الخميس، 2 يوليو 2015

ملحوظات على رسالة:" مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الأصولية نقد وتقويم"

ملحوظات على رسالة:" مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين
للمذاهب الأصولية
نقد وتقويم"

قرأت رسالة صغيرة بعنوان:"مصطلحات ابن خلدون والمعاصرين للمذاهب الأصولية, نقد وتقويم"
فكانت فكرتها تقوم على نقد ما ذكره ابن خلدون من تقسيم مذاهب الأصوليين إلى: مذهب المتكلمين, والفقهاء, ومن جمع بين الطريقتين.
وقد اشتملت هذه الرسالة على نفي لبعض الحقائق العلمية, فرأيت أن أكتب أجوبة مختصرة عليها.
وجعلتُ جُلَّ اهتمامي في مناقشة ما كان متعلقا بطريقة المتكلمين, وعلم الكلام, وتصفية الأصول من الدخيل؛ لما لذلك من أثر بالغ, فقد زلت فيه أقدامٌ من بعض من ينتسب للسنة, فضلا عن غيرهم.
وأول نقدٍ للمصنف على ابن خلدون في هذه الرسالة انصبَّ على أن كتب الأصوليين تقسِّم المذاهب على حسب أربابها: (الحنفية – المالكية –الشافعية- الحنابلة)
وذكر أن كثيرا ما يعطفونها على المتكلمين, وربما عطفوا الفقهاء على الحنفية.
وأبدأ الآن في ذكر الملحوظات مراعيا في ترتيبها ذكرها في الرسالة:
الملحوظة الأولى: كون كتب الأصوليين تنسب المذاهب إلى أصحابها من الأئمة الأربعة.
والجواب: أن هذه الحقيقة لا إشكال فيها, فهي نسبة لمن تبنى هذه المسألة الأصولية من أصحاب المذاهب الأربعة.
وقد يكون الأمام نفسه قال بها, أو خُرجت على أصوله, فهي لا تعدوا أن تكون نسبة للمسألة الأصولية نفسها, لا نسبة للطريقة والمنهج.
وهذا واضح بيِّنٌ لكل من تأمله.
وأما نسبة ابن خلدون للمتكلمين أو الفقهاء فهي على جهتين:
الأولى: طريقة التأليف, فللمتكلمين طريقة سلكها جماعة من أصحاب المذاهب الأربعة, فوصف المالكية مثلا بالمتكلمين لا يعني ذلك أن الإمام مالك سار على طريقة المتكلمين, وإنما سلكها جماعة انتسبوا إليه ممن تأثروا بعلم الكلام, أو كانوا رأسا فيه , كالباقلاني, والقرافي, وغيرهما
وقُل مثل ذلك في الشافعية, والحنابلة.
وأعظم ما يوضح ذلك طريقة الشافعي في الرسالة وطريقة من انتسب للشافعي في كتبهم الأصولية.
وهذا الوصف من ابن خلدون وصف حقيقي لما في نفس الأمر, وإن كان الأصوليون المتكلمون لا يرونه ذما, ولا يرون أنه مناف لما عليه أئمتهم, وهو في الحقيقة مخالف لما عليه أئمتهم.
الثانية: اعتقاد المؤلفين, فقد غلب على المؤلفين في أصول الفقه أهل الكلام, وبسبب الكلام وأهله أُدخل في الأصول ما ليس منه, فيكون وصف المتكلمين بالنسبة لما عليه المؤلفون من اعتقاد.
هذا فيما يتعلق بالمتكلمين.
وكذلك الفقهاء نسبة لما كانوا عليه من اعتماد فروع الحنفية التي كانت في مقابل طريقة المتكلمين, وهو مجرد اصطلاح.
الملحوظة الثانية: ما ذكره المصنف من عطف المتكلمين على أصحاب المذاهب, وربما عطف الفقهاء على الحنفية.
يجاب عنه: أن الواقع في كتب الأصوليين أنهم يذكرون المتكلمين تارة من غير عطف, وتارة يذكرونهم بالعطف.
فيذكرونهم بدون عطف إذا كانت المسألة عقدية مدخولة في الأصول, أو كانت المسألة الأصولية ترجع إلى مسألة عقدية, أو كانت مسألة نظرية ,كقولهم في حد النظر, ونحوه.
ومن الأمثلة ما يأتي:
قال القاضي الباقلاني كما في التلخيص : (( وما صار إليه جماهير المتكلمين أنه لم يكن قبل المبعث متعبدا بشيء قطعا ))
وقال الآمدي في الإحكام: (( وأما النظر فإنه قد يطلق في اللغة بمعنى الانتظار وبمعنى الرؤية بالعين والرأفة والرحمة والمقابلة والتفكر والاعتبار
وهذا الاعتبار الأخير هو بالمسمى بالنظر في عرف المتكلمين ))
وقال الآمدي: (( وذهبت البهشمية وجماعة من المتكلمين إلى أن ذلك من وضع أرباب اللغات واصطلاحهم))
وأحيانا ينصون على مرادهم بالمتكلمين.
قال القاضي عبد الوهاب في الملخص هو: (( قول المتكلمين منهم الأشعري ))
وقال التاج السبكي في الإبهاج: (( وجمهور المتكلمين من الأشعرية ومن المعتزلة ..))
وأما عطف المتكلمين على الأئمة فراجع في الجملة إلى أمور:
الأول: أن المسألة تكون كلامية -أو بعبارة أعم مدخولة - فينسبونها للمتكلمين دون غيرهم, أو يغايرون بين المتكلمين وبعض الأئمة.
الثاني: أن الناقل إذا كان أشعريا فإنه يقصد في الغالب بالمتكلمين المعتزلة ومن لم يكن أشعريا, فيعطفهم على أرباب المذاهب؛ لكونهم غير مشتغليم بالفقه.
ولهذا أمثلة:
قال الغزالي في المستصفى: (( شبه المخالفين الصائرين إلى أنه للندب وقد ذهب إليه كثير من المتكلمين وهم المعتزلة ))
وإذا أرادوا الأشاعرة كأبي الحسن والباقلاني فإنهم ينصون عليهم.
قال الغزالي في المستصفى: (( وقال جماعة من المتكلمين ومنهم القاضي ))
قال التاج السبكي في الإبهاج: (( وهو مذهب جمهور المتكلمين منا كالشيخ أبي الحسن والقاضي أبي بكر والغزالي ))
وجاء في البحر المحيط في أصول الفقه: (( فهذا الثاني قول من قال كل مجتهد مصيب وهو مذهب جمهور المتكلمين كالشيخ أبي الحسن الأشعري والقاضي والغزالي والمعتزلة كأبي الهذيل وأبي علي وأبي هاشم وأتباعهم ونقل عن الشافعي وأبي حنيفة والمشهور عنهما خلافه ))
والخلاصة أنهم يريدون بالمتكلمين من غلب عليه الاشتغال بالكلام دون الفقه, أو كانت المسألة عقدية, أو أصلها عقدي, ولهذا يعطفونهم على أصحاب المذاهب.
وإن كان هؤلاء المتكلمون ينتسبون لأحد المذاهب, إلا أن الناقل يميزهم باعتبار معين.
وقد حاول الشيرازي في شرح اللمع أن يميز بين ما ذهب إليه المتكلمون وما ذهب إليه الشافعي, إلا أنه لما كان متكلما أشعريا لم يسلم من الوقوع في ضلال الأشاعرة.
وقد استخرجتُ هذه المخالفات العقدية في رسالة, ستطبع قريبا بإذن الله.
وأما مصطلح الفقهاء فيطلقه الأصوليون في مقابل المتكلمين, ولا يعني ذلك أن هذا المصطلح محصور فيه, وإنما لأن طريقتهم مغايرة في الأصول لطريقة المتكلمين.
والمسألة التي تنسب للحنفية قد يوافقهم فيها غيرهم من الفقهاء.
وإن كان الأسلم أن تنسب هذه الطريقة للفقهاء, لا للحنفية؛ إذ إن الحنفية يعبرون في كتبهم الأصولية عن أنفسهم بأصحابنا, ونحوها.
ثم إن الأصوليين قد يطلقون الفقهاء على ما هو أعم من الحنفية.
قال الجويني في التلخيص في أصول الفقه: (( فذهب كثير من الفقهاء من أصحاب الشافعي ومالك وأبي حنيفة رحمهم الله وطائفة من المتكلمين ))
قال الآمدي: (( وأجاز ذلك جمهور المتكلمين من الأشاعرة والمعتزلة ومن الفقهاء مالك وأصحاب أبي حنيفة وابن سريج ))
وجاء في البحر المحيط في أصول الفقه: (( ونقله ابن برهان عن كافة الفقهاء منا ومن الحنفية ونقل عن المتكلمين منا ومن المعتزلة ))
الملحوظة الثالثة: وقع في هذه الرسالة خلط بين مذهب أهل الحديث في الأصول ومذهب المتكلمين؛ للخلط بين هذين المصطلحين؛ حتى زُعِم في الرسالة أن أهل الحديث منهم متكلمون.
والجواب:
أن أهل الحديث المحض ليسوا أهل الكلام, ولا منهم أحد من أهل الكلام.
وقد قال الإمام أحمد عن الفرقة الناجية: (( إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم؟))
فأهل الحديث هم الفرقة الناجية, والطائفة المنصورة, أتباع النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه, لا يلتفتون على الأهواء والبدع التي منها علم الكلام.
قال الخطيب البغدادي في شرف أهل الحديث: (( وكل فئة تتحيز إلى هوى ترجع إليه، أو تستحسن رأيا تعكف عليه، سوى أصحاب الحديث، فإن الكتاب عدتهم، والسنة حجتهم، والرسول فئتهم، وإليه نسبتهم، لا يعرجون على الأهواء، ولا يلتفتون إلى الآراء ...))
وهم متفقون في أصول الدين, قال ابن تيمية في الدرء: (( فإن أئمة السنة والحديث لم يختلفوا في شيء من أصول دينهم ))
وكون بعض المتكلمين اشتغل بعلم الحديث صناعة لا يدل ذلك على أنه سليم العقيدة, وأنه من أهل الحديث المحض.
قال ابن تيمية في مجموع الفتاوى: (( ونحن لا نعني بأهل الحديث المقتصرين على سماعه أو كتابته أو روايته, بل نعني بهم : كل من كان أحق بحفظه ومعرفته وفهمه ظاهرا وباطنا واتباعه باطنا وظاهرا, وكذلك أهل القرآن ))
وليس هناك مَن فرَّق -من أهل السنة المحققين- بين المتكلمين؛ فوصفهم تارة بأهل الحديث, وتارة بالمتكلمين, لكن ينبغي مراعاة أمر وهو: أن بعض المتكلمين قد ينسب للحديث باعتبار الفن الذي اشتغل به, لا أنه من أهل الحديث عقيدة, كما ينسب للفقه لكونه مشتغلا به.
وقد ينتسب هو لأهل الحديث, ولا يلزم أن تكون نسبته إليهم صحيحة.
قال ابن تيمية في الدرء عن بعض المتكلمين: (( ومن هؤلاء من ينتسب إلى أهل السنة والحديث إلى الإمام أحمد وغيره من أئمة السنة ))
وقال في الدرء: (( وهذا قول ابن حزم وأمثاله ممن وافقوا الجهمية على نفي الصفات وإن كانوا منتسبين إلى الحديث والسنة ))
الملحوظة الرابعة: زُعم في هذه الرسالة أن الاستقراء الكامل والناقص معدومان فيما زعمه ابن خلدون من تقسيم المذاهب؛ لأنه قام على أربعة أو خمسة كتب, ووُصِف بأنه استقراء مريض.
وأن كتب الجمهور جاوزت المائة وكثير من مؤلفيها لم يكونوا يوما من أهل الكلام.
ومثل بـ: القياس للمزني, والدلائل للصيرفي ...
ومما مثل به: كتب أبي إسحاق الشيرازي, والقاضي عبد الوهاب, والباجي, وغيرهم
حتى زعم في الرسالة أن أكابر أصوليي الشافعية والمالكية لم يكونوا من أهل الكلام.
والجواب:
أن من نظر في كتب الأصوليين يجدها على ما وصفها ابن خلدون, والكتب الأربعة التي ذكرها, وزد عليها: التقريب والإرشاد للباقلاني هي عمدة من جاء بعدهم, وما هي إلا أمثلة على غيرها في كونها مليئة بعلم الكلام.
قال القرافي في نفائس الأصول عن محصول الرازي: (( وأفضل كتب المعتزلة، " البرهان "
و" المستصفى " للسنة – [أي: الأشاعرة؛ لأنه أشعري]، و" المعتمد " و" شرح العمد " للمعتزلة، فهذه الأربعة هي أصله ))
فهذه الكتب عمدة من جاء بعدهم.
وكل من عرف علم الكلام, وأصول الفرق المنحرفة جزم بأنه لا يكاد يخلو كتاب أصولي عن مخالفة عقدية اللهم إلا ما كتبه قلة من الأصوليين الأوائل.
بل حتى ما كتبه بعض أهل السنة في الأصول لم يسلم الكتاب من الوقوع في المخالفات العقدية, كالروضة مثلا:
ومن الأمثلة:
ما جاء في الروضة: (( ولأنه قد ثبت أن كلام الله قديم وصفة من صفاته لم يزل آمرا ناهيا ))
وأما ما كتبه أرباب الكلام فهي مليئة بالمخالفات العقدية, لكن لا يقف عليها إلا من كان متضلعا في باب الاعتقاد عارفا بأصول القوم وشبههم.
وبعض ما مُثل به في هذه الرسالة على أنها كتب ليست لأهل الكلام, ككتب الشيرازي, والقاضي عبد الوهاب, هي كتب للمتكلمين, فهؤلاء أشاعرة.
فعدُّ المصنف كتبا لأهل السنة وهي ليست لأهل السنة يدل على أن استقراء المصنف ليس بصحيح, وأن دعوى أن مئات الكتب أربابها ليسو من أهل الكلام دعوى ليست صحيحة, بل مئات الكتب أصحابها متكلمون, خصوصا بعد نضوج العلم واستقراره.
ويدل على أشعرية القاضي عبد الوهاب والشيرازي: ما كتبوه في باب الاعتقاد وما تضمنته كتبهم الأصولية, فالشيرازي ألف عقيدة على مذهب الأشاعرة, وكذا القاضي عبد الوهاب فقد شرح مقدمة الرسالة لابن أبي زيد وأثبت فيها دليل الأعراض, ونحو ذلك.
وما زُعِم من أن أكابر أصوليي الشافعية والمالكية لم يكونوا من أهل الكلام, ليس بسديد؛ فالقاضي عبد الوهاب أشعري, والباقلاني أشعري, والاسفراييني, والشيرازي, والجويني, والغزالي, كلهم أشاعرة.
الملحوظة الخامسة: ذكر صاحب هذه الرسالة أثر هذا التقسيم في الدعوة إلى تصفية أصول الفقه من مسائل علم الكلام, والمطالبة بإعادة كتابة أصول الفقه على وفق منهج أهل السنة.
واحتج بأنه لا يسمع بهذه الدعوات في الفقه, وشروح الحديث, وكتب التفاسير مع أنه علق فيها علم الكلام.
والجواب:
أنه إذا صح التأثير صح الأثر, والتأثير هنا صحيح, فكتب الأصول تأثرت بعلم الكلام, فهي مليئة بالمخالفات العقدية, وطريقة المتكلمين في الأصول جرت إلى الانحراف به عن المقصود منه, كما جعلت كتب الأصول أشبه بأن تكون مسائل كلامية عقلية نظرية معقدة, وإن اشتملت على جزء يسير من المسائل الأصولية التي تحتها ثمرة عملية.
وأما أنه لا يسمع بهذه الدعوات في الفقه ...,؛ فليس حجة إن صح, وكما يطالب بتصفية أصول الفقه من الدخيل يطالب أيضا بذلك في كل فن, أو كتاب دخل فيه علم الكلام.
وهذا يعود إلى أصل, وهو: العودة بالعلوم على ما كان عليه السلف الصالح, الذين عصمهم الله في الجملة من اعتقاد فاسد.
فالسلف لم يعرفوا علم الكلام, ولم يخطر ببالهم, ومع ذلك علومهم صحيحة, فنريد أن نرجع إلى ما كانوا عليه.
الملحوظة السادسة: من معضلات هذه الرسالة التفريق بين مطلق الكلام وعلم الكلام المذموم.
وأن علم الكلام الذي ذمه السلف هو المخالف للمنقول, والذي اتخذه أهل الكلام ذريعة لنفي الصفات.
واحتج على هذا بكتاب الرد على الزنادقة للإمام أحمد فيما نقله
واحتج أيضا بكلام ابن تيمية في جواز استعمال مصطلحات المتكلمين
وخرج بنتيجة وهي: أن علم الكلام كمصطلح لا يستلزم مدحا ولا ذما, وإنما المعلوم منه هو الممدوح أو المذموم.
والجواب:
حصل خلط في هذه الرسالة بين علم الكلام واستعمال الأدلة العقلية التابعة للنقل, فاستعمال الأدلة العقلية الصريحة ليس من علم الكلام في شيء, وقد اشتملت عليه نصوص الكتاب والسنة.
ففي القرآن أدلة عقلية وكذلك السنة, أفيجرؤا أحد أن يقول: قد اشتمل القرآن على علم الكلام المحمود؟
ثم إن الأدلة العقلية الصحيحة متقدمة على علم الكلام.
وأما الإمام أحمد في كتابه الرد على الزنادقة فقد استعمل الأدلة العقلية التابعة للنقل, لا علم الكلام, وشتان بينهما.
قال إمام أهل السنة أحمد بن حنبل: (( لست بصاحب كلام, ولا أرى الكلام في شيء من هذا؛ إلا ما كان في كتاب الله أو في حديث رسول الله فأما غير ذلك؛ فإنَّ الكلام فيه غير محمود ))
وقد ذم السلف علم الكلام مطلقا بلا تفصيل؛ لأن علم الكلام يعتمد على قضايا أُخذت من فلاسفة أهل اليونان وهي تستلزم رد كثير مما جاءت به السنة, مع ضعفها في نفسها.
وقد اشتمل على قضايا وهمية, كالجوهر الفرد, والتركيب, إلى غير ذلك.
وقد قال التفتازاني في تعريفه: (( الكلام, هو: العلم بالعقائد الدينية عن الأدلة اليقينية ))
فهذا العلم يبحث ابتداء في مسألتين حادثتين, مخالفتين للفطرة والشرع, وهما: إثبات الصانع, وإثبات حدوث الحوادث.
هذا هو علم الكلام لا القضايا العقلية التابعة للنقل.
وقد حكي الإجماع على ذم أهل الكلام, ومن اشتغل به؛ قال ابن عبد البر في الجامع: (( أجمع أهل الفقه والآثار من جميع الأمصار أن أهل الكلام أهل بدع وزيغ ولا يعدون عند الجميع في طبقات الفقهاء، وإنما العلماء أهل الأثر والتفقه فيه ويتفاضلون فيه بالإتقان والميز والفهم ))
وأما ابن تيمية فقد جوز استعمال المصطلحات الكلامية عند الحاجة, ومع قوم لا يمكن مخاطبتهم إلا بها, وفي مقام المناظرة, فهذه تقييدات أغفلتها هذه الرسالة.
قال ابن تيمية في المنهاج: (( وأمَّا الألفَاظُ التي تَنَازَعَ فِيهَا مَن ابتَدَعَهَا مِن المتأَخِّرين, مِثْل: لَفْظِ الجسْمِ, والجوهَرِ, والمتَحَيِّز, والجهَةِ, ونحو ذلك فَلا تُطْلَقُ نَفْيا ولا إثْبَاتا حَتَّى يَنظُرَ في مَقصُودِ قَائِلِها, فَإنْ كانَ قَد أَرَادَ بِالنَّفْيِ والإثبَاتِ معنى صَحِيحا مُوَافِقا لما أَخبَرَ بِهِ الرَّسُولُ صُوِّبَ المعنى الذي قَصَدَهُ بلَفظِهِ, ولكن يَنبَغِي أَنْ يُعَبَّر عنه بألفَاظِ النصُوصِ, لا يُعْدَلُ إلى هذه الألفَاظِ المبتَدَعَةِ المجمَلَةِ إلا عند الحاجَةِ مَعَ قَرَائِنَ تُبَيِّنُ المراد بها, والحاجَةُ مثل أَنْ يَكُونَ الخطَابُ مَعَ من لا يَتِمُّ المقصُودُ معه إن لم يخاطَبْ بها )).
الملحوظة السابعة: خُتمت هذه الرسالة بأمر في غاية الخطورة, وهو: أن علم الكلام الموافق للمنقول والمعقول وجوده في أصول الفقه أصبح ضرورة.
وفسرت الضرورة بـ: أن المعتزلة دسوا أصول الاعتزال في كتب الأصول فجاء الأشاعرة وردوا فأصابوا وأخطئوا, وأن بقية الاعتزال التي بقيت فيهم جاء أمثال أبي إسحاق الشيرازي, والسرخسي, والسمعاني, وابن قدامة فتصدوا لها, وكذاك ابن تيمية
وأن الدعوة لتصفية أصول الفقه وإعادة كتابته على وفق منهج أهل السنة قد تتضمن ازدراء السلف, والله عصم الأمة من عدم التنبه للحق, أو السكوت على الباطل, وهذه الدعوة لم يسمع بها من قبل.
والجواب:
أنه لا ضرورة في علم الكلام -وقد عرفنا سابقا حقيقته -, كيف وهو يجر إلى الكلام عن أمور مقدرة لا حقيقة لها, بل يجر إلى الكلام عن أمور باطلة مخالفة للفطرة والشرع والعقل.
ومن قرأ كتب الأصول اتضح له ذلك جليا, فالمسائل النظرية المقدرة كثيرة, والمخالفات العقدية أكثر.
كل ذلك نتيجة علم الكلام, فأي ضرورة في وجود علم الكلام في الأصول؟
قال ابن تيمية في المجموع: ((فإن هؤلاء المتكلمين لو كان ما يقولونه حقا فهو قليل المنفعة أو عديمها؛ إذ كان تكلُّما في أدلة مقدرة في الأذهان, لا تحقق لها في الأعيان, فكيف وأكثر ما يتكلمون به من هذه المقدرات فهو كلام باطل)).
أضف على ذلك: أن من كتب الأصوليين ما بنيت على أصول فلسفية, ككتب الرازي؛ قال ابن تيمية: (( ... حتى إن من له مادة فلسفية من متكلمة المسلمين - كابن الخطيب وغيره - يتكلمون في أصول الفقه الذي هو علم إسلامي محض ؛ فيبنونه على تلك الأصول الفلسفية ))
ثم إن الكلام في هذه الرسالة فيه تناقض؛ ذلك أنه اشتُرط في بداية هذا المقطع أن يكون الكلام موافقا للمنقول ثم جعل من ضرورات وجوده ما رده الأشاعرة على ما أحدثه المعتزلة, فيكون كلام الأشاعرة وجوده ضروريا, والأشاعرة في ردهم استعملوا أصولا فاسدة, وعقائد باطلة.
ثم إذا كانت كتب الأصول مشتملة على ضلال المعتزلة والأشاعرة ألا تكون المطالبة بكتابة أصول فقه نقي متعينة؟
وليس في هذه المطالبة ازدراء للسلف, بل فيها إرجاع للأصول على ما كان عليه السلف؟
والسلف قد نبهوا ولم يسكتوا, كما أن الأئمة قد طالبوا بتصفية الأصول من الدخيل, وأن المتكلمين ليسوا أهلا للكتابة في أصول الفقه.
قال ابن تيمية في المجموع: (( من بنى الكلام في العلم، والأصول، والفروع، على الكتاب، والسنة، والآثار المأثورة عن السابقين، فقد أصاب طريق النبوة )).
بل حتى بعض الأشاعرة يرون تصفية الأصول مما لا منفعة له في الفقه؛ قال المازري في إيضاح المحصول عند كلامه عن مسألة الأمر بالشيء نهي عن ضده: (( فاعلم أن المطلوب من أصول الفقه الانتفاع بها في الأحكام الشرعية والمسائل الفقهية. وما لا منفعة فيه في الفقه فلا معنى لعده من أصوله ))
أكتفي بهذا القدر, وقد كتبته على عجل, والله أعلم, وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم
كتبه أحمد محمد الصادق النجار

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق