ما هي أصول الفكر الحركي ؟
عند الكلام عن هذا الفكر
لابد أن يلحظ القارئ أنه فكر تلفيقي, بمعنى أنه أخذ من السلفية شيئا وأخذ من
الإخوان شيئا آخر, فليست السلفية فيه متمحضة ولا الإخوانية القطبية فيه متمحضة,
وإنما مزج بين ابن تيمية وابن عبد الوهاب وبين سيد قطب.., فأخذوا من هذا جانبا ومن
هذا جانبا آخر, وقد وصفهم القرضاوي في كتابه أمتنا بين قرنين ص 74 بقوله: ( ومنهم
السلفيون الجدد الذين يسميهم بعض الناس السروريين, وهم الذين اهتموا بالجانب
السياسي مع الجانب العقدي ونقد الأوضاع العامة المحلية والدولية... وفيهم علماء
ودعاة لهم وزنهم مثل سلمان العودة وسفر الحوالي وعيض القرني)
وقد نشأ في بداياته في
السعودية كتنظيم ثم توسع كتيار وكون لنفسه رموزا... وأصبح له انتشار كبير في وقتنا
عبر مواقع التواصل الاجتماعي... وكثير ممن تحسن الظن بهم تجد مبتلين بشيء من هذا
الفكر قل أو كثر, لاسيما مع تعقيد أحداث الواقع وهيمنة الغرب...
وتوسع هذا الفكر كتيار
يضعف كونه تنظيما, بمعنى أن الرجل يكون على الفكر الصحوي –والذي يسميه البعض أيضا
بالتيار السروري- وإن لم ينطوي الرجل تحت تنظيم...حتى أن كثيرا ممن يحملون هذا
الفكر لم يشعروا بتميزهم عن غيرهم, ولا ضلوعهم في هذا الفكر, وقد أنشئوا في وقتنا
عدة روابط وهيئات تجمعهم ولبعضها مقرات في تركيا...
ويجمعهم في الجملة أمران:
موقفهم من الحكام والحاكمية(توحيد التشريع), وموقفهم من الجماعات الإسلامية (توحيد
الصف)
ولا يخفى أن هذين البابين
يشكل التحقيق فيهما على كثير من طلبة العلم؛ لتشعبهما وتداخل المسائل فيهما,
ولوجود مساحة لا إشكال في مشروعيتها, وإنما يقع الخلل في الزيادة أو النقصان لا في
الأصل.
وقد صور أصحاب هذا الفكر
أن مدرسة ابن باز والألباني والعثيمين مدرسة جامدة في باب السياسة والولاية, وأنها
تخضع للسلطة الحاكمة, وليس فيها حركة ولا إعداد للجهاد ولا نقد للسياسة, حتى قال
سلمان في الشريط الإسلامي ما له وما عليه: (ما هي قيمة العالم إذا لم يبين للناس
قضاياهم السياسية التي هي من اهم القضايا...), واتهموهم بالمداهنة والتلبيس.
وتجد من يحمل هذا الفكر قد
يوافقك في أغلب أبواب العقيدة, كما أن الخوارج الأُوَل والمعتزلة الأُوَل يوافقون
السلف في أغلب أبواب العقيدة وإنما إشكاليتهم في مسألة أو مسألتين,,,
وهذا تنبيه لبعض الإخوة
لما حذرت من المشاركة في البناء المنهجي ظن بعضهم أنه يلزم أن تكون جميع المقررات
مخالفة لعقيدة السلف, وهذا ليس بلازم...
ما موقفهم من الحكام
والحاكمية وما موقفهم من الجماعات؟
تميز الفكر الحركي بهذين
الأمرين, ففي باب السياسة والحكم ينطلق هذا الفكر من أن واجب العصر وأولى الأوليات
هي مسألة الحكام والحاكمية (توحيد التشريع), فأخذوا من سيد قطب مقولته في الحاكمية
وثوريته, ولا يُثبت هذا الفكر لحكام البلدان الإسلامية أي ولاية شرعية ولو في أدنى
صورها؛ بحجة استبدال الشريعة وعدم حراستهم لأصول الدين, ولذا تجد من أدبياته:
الثورية وتحريض الشعوب على حكامهم, والتصادم مع الحكام والإنكار العلني والتشهير,
ويسوغ كثير منهم الخروج إذا وجدت القدرة, ولا يراعون في إصلاحهم عدم المضرة
الراجحة, وقد استخدم أصحاب هذا الفكر مصطلحات التكفير
والولاء والبراء وإنكار المنكر والجهاد في غير محالها الشرعية, وجرؤا على العلماء
واتهموهم بعدم فقه الواقع وعدم الاهتمام بالتحليلات السياسية, وكانت منطلقات هذا
الفكر النظر إلى جور الحكام وبعدهم عن الدين وتسليط الضوء على أخطائهم وتحريك
عواطف الناس وتهييجهم؛ حتى قال عنهم
الألباني لما سئل عن كتاب الإرجاء لسفر الحوالي: ( بدا لي أن أسميهم: خارجية
عصرية,,,, وقال: إنهم خوارج إلا من بعض الجوانب)ويعني بذلك موافقتهم لهم في بعض
الجوانب.
وهنا قد يسأل سائل: لماذا
هذه الغلظة -كما يراها البعض- من الشيخ الألباني على أصحاب هذا الفكر؟ لماذا لم
يحتمل الخلاف معهم؟
كانت نظرة مشايخ أهل السنة
تنطلق من منع الفوضى في بلاد المسلين ودرء الفتنة الكبرى, وتنطلق من تحقيق مقصد
الشارع في استقرار الدول المسلمة ولو كان حكامها المسلمون بعيدين عن تطبيق جملة من
أحكام الشريعة, مرددين عبارة إمام أهل السنة أحمد بن حنبل لما
اجتمع عنده فقهاء بغداد يشتكون إليه فشو الجور وظهور الكفر وفرضه على الناس(
...عليكم بالنكرة بقلوبكم ولا تخلعوا يدا من طاعة ولا تشقوا عصا المسلمين ولا
تسفكوا #دماءكم ودماء المسلمين معكم انظروا في
عاقبة أمركم واصبروا؛ حتى يستريح بر أو يستراح من فاجر...)أ.ه, ـ وليس هو مجرد اجتهاد منه
بل قال: ( هو خلاف الآثار)
فلم يكونوا يسمحون بالقدر
الزائد على المطلوب شرعا من إنكار منكرات الحكام, فكان نظرهم لفقه الواقع بعيني
الشرع والقدر*
وقد جمعوا بين إنكار المنكرات من غير تأجيج وتهييج،
وبهذا حافظوا على الشريعة ونقائها, وبين الحفاظ على مصالح الأمة ولو في أدنى صورها
وبهذا درؤا الفتنة الكبرى عنها, فعدم التحريض يحفظ للأمة ضرورياتها, وهو خير من
إدخال الأمة في صراعات تذهب بالأخضر واليابس... قال ابن تيمة في منهاج
السنة النبوية (3/ 391): (فإن الحاكم إذا ولاه ذو الشوكة لا يمكن عزله إلا بفتنة،
ومتى كان السعي في عزله مفسدة أعظم من مفسدة بقائه، لم يجز الإتيان بأعظم الفسادين
لدفع أدناهما، وكذلك الإمام الأعظم).
هكذا كانت نظرة مشايخ أهل
السنة ومع ذلك لم يتركوا الحبل على الغارب للحكام, فضيقوا
أبوابا أخرى كباب الطاعة فلم يطيعوهم إلا فيما علموا أن الشريعة لا تنهى عنه,
ومنعوا من نفاذ تصرفات الحكام إلا إذا كانت مصلحة تصرفاتهم راجحة،
والذي خشي منه مشايخ أهل
السنة انطلاقهم من منطلقات الخوارج؛ إذ
كان مما قاله صالِحُ بنُ مُسَرَّحٍ الخارجي مخاطِبًا
جماعتَه: (ما أدري ما تنتَظِرون؟! حتَّى متى أنتم مُقيمون؟ هذا الجَورُ قد فشا،
وهذا العَدلُ قد عفا، ما تزدادُ هذه الوُلاةُ على النَّاسِ إلَّا غُلُوًّا
وعُتُوًّا وتباعُدًا عن الحَقِّ وجُرأةً على الرَّبِّ، فاستَعِدُّوا وابعَثوا إلى
إخوانِكم الذين يُريدون من إنكارِ الباطلِ والدُّعاءِ إلى الحَقِّ مِثلَ الذي
تُريدون، فيأتوكم فنلتَقيَ وننظُرَ فيما نحن صانِعون، وفي أيِّ وقتٍ إن خرَجْنا
نحن خارِجون) [682] ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (5/ 219)
فهذه المنطلقات هي التي يرددها من دخل عليه الفكر
الصحوي, وهذا مما حذر منه مشايخ اهل السنة, وكانوا يخشون أن يترتب عليه: تعطيل معايش الناس
ومصالحهم، وأن تثور ثائرة الفتن الثائرة، وتتفرق الآراء المتنافرة، ويفتح
الباب للمتربصين بإلغاء الاتفاقيات والعهود التي تلجأ إليها الدولة؛ لضعفها؛ فيلحق
بالمسلمين من المفاسد ما يفوق المصالح المرجوة ، فتنتفي عنهم أصل المصلحة وتضييع
الضرورات، ويكثر الهرج وتعم الفوضى، فلا يتمكن المسلم من إقامة دينه، ولا
يأمن على نفسه وعرضه وماله، والشريعة وُضعت لمصالح العباد بحسب مقتضى خطاب الشرع.
وقد شاهدنا البلدان التي لا يكون فيها حاكم يطاع
فإنه لا يقام فيها حق، ولا يأمن الناس على أنفسهم وأموالهم وأعراضهم، ويتسلط عليها
الكفار، وتتدخل الدول الكافرة في شؤونها وتحقق مخططاتها وتسيطر على ثرواتها، وتذكي
بينهم أسباب الفتن والقتل،
هكذا بنى مشايخ أهل السنة نظرتهم ومحاربتهم للفكر
الصحوي, ولم يستهدفوا دعاة الصحوة ورموزها ويضللوهم لأجل مصلحة الحكام ودعمهم
لذواتهم, وإنما ضللوهم لحفظ الأمة ورأس مالها وبقائها, ولم ينطلقوا من الولاء
المطلق للحكام و لا من طاعتهم طاعة مطلقة ولا من الدفاع عن مواقف الحكام وسياستهم,
كما يصوره خصومهم, فالهجوم على المخالفين منطلقه شرعي ديني, كما أمر الله سبحانه.
ومن مواطن الخلل في #الفكر_الحركي الصحوي والمسمى ب #السروري
وصف الشيخ #الألباني أصحاب الفكر الصحوي بأن مناهجهم مخالفة لما كان عليه السلف الصالح
ووصفهم الشيخ عبد المحسن العباد بأصحاب الفقه الجديد: فقه الانهماك في السياسة والأحداث السياسية، فقه واقع القصاصات من الصحف والمجلات وتبع الإذاعات الكافرة
لماذا؟
أولا هذا الفكر يدمج العقيدة بالسياسة، فلا تكتمل العقيدة إلا بإدخالها في الحياة في صورة الإلمام بالواقع السياسي المعاصر والاهتمام بقضايا الأمة
فلا تكتمل العقيدة إلا بالانطلاق من تحليل الواقع السياسي وواقع الحكام، وتسليط الضوء على مخالفاتهم الشرعية، والحاكمية
والاعتماد على ما ينشر عن طريق وكالات الأنباء العالمية، وتتبع المواقع
ولما سئل الشيخ الألباني عن هذه المصادر قال:( مزالق كلنا يعلم أنهم لا ينشرون على العالم الإسلامي إلا ما يكيدون به لهم، فكيف يكون هذا سببا لمعرفة الواقع؟!!)
ونتج عن هذا التحليل: مصادمتهم للحكام ونفي الولاية عنهم وتهييج الشعوب عليهم وتربية الشباب على الثورية
معرضين عن قاعدة الشريعة في الاعتناء بدرء المفاسد الكبرى
وعن فقه السلف في منع الفتنة العظمى
فقدم أصحاب هذا النظر: النظر للواقع السياسي وتحليله على ما يعلمون من طريق السلف ومنهجهم؛ بحجج واهية وإثبات فروق غير مؤثرة
وصدق فيهم قول حذيفة رضي الله عنه:( إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة أن يؤثروا ما يرون على ما يعلمون وأن يضلوا وهم لا يشعرون)
ولهذا قال مشايخ أهل السنة خالفوا ما عليه السلف وانهمكوا في السياسة...
ثانيا: جعلوا معرفة الواقع وتحليله هو المقيد لدلالة النص الشرعي وإطلاقه،
فجاؤوا إلى النصوص الشرعية المتواترة الآمرة بالصبر على جور الحاكم المسلم وأخرجوها عن دلالتها بحجة أنها نزلت في حكام السلف ولا تتناسب مع حكام عصرنا المسلمين الذي نصبهم الغرب الكافر، فقيدوا إطلاق النص الشرعي بواقع حكام السلف
وهذا مسلك بدعي، وتكلُّمٌ في النص الشرعي بغير الاجتهاد المسوغ له الكلام، وإهمال للنظر المقاصدي...
وأما في باب التعامل مع
الجماعات فتجد أنهم فتحوا باب الإعذار والتعاون على مصراعيه وهونوا من الخلافات
وبحثوا في القواسم المشتركة؛ بحجة أن المرحلة تقتضي توحيد الصف ونبذ الفرقة وإن لم
تتوحد الكلمة, تحت شعار مجاهدة الكفار والوقوف ضد غزوهم...
والإشكال أن أحمد السيد
وغيره, يعدون أنفسهم حسنة من حسنات رموز هذا الفكر, فأصبح هو وأمثاله يربي الشباب
على هذين الأصلين بطرق متنوعة وبعضها خفي, ولا يراعوا في إصلاح الأمة عدم المضرة
الراجحة؛ فخرج من تحت يديه من يحرض ويثور, ولا يراعي فتنة عامة ولا مفسدة عظمى,
فلم يراعوا في الإصلاح عدم المضرة الراجحة.
كتب د. أحمد محمد الصادق
النجار