الشرعي خاصا لواقع خاص يتناسب مع الاستطاعة...
ولم يذكر الحكم العام وهو الأمر بمخالفتهم...
قال ابن تيمية في اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم (1/ 471) : "إن المخالفة لا تكون إلا مع ظهور الدين وعلوه، فلما كان المسلمون في أول الأمر ضعفاء لم تشرع المخالفة لهم، فلما كمل الدين وظهر وعلا شرع ذلك، ومثل ذلك اليوم لو أن المسلم بدار الحرب أو دار كفر غير حرب، لم يكن مأموراً بالمخالفة لهم في الهدي الظاهر لما عليه من ذلك من الضرر، بل قد يستحب للرجل أو يجب عليه أن يشاركهم أحياناً في هديهم الظاهر إذا كان في ذلك مصلحة دينية، من دعوتهم إلى الدين، والاطلاع على باطن أمورهم لإخبار المسلمين بذلك، أو دفع ضررهم عن المسلمين، ونحو ذلك من المقاصد الصالحة، فأما دار الإسلام والهجرة التي أعز الله فيها دينه، وجعل على الكافرين بها الصغار والجزية ففيها شرعت المخالفة، وإذا ظهر أن الموافقة والمخالفة لهم تختلف باختلاف الزمان والمكان، ظهرت حقيقة الأحاديث في هذا"
بل إن الجمود على الحكم المطلق المجرد دون مراعاة الواقع الخاص وعرفه ومناطاته: ضلال تصان عنه الشريعة،
وإذا أدى القول به إلى الحرج وإلى ما لا يستطاع فلا يمكن أن يكون هو الحكم الشرعي، فالشريعة جاءت لمصالح الناس في معاشهم ومعادهم...
قال الشاطبي في الموافقات (1/ 159): "إن الأصل إذا أدَّى القول بحمله على عمومه إلى الحرج أو إلى ما لا يمكن عقلاً أو شرعاً، فهو غير جار على استقامة ولا اطراد فلا يستمر بإطلاق"
ومنه ما قاله ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين ت مشهور (4/ 470):(والجمود على المنقولات أبداً ضلال في الدين، وجهل بمقاصد علماء المسلمين والسلف الماضين)
وقوله في إعلام الموقعين عن رب العالمين (1/ 52): وهذا محض الفقه ومن أفتى الناس بمجرد المنقول في الكتب على اختلاف عرفهم وعوائدهم وأزمنتهم وأمكنتهم وأحوالهم وقرائن أحوالهم، فقد ضل وأضل، وكانت جنايته على الدين أعظم ممَّن طبَّب الناس كلهم على اختلاف بلادهم وعوائدهم وأزمنتهم وطبائعهم بما في كتاب من كتب الطب على أبدانهم، بل هذا الطبيب الجاهل وهذا المفتي الجاهل أضر ما على أديان الناس وأبدانهم والله المستعان"
كذلك تصان الشريعة عن تنزيل حكم مطلق على واقعة مخصوصة فيؤول إلى مفسدة أكبر
كمن يأتي ويفتي الحكومة بعدم التعامل مع الكفار وأنها موالاة كفرية هكذا بإطلاق ولا يراعي ما تؤول إليه هذه الفتوى من سيطرة على بلاد المسلمين وسفك دمائهم..
أو يدندن حول خروج الناس إلى الميادين من غير أن ينظر للمآلات..
ولله در الشاطبي القائل في الموافقات (5/ 178) : "وقد يكون -أي الفعل- مشروعاً لمصلحة تنشأ عنه أو مفسدة تندفع به ولكن له مآل على خلاف ذلك، فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى مفسدة تساوي المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعاً من القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية فربما أدّى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية، وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق محمود الغب -أي العاقبة- جار على مقاصد الشريعة"
والكلام يطول...
وبهذا ندرك أنه ليس من بيان الحق والصدع به تنزيل حكم مطلق على واقع مخصوص يختلف مع مناطات الحكم المطلق
وأن هذا من العبث الذي تصان عنه الشريعة، ويؤدي إلى الحرج ومفاسد كبرى ...

ولنختم بفتوى الشيخ في إغلاق #الحقول_النفطية في ليبيا وأنها حرابة ويجب على الحكومة إيقفاهم ومقاتلتهم...

إذا نظرنا إلى الواقع وجدنا أن الحكومة عاجزة عن الذهاب للحقول النفطية للتصوير فيها فضلا عن أن تكون هي الآمرة الناهية, كما أن من أقفلها ليسوا مجرد نفر يريدون قطع الطريق والإفساد وإنما وراءهم دول كبرى تأمرهم وتنهاهم عبر نوابهم في البلاد.

والظاهر ممن تصدر مشهد الإقفال أنهم يطالبون بحقوق ويظنون أنهم على حق.

هذا جانب من الواقع...

وإذا تأملنا في فتوى الشيخ الصادق وجدنا أنه يكيف الفعل على أنه حرابة, ويأمر الدولة العاجزة عن قتالهم واسترداد الحقوق منهم!!

فبالله عليكم أتصح هذه الفتوى على هذا الواقع؟!!

أولا: إذا أهملنا النظر إلى الملابسات الدولية المتحكم الفعلي في النفط, واتجه نظرنا إلى أولئك الذين أغلقوا الحقول وخرجوا على الحكومة وجعلوه ورقة ضغط على الحكومة؛ ظنا منهم أنهم على حق, لكان الأقرب في التكييف أن يكونوا بغاة.

قال ابن رشد الجد في المقدمات الممهدات (3/ 236): (وأما من حارب على تأويل فقتل وأخذ المال مثل الحرورية والإباضية والقدرية وأهل الأهواء كلهم ثم أخذ ولم يتب فإنه لا يقام عليه حد الحرابة ولا يؤخذ منه ما أخذ من المال وإن كان موسرا إلا أن يوجد بيده شيء بعينه فيرد إلى ربه).

وجاء في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (4/ 177): (...وجنايات على الأموال، وهذه ما كان منها مأخوذا بحرب سمي حرابة إذا كان بغير تأويل، بتأويل سمي بغيا)
فمن ضوابط البغي أن يكون تأويلهم لأجل الدنيا
وتختلف أحكام البغاة عن أحكام المحاربين في جوانب, كما هو مدون في كتب الفقه ..

ثانيا: لو سلمنا أنهم محاربون, فإشكال فتوى الشيخ في إنزال الحكم المطلق وهو وجوب مقاتلتهم على الحكومة التي سلطتها التنفيذية محدودة.

والنظر الواقعي يثبت أن الحكومة لن تجرأ على هذا الفعل؛ لعجزهم وعدم إعطاء الدول الكبرى الإذن لهم.
ثم لو تجرأت وقاتلت لترتب على ذلك مفسدة كبرى وربما زوالها وتسليط من يرتضونه عليها ودخول البلاد في حرب.
ومما هو متقرر شرعا أن الله لا ينظر في الاستطاعة الشرعية إلى مجرد إمكان الفعل، بل ينظر  مع إمكان الفعل إلى عدم ترتب مفسدة راجحة عليه, وهذا مما رأيت الشيخ وفقه الله لا يراعيه في جملة من فتاويه.
فأي حكم هذا الذي يفتي به الشيخ وفقه الله وهو يعلم عدم إمكان وقوعه؟!!
ولو أمكن وقوعه لترتب عليه مفسدة راجحة؟!!

ثم لو أن الشيخ جلس مع الحكومة ونظر إلى ما يمكن فعله وما لا يمكن فعله وما يترتب على ما أمكن فعله من مصالح أو مفاسد ثم أصدر فتواه بناء على ذلك لما صح مني أن أتكلم, لكن ...

وليست إشكاليتي مع الشيخ في تصور الواقع وإنما في إنزال الحكم المطلق على هذا الواقع مع ما في الإنزال من التكليف بما ليس بممكن شرعا، وما فيه من حرج تأباه الشريعة
ويراه الأتباع صدعا بالحق ووقوفا ضد الحكومات !!
بل يرى الشيخ أن هذا من بيان الحكم الشرعي، ولا أدري كيف يكون بيانا للحكم الشرعي وهو يسأل عن حادثة خاصة لا عن حكم مطلق يبين فيه مسألة الحرابة وأحكامها ومن يقوم بها؟!!

وأنبه هنا إلى أن الحكومة إذا عجزت عن تنفيذ حكم مطلق لملابسات خاصة فإنها تكون معذورة, كما عذر  النبي صلى الله عليه وسلم النجاشي عن تطبيق الشريعة والحكم بها.
وعليها أن تبحث بالطرق التي لا يمنع منها الشرع عن كيفية الخروج من هذا الأمر.

وللأسف أن مثل هذا التأصيل لا يتوافق مع عاطفة كثير من الأتباع وممن تربى على الحماس العاطفي, فيتوهمون أن فيه إلغاء الجهاد وإلغاء أحكام الله والصدع بها ...
وعلى عاطفتهم هذه يكون إعذار النبي صلى الله عليه وسلم للنجاشي تضييعا لتحكيم الشريعة !!

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق