الأربعاء، 17 مايو 2023

هل الإفتاء بغير ما يراه المفتي صوابا من الغش والخيانة؟

 هل الإفتاء بغير ما يراه المفتي صوابا من الغش والخيانة؟


الواجب على المفتي أن يفتي بما يغلب على ظنه أنه مراد الله, وإلا كان غاشا, خائنا لله ورسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأنه أفتى الناس بما يغلب على ظنه أنه ليس هو حكم الله .

قال ابن القيم في إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 74): (ليحذر المفتي الذي يخاف مقامه بين يدي اللَّه سبحانه أن يفتي السائل بمذهبه الذي يقلده وهو يعلم أن مذهب غيره في تلك المسألة أرجح من مذهبه وأصح دليلًا فتحمله الرياسة على أن يقتحم الفتوى بما يغلب على ظنه أن الصواب في خلافه فيكون خائنًا للَّه ورسوله وللسائل وغاشًا له، واللَّه لا يهدي كيد الخائنين، وحرَّم الجنة على من لقيه وهو غاش للإسلام وأهله، والدين النصيحة، والغش مضادٌّ للدين كمضادة الكذب للصدق والباطل للحق، وكثيرًا ما ترد المسألة نعتقد فيها خلاف المذهب، فلا يسعنا أن نفتي بخلاف ما نعتقده)


والمفتي قد يسأله السائل عن رأي المذهب -وهو قليل ويغيب عن الذهن عند السؤال-، وقد يسأله عن اجتهاده, فإذا سأله عن المذهب فله أن يخبره بما في المذهب ثم يخبره بما يراه صوابا, وأما إذا سأله عن اجتهاده فليس له أن يخبره إلا بما يراه صوابا, ففي إعلام الموقعين عن رب العالمين (6/ 167): (وقد قال القفال: لو أدى اجتهادي إلى مذهب أبي حنيفة قلت: مذهب الشافعي كذا لكني أقول بمذهب أبي حنيفة؛ لأن السائل إنما يسألني عن مذهب الشافعي، فلا بد أن أعرِّفه أنَّ الذي أفتيتُه به غير مذهبه، فسألت شَيَخنا -قدَّس اللَّه روحه- عن ذلك فقال: أكثر المُستفتين لا يخطر بقلبه مذهب معين عند الواقعة التي يسأل عنها، وإنما سؤاله عن حكمها، وما يعمل به فيها، فلا يسع المفتي أن يفتيه بما يعتقد الصواب في خلافه).


ويزداد الأمر تغليظا إذا كان ما عليه المذهب مما يخالف الصواب عنده يوقع الناس في الضيق والحرج, فيخرج بالإفتاء به عن دلالة الدليل الجزئي في المسألة ويخرج أيضا عن دلالة الأدلة الكلية التي تدل على رفع الحرج والضيق.


نعم, إذا لم يغلب على ظن المفتي شيء فله أن يفتي الناس بمشهور المذهب بما لا يوقع في نقض أصل كلي ومقصد شرعي, والأولى له أن يتوقف.


هذا ما درج عليه الصحابة، والتابعون والأئمة الأربعة وغيرهم 

إلا أن البعض يستمسك بكلام المازري والشاطبي, وهو ما نقله الشاطبي في الموافقات (5/ 101) من قول المازري: (ولست ممن يحمل الناس على غير المعروف المشهور من مذهب مالك وأصحابه؛ لأن الورع قل، بل كاد يعدم، والتحفظ على الديانات كذلك، وكثرت الشهوات، وكثر من يدعي العلم ويتجاسر على الفتوى فيه، فلو فتح لهم باب في مخالفة المذهب؛ لاتسع الخرق على الراقع، وهتكوا حجاب هيبة المذهب، وهذا من المفسدات التي لا خفاء بها، ).

فعلق عليه الشاطبي بقوله: (فانظر كيف لم يستجز -وهو المتفق على إمامته- الفتوى بغير مشهور المذهب، ولا بغير ما يعرف منه بناء على قاعدة مصلحية ضرورية؛ إذ قل الورع والديانة من كثير ممن ينتصب لبث العلم والفتوى كما تقدم تمثيله؟ فلو فتح لهم هذا الباب لانحلت عرى المذهب، بل جميع المذاهب؛ لأن ما وجب للشيء وجب لمثله، وظهر أن تلك الضرورة التي ادعيت في السؤال ليست بضرورة).


فرأي هؤلاء العلماء هو خروج عن الأصل لمقتضى المصلحة في وقت ما، وهو اجتهاد في منع الإفتاء بما أدى إليه الاجتهاد، 

وعليه سؤال واعتراض وهو: إذا كان الإفتاء بخلاف المذهب ممنوعا لمقتضى المصلحة اجتهادا فكيف تمنعون الاجتهاد باجتهاد؟!! 

بمعنى كيف يمنع الاجتهاد بطريق الاجتهاد؟!


أما ما استندوا عليه من مصلحة

فمعلوم أن الشارع لم يغفل هذه المصلحة التي ذكرها الشاطبي وإنما سد الطرق المفضية إلى نقضها بالترهيب من الإفتاء بغير علم, والافتراء على الله, والتحذير من تتبع الرخص, 

ولم يسدها بمنع الإفتاء بخلاف المذهب!!!

ولذا رأى السلف وكثير من الأئمة أن ما يد به الشرع المفسدة يغني عن قطع باب الاجتهاد وعن المنع من الإفتاء بما يغلب على الظن صوابه وإن خالف المذهب.

فالشرع لما أمر المفتي أن يتبع الكتاب والسنة والإفتاء بهما سد كل طريق يفضي إلى غير مراد الله بالترهيب والتحذير والوعيد؛ مما أغنى عن تقييد الدليل وتخصيصه.

كيف وأن التقييد بالمذهب أو المشهور منه جر إلى مفاسد كاعتقاد صواب ما في المذهب دون غيره, وإلى فساد قول الخارج عنه, وأن المفتى بخلاف المذهب يستحق العقوبة, وجر أيضا إلى إماتة روح الاجتهاد عند بعضهم, وإلى اعتبار أن الأدلة المخالفة لمشهور المذهب إنما تقرأ تبركا؟!!

فكان المنع من الإفتاء بخلاف المذهب مفاسده أعظم من المصالح المرجوة...


ثم إذا جوزوا الاستدلال بالضعيف والشاذ للمصلحة والضرورة وراعوا الخلاف مع أنه خلاف الصواب في نظره 

فتجويز إفتاء المفتي بما غلب على ظنه صوابه أولى وأوجب.


كتبه: د. أحمد محمد الصادق النجار

أستاذ مساعد بكلية علوم الشريعة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق