السبت، 15 أكتوبر 2022

وقفة مع مقولة: الانشغال بالجزئيات وترك قضايا الأمة

 محاولة توجيه الدعاة وطلبة والعلم والعلماء إلى الانشغال بقضايا الأمة وما يتعلق بالشأن العام للدول وتعاملها مع الغرب

عن طريق لومهم وتسفيه خدمتهم للدين بتوضيح الجزئيات
وقول بعضهم: كلامهم في بدعة كذا وكذا أعظم من كلامهم في قضية كذا وكذا: أمر في غاية الخطورة؛ إذ الانشغال بالقضايا العامة يجب ألا يصدر إلا من أهله، ولا يصح فتح الباب فيه لكل عالم فضلا عن الدعاة وطلبة العلم؛ لما لهذه المسائل من خصوصية، فهي قائمة على نظر خاص متعلق بالموازنة بين المصالح والمفاسد، والذي يعتبر فيها إقامة الحياة الدنيا للآخرة، ولا مدخل فيها للأهواء في جلب المصالح ودفع المفاسد...
فتوجيه كل أحد للانشغال بها: ضرره أعظم من نفعه، ولهذا لما خاض في هذا الباب من لا يحسن دخل على الأمة فساد عظيم..
وإذا كان كثير من طلبة العلم غير متضلعين في أحد شرطي الاجتهاد وهو العلم التفصيلي بمقاصد الشريعة، -هذا العلم الذي يقوم عليه الكلام في الشأن العام وقضايا الأمة مع معرفة دقيقة بالواقع وتداخل المصالح والمفاسد فيه-
فكيف يطلب منهم الانشغال بقضايا الأمة؟!
وقد أثبت الواقع أن أكثر المنادين بهذا يتحركون في قضايا الأمة من العاطفة والحماس لا من التأصيل الشرعي المبني على معرفة الواقع والأمر بالواجب.

فإن قيل: ليس المقصود أن يكون لهم رأي في قضايا الأمة، وإنما المقصود ألا يشغلوا الأمة بالجزئيات عن قضاياها الكبرى.
قيل: إن كنت تقصد بالإشغال بالجزئيات: عدم الكلام عنها والسكوت عن بيان حكم ما دعت الحاجة إلى بيانه فهذا ينافي  العهد الذي أخذ الله على أهل العلم لتبيينه للناس ولا تكتمونه
ومن سئل عن علم فكتمه ألجمه الله بلجمام من النار، ولا فرق في ذلك بين بيان حكم جزئية أو حكم قضية.

وإن كنت تقصد بالإشغال: الكلام عن أمور انقضى وقتها فقد تطور الناس وصعدوا إلى القمر وأنتم مازلتم هذه سنة وهذه بدعة فهذا ينافي أصل الاستسلام لله والانقياد لأوامره، وصاحبه معرض إيمانه للبطلان.

وإن كنت تقصد بالإشغال: أن الكلام في الجزئيات يجر إلى تعصب كل متكلم إلى رأيه وتسفيه غيره واتهامه في دينه
فهنا ليس الإشكال في الكلام عن أحكام الجزئيات وإنما الإشكال في التعامل مع مسائل الخلاف، ولذا كان الواجب ترشيد الخلاف وبث فقه الخلاف لا ذم الكلام في المسائل الجزئية، وتصوير أن الكلام فيها إشغال للأمة عن قضاياها؛ حتى آل إلى إهمال شيء من الدين بدعوى أنه يقود إلى التعصب ...
والأدهى أن كثيرا من أصحاب هذه الدعوى هم من يشعلون فتيل الحرب، ثم يظهرون أنفسهم للناس بثوب الناصحين الحريصين على قضايا الأمة!!
نعم؛ لو ترجحت مفسدة الكلام على مصلحة السكوت لكان الواجب السكوت
لكن بيان الرجحان من المرجوحية يختلف من وقت إلى وقت ومن مكان إلى مكان، ويتعلق بنظر المجتهد.

وهناك إشكال أكبر وهو الخلط بين واجب الوقت المضيق الذي لا يسع غيره وبين واجب الوقت الموسع الذي يسع معه غيره ، فعند الخلط بين الواجبين يقع الالتباس.
فمثلا: عندما يهاجم العدو بلدا فهنا واجب الوقت في الجهاد ولا يسع غيره، ولن يلتف ملتفت إلى غيره أصلا، بل نجد أنه لا تأثير للعقائد المتناقضة والمذاهب المختلفة في منع أصحابها من الوقوف يدا واحدة ضد العدو؛ لما فطر الله عليه العباد من الانشغال بما مصلحته أعظم، فحفظ النفس هنا يقدمه كل عاقل على الاختلاف الدائر بينهم.

فإن قيل: أليس الاختلاف في الجزئيات يؤدي إلى الشقاق ويضعف الأمة أمام قضاياها؟
قيل: الذي يضعف الأمة أمام قضاياها بعدها عن الاعتصام بالكتاب والسنة وما كان عليه الجيل الأول، فعدم التفرق نتيجة الاعتصام بالكتاب والسنة قال تعالى:[واعتصموا بحبل الله جميعا ولا تفرقوا]
فالذي طلبه الله بالقصد الأول هو الاعتصام وبالقصد الثاني هو الاجتماع، فمن يغلب الاجتماع على الاعتصام خرج عن مقصد الله سبحانه
ولذا كان الواجب توحيد الصف الداخلي على الاعتصام بالكتاب والسنة؛ لتقف أمام التحديات ومكر العدو الخارجي
وكلما ابتعدت الأمة عن هدي الصحابة ابتعدت عن الانشغال بقضاياها
فهذه الحقيقة يجب أن ترسخ في القلوب، وأما رفع الشعارات والتباكي بلا أخذ بأسباب القوة والتمكين فهي مسكنات وخطوة لتسلط الأعداء.
نعم، تذكير الامة بقضاياها مهم، لكن لا يكون على حساب عدم الكلام في الجزئيات والتهوين منها.

فلا يمكن للأمة أن تهتم بقضاياها إذا لم تحسن التعامل في الخلافات بين أفرادها.

ثم إن المتكلم في هذه المسائل يجب أن ينظر إليها من جهة ما قصد الشارع المحافظة عليه من الضرورات والحاجيات والتحسينيات
فليس من الانشغال بقضايا الأمة هدم الدول وإثارة الفتن وتهييج الدهماء
ومن لم يلتفت إلى هذه الجهة فقد ناقض الشريعة فيما وضعت له
ويجب التنبه إلى أن المحافظة على الضروري أمر اعتبرته الشريعة
لكن المحافظة عليه يجب أن يكون بما لا يخل بالضروري نفسه أو بضروري آخر
فبأي شيء يحفظ الضروري هذا أمر لابد أن ينظر إليه من يتكلم في الدول وما أحدثته من إخلال ببعض الضرورات.

كتبه د. أحمد محمد الصادق النجار 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق