لما كنت أقرأ كتاب العوني "الاستواء معلوم" كان ذهني منصرفا لمعرفة معنى التفويض الذي بنى عليه كتابه؛ حتى أفهم مراده, وكنت أحسب أنه قد خصص له مبحثا في بيان حقيقته
غير أني تفاجأت بغموضه وعدم تحريره, واضطرابه في تحديد المقصود من "التفويض في المعنى" الذي بنى عليه كتابه:
1-فمرة يجعل التفويض: عدم التفسير مطلقا, مع إثبات اللفظ المروي كما في حاشية ص 17 ويحكي الإجماع, وزعم أن "الإجراء على الظاهر" المقصود منه: تفويض المعنى بالتسليم للنص دون ادعاء معنى له كما في حاشية ص 32
2-ومرة يجعل التفويض: السكوت عن الكلام مطلقا في باب الأسماء والصفات؛ لأنه لا يمكن أن يكون معنى السكوت هو الكلام عن إثبات المعنى كما في ص 75
3-ومرة يجعل التفويض: عدم تعيين معنى مما يجوز على الله, كما نقله عن ابن العربي المالكي كما في ص 237
ومرة ومرة...
فهل التفويض عنده والذي يثبته مذهبا للسلف هو: إثبات اللفظ صفة مع عدم تفسيره مطلقا؟ أو السكوت مطلقا فلا يثبت اللفظ صفة ولا ينفيه؟ أو إثبات اللفظ وأن له معاني إلا أنه لا يُعَين أحدها؟
وهل هو في كل الصفات الموهمة للتشبيه عنده؟ أو هو في الصفات الخبرية فقط؟
وإذا قرأنا الفصل الذي خصصه في ذكر الأئمة الذين فهموا جواب الإمام مالك عن الاستواء بأنه تفويض المعنى
نجد أنه تارة يفسر التفويض بالأمر بالاكتفاء في الصفة برواية الحديث كما ورد بلا أي إضافة على لفظ الحديث كما في ص 88, وتارة يفسره بالاكتفاء باللفظ الوارد دون إضافة ما يزعم أنه معنى كما في ص 90, وتارة يجعل التفويض عدم التحديث بأحاديث الصفات؛ لأنها توهم التشبيه, وعدم التحديث بها يوجب عدم إعمال ظاهرها؛ فيكون نفيا لإثبات المعنى كما في تعليقه على كلام الأبهري ص 92, وتارة يجعل تفسير الاستواء بالعلو والفوقية من تفويض المعنى؛ لورود النص بلفظي العلو والفوق, فليس فيهما إثبات "فوق" و"الاستواء" الذي للمخلوق كما في تعليقه على كلام ابن أبي زيد ص 96, وتارة يحمل التفويض على الحقيقة التي لا تعلم كما في ص 111 , وتارة يجعل نفي التجسيم والمكان والتنقل والتحول وإشغال مكان مع إثبات لفظ الصفة هو تفويض المعنى كما في تعليقه على كلام القاضي عبد الوهاب في ص 144 فيجعل التفويض إثبات اللفظ مع النفي التفصيلي لما توهمه من كون ظاهرها يدل على التشبيه, ولذا وصف قول الداني واستواؤه: علوه بغير كيفية ولا تحديد ولا مجاورة ولا مماسة ) بأنه تفويض كامل كمت في حاشية ص 155
والذي خلصت إليه أن العوني يجعل كل من نفى المعنى المعين الذي يثبته ابن تيمية: مفوضا, ولو انتهى الأمر بهذا النافي إلى رد الأحاديث أو تأويلها, فتعجبت غاية العجب؛ لأنه من المعلوم أن رد الأحاديث أو تأويلها أمران يقابلان التفويض ويضادانه, فالتفويض ليس هو رد الأحاديث لكن لما كان رد الأحاديث يستلزم المعنى الذي يريد أن ينفيه العوني جعله تفويضا من هذه الجهة, وكذلك القول في التأويل, وهذا تلاعب بالمصطلحات لغرض إسقاط الخصم.
والغريب أنه يطوع كلام الأئمة ليجعله دالا على نفي المعين الذي يريد أن ينفيه وإن كان كلامهم لا يدل عليه...
ما المعنى الذي ينفيه العوني, وجعل كل من نفاه مفوضا؟
المعنى المنفي عند العوني هو القدر المشترك, فكل من ليس على رأي ابن تيمية في إثبات القدر المشترك جعله مفوضا في المعنى, وهذا المعنى الذي هو القدر المشترك يستلزم الكيفية المنفية عنده كما في ص 38,
ولذا جعل كل من نفى الظاهر الذي يلزم منه التجسيم على رأي العوني: مفوضا, وإن لم ينص على أنه يثبت اللفظ مجردا وينفي المعنى, قال العوني في ص 281: (وأي إثبات للمعنى يقتصر على ظاهر من اللفظ المشتبه هو عند العلماء تكييف), وقال في تعليقه على كلام البرزلي: ( أنه لا يوجد أحد من هؤلاء فهم كلام الإمام ملك على أنه يقصد إثبات معنى محدد للاستواء, وهو المعنى الذي يثبت قدرا مشتركا بين صفة الاستواء لله والاستواء للمخلوقين على ما يزعمه التيميون)
وهذا الذي جعله يحمل سؤال السائل للإمام مالك بأنه كان يسأل عن المعنى والذي سيكون إثباته إثباتا للكيفية كما في ص 39
ولما كان همه نفي القدر المشترك حمل كلام القرافي في تأويل الاستواء بالاستيلاء دون الجلوس ونحوه مما لا يكون إلا في الأجسام على أنه تفويض وزيادة, قال العوني: ( لكن يهمنا أن القرافي قد حمل جواب الإمام مالك في الاستواء إلى ما يزيد على تفويض المعنى بعدا عن الفهم التيمي) ص 278, فالتأويل يراه تفويضا وزيادة!!!!
وعندما قرأت كلامه في الملحق المتعلق بالقدر المشترك وجدت أنه يغاير بين صفات المعاني التي يثبتها متأخرو الأشاعرة كالحياة والعلم وبين الصفات الخبرية كالاستواء والوجه واليد, فالأولى يثبت لها قدرا مشتركا وهو المعنى الذهني الكلي الذي يؤخذ من دلالة اللغة المجردة عن معناها في المخلوقات, وأما الصفات الخبرية فيرى أن معناها الكلي لا يمكن أن يجرد عن المخلوقات, فالمعنى الكلي لليد لا يمكن أن يجرد عن كونه عضوا وجزءا هكذا زعم , وجعل نفي هذا المعنى هو التفويض, فإشكاليته في الصفات الخبرية..!!! فالعوني ينطلق من هذا التصور لإثبات التفويض مذهبا للسلف.
ومن المعلوم بضرورة اللغة والشرع والعقل أن الأسماء والصفات لم توضع لما يتميز به المخلوق لا عند الإطلاق ولا عند إضافتها لله , فلم توضع اليد لما هو من خصائص المخلوق.
فالشيئان إذا اشتركا في شيء لزم أن يشتركا في لوازمه من حيث هو، فإن ثبوت الملزوم يقتضي ثبوت اللازم، فأما ما ليس من لوازمه من حيث هو، فلا يجب اشتراكهما فيه, وليس من لوازم المعنى الكلي من حيث هو الإمكان والحدوث والآفات والنقائص، فإن ذلك من لوازم المخلوق المحدث.
فالنقص ليس لازمًا للصفة من جهة معناها العام , فما يتنزه عنه الرب من النقائص ليس من لوازم ما يختص به سبحانه، ولا من لوازم القدر المشترك الكلي المطلق أصلا، بل هو من خصائص المخلوقات الناقصة.
وقد فصلت ذلك في رسالة" نقض الشبهات المثارة حول القدر المشترك "ورابطها: https://t.me/dr_alnjar/3598
كتب د. أحمد محمد الصادق النجار
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق